شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"لم أعد أرغب بصفة مقاوم"... كيف يعيش مناضلو "حركة التحرير" ما بعد استقلال تونس؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الخميس 15 أكتوبر 202012:49 م

"كنتُ تلميذاً في الفرع الزيتوني في محافظة قفصة (الجنوب الغربي) ولم أكن قد أتممت عقدي الثاني بعد حين كانت شاحنات المحتل الفرنسي تجوب أرجاء المدينة مُدجّجة بالأسلحة، وكنتُ أتمنى لو كانت لتونس تلك الإمكانيات العسكرية".

يروي ابن قرية النصر في معتمدية المكناسي (حكم محلي) في محافظة سيدي بوزيد (الوسط الغربي) محمد الأزهر عماري (86 عاماً) لرصيف22 كيف اندفع للالتحاق بـ"حركة التحرير الوطني"، فيقول: "قررتُ حينها بكامل إرادتي الانقطاع عن الدراسة والتحقتُ بالمقاومين في الجبال".

من الصعب حصر عدد مناضلي الحركة الوطنية في سيدي بوزيد، ولكن بحسب تصريح رئيس "جمعية صوت المقاوم التونسي" في المحافظة أحمد الساكري لرصيف22 يناهز عددهم الـ1284 مقاوماً، بقي ألفٌ منهم على قيد الحياة.

تَنَقّل محمد الأزهر مع المقاومين بين جبال المالوسي في سيدي بوزيد وبرقو في سليانة (الشمال الغربي) ووسلات في القيروان (الوسط)، وهناك شارك في إحدى أشد المعارك التاريخية التي شهدها جبل وسلات يوم 18 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1954.

معركة جبل وسلات

أُصيب محمد الأزهر خلال معركة جبل وسلات بثلاث إصابات لا تزال آثارها موجودة إلى اليوم في جسده المنهك، فيما تم استخراج بعض الشظايا من جسده عام 1981.

صورة قديمة لمحمد الأزهر عماري 

وعن إحدى ذكرياته خلال المعركة، يقول: "إثر انتهاء المواجهات، وقعتُ خلال عمليات التمشيط في يد الجيش الفرنسي، حققوا معي مطولاً لكني لم أمدهم بأي معلومات عن رفاقي، وادعيتُ أني كنت أعمل في جني الزيتون وعلقتُ خلال المواجهات".

بعد إطلاق سراحه، استضافته إحدى الأسر في منطقة السبيخة في القيروان وعالجه أفرادها بالطرق التقليدية، لكنه فضّل العودة إلى مسقط رأسه في منطقة المالوسي لأنه كان يمثل خطراً على مضيفيه.

في طريق العودة من القيروان إلى المالوسي عبر الحافلة، كان محمد الأزهر يحتال على دوريات التفتيش الفرنسية المنتشرة في الطريق، حيث كان يخبئ ساقه المصابة عن الجنود حتى وصل إلى بر الأمان.

تدهورت حالته الصحية ولم يعد يقوى على التحرك، فحمله شقيقه على ظهر الجمل إلى وادي العرعار في منطقة منزل بوزيان، لينقله من هناك الشيخ الحسين بوزيان إلى منطقة المكناسي كي يتولى علاجه طبيب فرنسي.

والحسين بوزيان هو ابن سيدي بوزيد وأحد شهداء الحركة الوطنية التونسية الذي ناضل ضد الاستعمار الفرنسي ليتم اغتياله يوم 26 آذار/ مارس عام 1956.

انتهت المعارك ووردت الأخبار عن طلب الدولة التونسية من المقاومين تسليم أسلحتهم وإيقاف العمليات المسلحة بعد انطلاق مفاوضات الاستقلال الداخلي لتونس رسمياً في باريس، يوم 13 أيلول/ سبتمبر عام 1954.

"باستقلال تونس، في 20 آذار/ مارس عام 1956، عمّت الفرحة أعماق قلبي لأن هذا كان حلمي منذ التحاقي بالمقاومة، وتأملتُ خيراً بالاستقلال"، يعلّق محمد الأزهر.

