هو الوجه، لأنّنا نواجه به ونشْخص للناس والوجود. هو "أل" التعريف للكائن البشري، فكيف ننكره ونحجبه؟ اعتبر روجر سكروتون في كتابه "الجمال" أن الوجه هو المعبّر عن فرادة الكائن البشري: "يمتاز البشر بقدرتهم على الكشف عن تفردهم من خلال تعبيرات وجوههم". فإلغاء الوجه من وجهة نظر سكروتون، يعني أن يفقد الشخص فرادته التي تميّزه عن غيره من البشر.
في رواية وليد علاء الدين الجديدة "الغُمّيضة" الصادرة عن دار الشروق لعام 2020 يبدأها بإهداء: "إلى وجه الإنسان. وهل هناك غيره!". هناك دعوة لنزع الأقنعة مهما كانت، والعودة إلى الطفل الذي يستطيع أن يلتقط من تعبيرات وجه أمه كل العواطف والانفعالات، قبل أن يعرف النطق وتفسير الكلام. هكذا هو الوجه لغة قبل لغة الأحرف. وكأنه العناصر الأربعة التي يتألّف منها كوننا وجسدنا، فأي حجب له يقود إلى عالم الزيف والخداع.
وإذ اعتبر لاكان مرحلة المرآة مؤسسة للذات الطفل، بها يدرك ذاته وغيره. إلا أنّ المرآة آلة حديثة العهد، فالطفل كان قبل ذلك يدرك ذاته وانفعالاته وعواطفه كذلك إدراكه للآخرين عبر وجههم وهم يتعرّفون على احتياجاته وآلامه وأفراحه من خلال وجهه. إنّ أي خلل في هذه العلاقة سيؤدي إلى تشوّه الفهم، وتحوّل الوجه إلى مرآة مكسورة، لا تعكس حقيقة مضامين من يتمرأون فيه.
من هذا المنطلق، نفهم لماذا اختار وليد علاء الدين، أن يكون الطفلان أهم شخصيتين في الراوية، وذلك لأن شهادتيهما وردود أفعالهما من الصدق بمكان، فهما لم يدخلا عصر الأقنعة بعد. يلتقي الطفلان، بنت وصبي، في سوق للألعاب، وكالبداهة يصبحان صديقين. ولأنّ عالم الطفل هو عالم اللعب ومن خلاله يكتشف الكون، يبدأ الطفلان بلعبة الغمّيضة، وعندما يختبئ الولد بقناع البلياتشو، لا تعثر عليه الطفلة وترتعب من رؤية القناع، بالرغم من أن الطفل قد أخبرها بأنه المختبئ خلف القناع، لا أحد آخر. تخبره الطفلة بأنها تخاف من الأقنعة، ولكي تجعله يدرك ذلك تختفي خلف خمار، فلا يجدها الطفل مع أنه مرّ قربها مراراً، ولذلك تقترح عليه أن تلعب معه لعبة بلا أقنعة، لعبة "وشّي في وشّك"، ومكافأة لها على اللعبة الجديدة الجميلة الصريحة، يقرّر أن يقص عليها حلمه الذي يراه كثيراً، ولا بدّ أنه يتضمّن رسالة ما.
يدخلان عالم الحلم والحكاية، ويكتشفان كيف أن الناس مجرد أقنعة لا وجوه خلفها، وأية محاولة لتعرية هذا الواقع تجابه من السياسي والديني بالرفض.
قناع الضحك وقناع البكاء
يعد هذان القناعان الرمزين المعبّرين عن المسرح، ويعودان إلى التمييز اليوناني بين الكوميديا والتراجيديا. ويعتبر المسرحان اليوناني إلى جانب الياباني من أشهر من استخدم القناع في مسرحياتهما، سواء أكان ذلك لجعل صوت الممثل جهورياً أم للتعبير عن الشخصية التي يؤديها الممثل. لكن ما دخل المسرح هنا، ونحن نعرض لرواية الغمّيضة؟ هل سنكتفي بالتقديم الذي أورده الروائي بأنه قد خبّأ المسرحية في لباس الرواية، ولنا أن نتجاوزه، أم سنفهم الإشارة، لأنّ الحكايا والقصص مليئة بالإشارات والملاحظات التي يجب أن نتنبّه لها كيلا تفوتنا العبرة من الحكاية؟
لا ريب أن الرواية فضاء يتسع لكافة الفنون، وما الإخراج الروائي لنصّ وليد علاء الدين إلا من هذا المنحى، إلا أنه، وهو الكاتب المسرحي، أراد أكثر من هذا التخريج النقدي، فهو لا يطعن بالمسرح بأن أخرجه من بنيته الفنية إلى فضاء الرواية، بل ليستجلب لنا تقنية القناع المسرحي، التي من خلالها سيدلّل على أن إلباس الحياة الواقعية الأقنعة، سيحوّل أناسها إلى مجرد أدوارٍ تنتهي بنهاية مشهدها، وبذلك تصبح الشخصية الإنسانية عبارة عن تقطعات لا يلضمها خيط الذات. هذه الحالة ستقود إلى الزيف والخداع، وتنتج انطباعات غير صادقة عن الناس المحيطين بنا. فعندما تسأل الطفلة الصبي عن الجماعة البشرية التي ولجاها في الحلم، هل هم من أقربائك؟ يحار الطفل جواباً، فهو يظن أنهم أقرباؤه، لكنه ليس متأكداً، فالنساء يلبسن السواد من أعلى رؤوسهن إلى أخمص أقدامهن، ويرتدي الرجال ملابس ذات مظهر ديني متطرف. وعليه، ندرك أن اللعبة الفنية الشكلية التي أخرج فيها وليد علاء الدين مسرحيتة في إهاب رواية، كان مقصوداً لذاته ويخدم رؤاه في جدل الأقنعة والوجوه.
