لا تتوقف معاناة الفلسطينيين عند هجمات الاحتلال المتكررة، أو الاستيلاء على الأراضي واغتصاب خيراتها، وإنما امتدت لتشمل كثيراً من نواحي الحياة التي من أهمها الناحية الاقتصادية، فبات الفلسطينيون يتنازلون عن ثمار أراضيهم ومنتجاتها بدلاً من التمتع بنعيمها وخيراتها، وكل هذا فقط من أجل كسب لقمة العيش وتحمل الظروف الاقتصادية الصعبة.
برغم شهرة أراضي فلسطين بإنتاجها الخيِّر لمنتجات مثل الزيتون والعسل وغيرها، إلا أن الأهالي أصبحوا مرغمين على تصدير منتجهم، ومحصولهم الوفير، بدلاً من الانتفاع به داخل محيط أراضيهم وبيعه لأبناء وطنهم.
زيت الزيتون والتصدير
يرى أبو رائد الدحدوح (يسكن في غزة، ويمتلك مزرعة زيتون)، أن هذا العام حلَّ عليه بالرخاء، رغم أنّ الموسم الأخير لم يكن بأحسن حال، حيث انخفض إجمالي المحصول، لأن الزيتون ينضب عاماً ويطرح آخر، حسب قوله.
تمكن أبو رائد هذا الموسم من بيع المحصول كاملاً، على عكس السنوات السابقة، وذلك بعد أن قرر تصدير الزيت إلى الدول المجاورة.
ويحكي الدحدوح (64 عاماً) لرصيف22 أن موسم حصاد الزيتون ليس فقط مصدر رزق لأصحاب الأراضي، وإنما هو عيد وطني، لما يلتصق بأشجار الزيتون من أصالة، فلا يمكن فصل زراعة الزيتون عن الهوية الفلسطينية وتراث أراضيها، فبعض من هذه الأشجار تمتد عراقتها لمئات السنين، وربما أكثر.
ويضيف أنه رغم اقتلاع بعضها وتجريف الأراضي على يد الاحتلال، إلا أن المزارع الفلسطيني يرفض التخلي عن حبه لزراعة الزيتون، حتى لو اضطر لتصدير محصوله إلى الخارج.
يتناول فلسطينيون في قطاع غزة زيت الزيتون السوري، وعسل مستورد، ولحوم دجاج باردة مستوردة، لعدم تمكنهم من شراء منتجاتهم المحلية، التي يتذوقها "العالم"، يقول أحدهم: "أشعر بالحسرة والأسف"
ويلفت أبو رائد لضعف إقبال المواطنين على شراء زيت الزيتون في الأعوام السابقة، نظراً للظروف الاقتصادية التي يمر بها الشارع الغزِّي، من تأخر رواتب الموظفين وشحّ المال لدى المواطنين، إضافة إلى ارتفاع سعر تنكة الزيت التي يبلغ سعرها 450 شيقل (ما يعادل 150 دولاراً) لزيت السري، هو أفضل الأنواع جودة.
تسبب ضعف البيع بتراكم فائض من محصول العام الماضي، لم يتمكن أبو رائد من بيعه.
وعلى عكس الدحدوح، أعرب أبو عبد الله عايش (55 عاماً) عن امتعاضه من قرارات تخص تصدير زيت الزيتون، يقول لرصيف22: "أشعر بالحزن لانقضاء موسم زيت الزيتون دون الشراء من زيتنا البلدي، فهو ذو مذاق عالٍ ونكهة مميزة ولا تحلو السفرة بدونه، لهذا أنا مضطر أن أستعيض عنه بزيت مستورد من الضفة أو سوري الصنع، ورغم كونه أقل جودة، إلا أنه أقل سعراً".
يعلق رائد حلس، المختص في الشأن الاقتصادي، لرصيف22: "تصدير زيت الزيتون من غزة للدول العربية في الوقت الراهن يكتسب أهمية كبيرة، خاصة في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها القطاع من الحصار المفروض منذ سنوات، وحالة الركود الاقتصادي بسبب جائحة كورونا أيضاً، لذا يعتبر تصدير زيت الزيتون خطوة إيجابية، تتضح آثارها على الاقتصاد الفلسطيني من جهة، وعلى المزارعين العاملين في هذا القطاع الحيوي من جهة أخرى".
ويشدد حلس على أن المواطن في غزة لن يتأثر من التصدير، سواء بالسعر أو بالكمية، نتيجة وجود فائض في كميات الزيت، بسبب زيادة مساحة أشجار الزيتون هذا الموسم، وكذلك حالة الكساد التجاري في السوق المحلي أيضاً".
وبحسب البيانات الصادرة عن وزارة الزراعة، بلغ إنتاج فلسطين من زيت الزيتون هذا العام نحو 14 ألف طن، منها حوالي 4 آلاف طن إنتاج قطاع غزة، تم تصدير 990 صفيحة زيت زيتون للسعودية (15 طن)، و600 للإمارات (9 أطنان).
تجارة العسل في غزة
الوضع لا يختلف كثيراً بالنسبة للعسل الفلسطيني عن وضع زيت الزيتون، فبرغم أنه يشكل أحد "الكنوز" الطبيعية، وحصوله من قبل على الميدالية الفضية لأجود أنواع العسل في العالم، إلّا أن المواطنين لا يستطيعون تحمّل تكاليف شرائه، لذا لا يجدون بدّاً من شراء العسل المستورد، ذي الجودة المنخفضة والسعر الأقل.
أبو مصعب الخالدي (40 عاماً)، يسكن في شرق مدينة غزة، يمتلك 50 خلية موزعة على أرضه الصغيرة، وسط الكثير من أزهار الحمضيات واللوزيات التي تعد غذاء النحل المناسب لإنتاج العسل.