"نعيش الذل ليحيا الوطن"

منح نظام بورقيبة حينها المقاومين راتباً شهرياً (يُعرف بـ"الجراية" في تونس) تراوح بين 8 و10 دنانير لكن تم إيقافه بعد عشرة أشهر، ويقول محمد الأزهر إن "قيمة المقاومين بدأت تتراجع لدرجة أني لم أعد أرغب في مناداتي بصفة مقاوم".

صورة لعدد من المقاومين

في أواخر عام 1962، وزعوا المقاومين في هنشير (أرض شاسعة) في المكناسي، و"كنتُ أحفر في أرض صلبة، وفي حال لم أحفر أربعة حفر في اليوم لم أكن أتمكن من تحصيل عشاء أبنائي"، وفق ما يذكر محمد الأزهر قائلاً: "تعرضنا للإذلال حتى شبعنا، كنا نغني مقطع النشيد الوطني ′نموت نموت ويحيا الوطن′ الذي يعكس واقعنا، لكن من مات في الجبل على الأقل نال الشهادة، أما نحن الذين بقينا كالأموات، نعيش الذل ليحيا الوطن".

وكان بورقيبة قد أمر بتقسيم الهنشير وتوزيعه على المقاومين، لكن "المسؤولين المحليين الذين خبأوا رؤوسهم خلال المعارك، بينما كان رصاص الاستعمار الفرنسي فوق رؤوسنا، وزعوا الأراضي حسب أهوائهم"، وفق تعبيره.

"ليست لدي قيمة خاصة في محيطي القريب أو البعيد، أصبح المقاوم إنساناً أقل من عادي، وحتى نواب الشعب الذين اخترناهم تنكروا لنا واستغلونا لمصالحهم الحزبية"... مناضلو "حركة التحرير الوطني" في تونس يشكون الإهمال الرسمي 

بحسب محمد الأزهر، فإن بورقيبة لم يُنصف المقاومين، وكحركة رمزية منه أذن بتخصيص ثلاثين ديناراً كراتب لهم تم رفعه إلى ستين ديناراً، لم يُحسن "كالعادة" المسؤولون المحليون توزيعها، فمنعوها عن كثيرين وحسموا منها لآخرين.

نكران التضحيات

بوصول الرئيس السابق زين العابدين بن علي إلى الحكم، رفع الراتب إلى 140 ديناراً فقط ومنح المقاومين بطاقة للعلاج المجاني في المستشفيات، باستثناء الأدوية التي يشترونها بأنفسهم.

حتى بعد اندلاع الثورة التونسية، والكلام لمحمد الأزهر، تنكّرت كل الحكومات لتضحيات مناضلي "حركة التحرير الوطني"، ولم يتم الالتفات لهم إلا برفع الراتب الشهري إلى 350 ديناراً وهو مبلغ "لا بنفع بشيء أمام تعدد مسؤولياتهم وغلاء الأسعار في البلاد".

محمد الأزهر عماري

بحسرة شديدة، يقول محمد الأزهر: "ليست لدي قيمة خاصة في محيطي القريب أو البعيد، أصبح المقاوم إنساناً أقل من عادي، وحتى نواب الشعب الذين اخترناهم تنكروا لنا واستغلونا لمصالحهم الحزبية، وبقي همي الوحيد هو توظيف أبنائي العاطلين عن العمل".

الوضع الصعب

"تزوجتُ محسن بعد تسليم المقاومة أسلحتها وكنت أصغره كثيراً في السن، أخبرني أنه التحق بالمقاومة وهو يبلغ من العمر 15 عاماً"، تسترجع فجرة حيدوري ابنة سيدي بوزيد (60 عاماً) ذكرياتها مع زوجها المقاوم الراحل محسن حيدوري.