يكتشف الطفلان في هذا المشهد الأهمية التي يمتاز بها الوجه البشري بقدرته الهائلة على التعبير، فهو على عكس المتقنّعين بقناع ثابت، وعلى الضد من الأشخاص المزودين بقناعين، إضافة إلى متعدّدي الأقنعة، لا يجارون الوجه البشري في القدرة على التواصل والتعبير.
إنّ العواطف إذا اتخذت لبوساً دينيّا ونفخ فيها قد تصبح ناراً حارقة بيد الجهلة، ونرى الكثير من الأحداث التي لا تمت للدين بصلة، إلا أن أصحاب الأقنعة والمآرب ألبسوها لباساً دينيّاً كي يسيطروا على بسطاء الناس من خلال عواطفهم، مع أن الخطاب الديني خطاب تفكّر وتعقّ
بين الماضي والحاضر
لأننا في حلم حكاية أو حكاية حلم نلج إلى زمن المماليك، وقصّة العصابة المقنزعة والسراقوش الحرير على زمن السلطان قايتباي، حيث كان جند السلطان يطاردون نسوة يرتدين العصابة المقنزعة والسراقوش الحرير، وذلك لأن أحد تجار السلطان قد جاء بأقمشة لم تلق رواجاً، فأمر السلطان بمنع النساء أن يلبسن أقمشة من غير ما ورّده تاجره إلى السوق. يجد الطفلان نفسيهما في ساحة انتظار الباصات، حيث عائلة عزّة وأقربائها العائدين من حفل تخرجها الجامعي، ينقسمون إلى فريقين: فريق مع الشيخ وائل الذي يردّ على أحد الكتّاب على الفيسبوك تناول قضية لباس المرأة، والفريق الثاني، عزّة وأبوها الشيخ المعتدل الذي يرى في كلام الكاتب اعتدالاً يسمح لكل شخص بأن يكون ذاته.
ويرى الشيخ والد عزّة، بأن الوجه البشري خصيصة إنسانية لا يجوز حجبها، لأن الوجه هو الهوية، وبغيابه لا يعود التمييز ممكناً بين شخص وآخر. يعترض الشيخ وائل على كاتب المقال، ويرعد ويزبد ويهدد بالويل والثبور وعظائم الأمور، لأن كشف الوجه برأيه فساد يؤدي إلى الفجور. تلك المعركة التي أوقد أوارها الشيخ وائل لم تقتصر على العالم الافتراضي، بل انتقلت إلى عزّة، الفتاة الجامعية السافرة الوجه وأبيها، حيث صبّ الشيخ وائل جام غضبه عليهما.
وشّي في وشّك أو الغميضة، رواية تلعب بمهارة في المناطق الخطرة، وتدفعك إلى التفكّر ملياً، كيف يستطيع الأطفال بألعابهم البسيطة، أن يفككوا مأساة التاريخ ومهازل الحاضر
الغميّضة أم وشّي في وشّك
إنّ قضية لباس المرأة التي عالجها الروائي وليد علاء الدين شائكة جداً، وخاصة أنها شهدت تجاذبات وفتاوى دينية كثيرة في زمننا الحالي، ولكيلا يقع في الأدلجة أو التنظير، سمح لشخصيات الرواية أن تستجلب فنيّات الحوار المسرحي، والأهم ثيمة التطهير التي ذكرها أرسطو في كتابه فن الشعر. إنّ العواطف إذا اتخذت لبوساً دينيّا ونفخ فيها قد تصبح ناراً حارقة بيد الجهلة، ونرى الكثير من الأحداث التي لا تمت للدين بصلة، إلا أن أصحاب الأقنعة والمآرب ألبسوها لباساً دينيّاً كي يسيطروا على بسطاء الناس من خلال عواطفهم، مع أن الخطاب الديني خطاب تفكّر وتعقّل. وإذا عدنا إلى ثيمة التطهير الأرسطي، مع اختلاف التحليلات التي تناولته، إلا أنها تكاد تجمع على دوره في تنقية العواطف وتطهيرها من اللبوس الانفعالي الحاد الذي يشوبها.
يتغيّر عنوان الرواية رويداً رويداً، تحت تأثير لعبة الطفلة "وشّي في وشّك"، بدلاً من لعبة الأقنعة المخبأة في لعبة الغميضة. يتعلّم الطفل في نهاية الرواية اللعبة الجديدة التي اقترحتها الطفلة، والتي هي عزّة، الخريجة من قسم الفلسفة.
وشّي في وشّك أو الغميضة، رواية تلعب بمهارة في المناطق الخطرة، وتدفعك إلى التفكّر ملياً، كيف يستطيع الأطفال بألعابهم البسيطة، أن يفككوا مأساة التاريخ ومهازل الحاضر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...