يعتمد الخالدي على إنتاج العسل وبيعه لتحسين ظروفه المعيشية.
مثل غيره من النحالين، يعتمد الخالدي على إنتاج العسل وبيعه لتحسين ظروفه المعيشية، وينتظر مواسم تزهير جيدة للحصول على إنتاج وفير ومميز من العسل الصافي.
يخشى الخالدي على منتجه من الكساد وعدم الاستمرار، نتيجة عدم الإقبال على شرائه.
ويشير الخالدي إلى صعوبة العمل بتربية النحل في غزة لعوامل كثيرة، أبرزها الفقر وقلة الإمكانيات. بالنسبة له الأمر ليس سهلاً كما يظن البعض، فحشرات النحل الضعيفة يصيبها الكثير من الأمراض، وتحتاج لأدوية من أجل علاجها، وأخرى للوقاية من بعض الأمراض، وهو ما يحمله "ما لا طاقة له به"، حسب تعبيره.
كما يوضح أبو مصعب أنه لا يستهلك العسل نظراً لارتفاع سعره، مضيفاً إن سعر الكيلو الواحد من العسل الطبيعي في السوق المحلي خلال الموسم يبلغ نحو 80 إلى 90 شيقلاً، أي ما يعادل أجر ثلاثة أيام للعامل الواحد، لذلك يمتنع عن استهلاكه من أجل الإنفاق على أسرته.
كما يضيف أن الأزمة الحقيقية التي تواجه مربي النحل هي انتشار العسل المستورد في السوق قبل أسابيع قليلة من إنتاج العسل المحلي، وهو ما يعرض أصحاب المناحل لخسارة مؤكدة، خاصة وأن أسعار العسل المستورد أقل من المحلي، لذا يتهافت الناس على شرائه مع الامتناع عن شراء العسل المحلي.
ويتابع الخالدي قائلاً: "برغم هذه الأزمة الاقتصادية فأصحاب المناحل، كغيرهم من أصحاب المهن القديمة، لا يجدون مفراً من التمسّك بالمهنة التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم".
يقول المثل الشعبي "طباخ السم بيدوقه"، ولكن النحال أبو مصعب لا يتذوق من عسله شيئاً، لأنه يعتمد على ربحه في الإنفاق على أسرته
يحب محمد أبو علي (30 عاماً) العسل المحلي كثيراً، ولكنه يشكو من ارتفاع سعره، رغم نصيحة الأطباء له بتناوله. يقول لرصيف22: "فوائده كبيرة ومذاقه جميل، وأتمنى يوماً لو يصبح ثمنه بمتناول اليد، فأتمكن من شرائه وتذوقه، ورغم أن كثيراً ما يوصي الأطباء بتناول عسل بلادنا المحلي لما فيه من شفاء من الأمراض، غير أننا نرى في العسل المصنع المستورد بديلاً أسهل، رغم افتقاره للكثير من الفوائد الصحية".
بحسب وزارة الزراعة الفلسطينية، يضم قطاع غزة حوالي 300 نحّال، ينتجون العسل ويملكون حوالي 16 ألف خلية، تنتج ما مجموعه 180 طناً سنوياً، وقد حدث تراجع كبير في استهلاك العسل، نتيجة لركود الأوضاع الاقتصادية، ويتم استيراد كميات أخرى من الخارج، حيث كان يصل استهلاك القطاع من العسل سابقاً إلى 500 طن سنوياً.
العزوف عن شراء الدجاج
لجأ الكثير من مربي الدواجن مؤخراً لعرض مزارعهم للبيع تفادياً للخسائر التي تكبدوها بالعجز عن سداد المستحقات الشهرية عليهم، بحسب أبو خالد البرعي (56 عاماً)، صاحب مزرعة دواجن.
يقول أبو خالد لرصيف22: "خسائرنا بسبب تراجع إقبال المواطنين على شراء الدجاج الطازج بصورة كبيرة خلال الأشهر القليلة الماضية. تدهور الظروف الاقتصادية والسياسية التي يمر بها القطاع انعكس سلباً على أسعار الدواجن، وقد طالبنا من الحكومة مساعدتنا العاجلة، والإسراع في صرف تعويضات لنا لتجنبنا الإفلاس، ولكنها لم تستجب".
يعبر السبعيني أبو خليل الحاج عن سخطه من ارتفاع أسعار الدواجن، والتي كانت تعد من الأطباق الرئيسية على المائدة الفلسطينية في غزة. يقول: "عندما ذهبت لشراء الدجاج كان سعر الكيلو غرام الواحد قد وصل 15 شيقل، ما يعادل 5 دولارات، لذا ذهبت على الفور لشراء اللحوم البيضاء المجمدة القادمة من داخل الخط الأخضر، فهذه الأيام لم يعد بإمكاني شراء الدواجن بسعرها الحالي، في ظل عدم صرف الرواتب".
ووفق وزارة الزراعة الفلسطينية، فإن قطاع غزة يحتاج إلى نحو مليوني دجاجة شهرياً، وتقوم 1400 مزرعة دجاج بتربيتها، وتزداد تلك الكمية في فصل الصيف عن غيره من الفصول الأخرى.
هكذا هو الوضع الاقتصادي في غزة من سيئ إلى أسوأ، ورغم احتجاجات المواطنين المنددة بتصدير منتجات بلادهم، لكن لا مفر من ذلك، حتى يستمر أصحاب الحرف في إنتاجهم للموارد الغذائية، حتى لو كان مصيرها الحتمي هو التصدير لا الانتفاع المحلي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com