وجد محسن نفسه في وضعية صعبة فاضطر للعمل في الأراضي الجبلية في الحفر وغرس الأشجار وكان يحصل على مئة مليم وكيلو ونصف من الدقيق كأجر يومي، وكان العمال يقيمون في خيام رثة متنقلة فيما يقيم آخرون في حُفر، كما تروي فجرة لرصيف22.

صورة قديمة لمحسن حيدوري

عن معاناتهم وقتها، تقول: "عاشوا تحت الصفر ولم ينالوا شيئاً رغم تضحياتهم في سبيل استقلال الوطن، منحونا أربعة هكتارات من الأراضي البور التي لا تصلح للزراعة وراتباً بـ50 ديناراً رفعوها إلى سبعين، لكن ماذا ستفعل لنا؟".

توفي محسن منذ 26 عاماً، كان يبلغ من العمر حينها 57 عاماً، وقد أصيب بجلطة سببها الإرهاق الكبير خلال عمله في الجبل. "أعادوه لنا ببساطة وبقي في المنزل أربعة أيام ثم توفي بعدها"، وفق تصريحها.

تواصلت معاناة أسرة محسن ولم يتغير شيء خلال حكم بن علي سوى رفع الراتب إلى 300 دينار، خفضوها بعد وفاة الزوج إلى 280 ديناراً.

"قبل وفاته كان تعباً ومرهقاً، كان يقتلع الحلفاء من أعالي الجبال لإعالة أبنائه الأحد عشر، كان يتمنى حياة تليق بتضحياته وكان يتمنى أن يرى أبناءه في وظائف رسمية، لكنه رحل ولم ينعم بذلك وبقينا نحن نعاني من بعده"، تتابع فجرة قصتها مضيفة "لم يتمتع بمعاملة خاصة من قبل الأهالي بل بالعكس كان يشعر بـ′الحقرة′ (الاحتقار) والقهر، يا حبذا لو يعوضون لأسر المقاومين الذين زرعوا الخيرات ولم يأكلوا منها، لو يشغلون أبناءنا ويرفعون المنحة الاجتماعية".

"ضعيف الحال"

مباركة نصري (70 عاماً) هي أيضا ابنة سيدي بوزيد ووالدة لعشرة أبناء وهي أرملة المقاوم صالح ربعاوي الذي كان قائداً وتوفي في 2 حزيران/ يونيو عام 2011، تزوجته أيضاً بعد أن سلم سلاحه كباقي المقاومين.

تقول مباركة لرصيف22: "تزوجته عاطلاً عن العمل ضعيف الحال لا يملك شيئاً، أخبرني أنه كان قائد مجموعة من المقاومين ينظم ويشارك في المعارك ضد جنود الاحتلال الفرنسي في جبال المالوسي وعرباطة (قفصة) وسيدي عيش (قفصة)، وهي أشد المعارك التي شارك فيها".

وكان قد سقط 33 شهيداً من المقاومة المسلحة التونسية في مواجهات جبل سيدي عيش التي حدثت يوم 21 نوفمبر/تشرين الثاني 1954.

تقول مباركة: "كان قائدا شجاعاً ومحبوباً من الجميع، ورغم فقدانه لإحدى عينيه في إحدى المعارك إلا أنه نجح في قتل عسكري فرنسي ذي رتبة عالية".

صورة قديمة لصالح ربعاوي

تنتقد مباركة "تنكّر دولة الاستقلال لتضحيات زوجها ولمساهمته في تحرير البلاد، وإهانته من خلال حرمانه من الأراضي التي وُزّعت على المقاومين ومنحه راتباً قيمته 10 دنانير فحسب".

عاشت مباركة وزوجها ستين سنة في العاصمة تونس ليعودوا عام 1970 إلى سيدي بوزيد، بينما ذهبت وعود الدولة بتسوية أوضاعهم أدراج الرياح.

ظلم وحسرة

"حُكم على زوجي وعلينا بالنسيان والإهمال واستمرت الأوضاع مع نظام بن علي الذي أوقف منحة عين صالح المصابة فيما أذن بالترفيع في مبلغ الراتب إلى 300 دينار خفضوها إلى 280 عند وفاته".

قبل رحيله، كان صالح يشعر بالظلم والحسرة لتنكر الدولة لتاريخه، لكنه في الوقت نفسه كان عزيز النفس يرفض مد يده لأحد أو الشكوى، فاشتغل في الأعمال الحرة لإعالة أبنائه وتدريسهم رغم إصابته البليغة في عينه.

بطاقة تعود لصالح ربعاوي

كان يحظى باحترام وتقدير الجميع سواء في العاصمة تونس أو في سيدي بوزيد نظراً لتاريخه النضالي الحافل، تؤكد مباركة بكل فخر، مطالبة الدولة التونسية بالاهتمام بأسر المقاومين بعلاجهم وبتشغيل أبنائهم.

"تزوجته عاطلاً عن العمل ضعيف الحال لا يملك شيئاً، أخبرني أنه كان قائد مجموعة من المقاومين ينظم ويشارك في المعارك ضد جنود الاحتلال الفرنسي"... أُسر مناضلي "حركة التحرير" في تونس تشكو إهمال الدولة لأحوالهم والرواتب القليلة التي لم يتم حتى توزيعها بشكل عادل 

في مدينة الحامة في محافظة قابس (الجنوب الشرقي)، يقيم المقاوم النفطي عبد المؤمن (79 عاماً) الذي التحق بالكشافة التونسية منذ نعومة أظافره وكان يبلغ من العمر عشر سنوات.

يسترجع النفطي ذكرياته ويقول لرصيف22: "كنت متميزاً جداً في الدراسة وكعقاب لي على التحاقي بالكشافة التونسية التي كانت تقدم يد العون للمقاومين، كان المدرّس الفرنسي يُجلسني في طاولة في آخر الصف المدرسي".

النفطي عبد المؤمن

كان طفلاً شجاعاً ينقل الغذاء والمؤونة للمقاومين في الجبال أو في الواحة، كما يُخبر، وتواصل نشاطه بعد الاستقلال حيث شارك عام 1957 في إقامة حُفر في منطقة الحامة احتمى داخلها المقاومون وهاجموا من خلالها جنود الاحتلال الفرنسي.

ووفق النفطي الذي يرأس "الجمعية الوطنية للمقاومين وشهداء الحركة الوطنية"، يُقارب عدد مقاومي قابس 1100 مقاوم، لا يزال 420 منهم على قيد الحياة فيما يبلغ عدد الأرامل 160.

معركة الجلاء

يوم 9 تموز/ يوليو عام 1961، التحق 66 شاباً متطوعاً من أبناء الحامة ومن بينهم النفطي في محافظة بنزرت بمعركة الجلاء. "وزعونا على ثكنات عسكرية ونظمنا مسيرات حاشدة سلمية دون سلاح رافعين شعار  ′الجلاء، الجلاء′"، يوضح النفطي.

تواصلت المسيرات حتى يوم 19 تموز/ يوليو، عندما انطلق القصف الفرنسي العنيف على المتظاهرين السلميين مخلفاً مئات الشهداء، فاحتمى النفطي وقرابة 40 شخصاً آخرين في أحد المساجد وظلوا هناك دون أكل أو شرب يقتاتون على بعض أوراق شجرة عنب داخل المسجد.

توقف القتال ليل السبت 22 تموز/ يوليو، وبخروجهم من الجامع صباح الأحد فوجئوا ببشاعة المشهد، إذ كان عمال البلدية يقدمون لهم الأدوية حتى لا يشتموا رائحة الموت التي كانت تعم المكان وكانت الجرافات تقوم بالحفر ودفن الموتى، كما كانوا ينظفون شوارع مدينة بنزرت المغطاة بدماء الشهداء.

انتهت أحداث معركة الجلاء في بنزرت باستشهاد 630 تونسياً وإصابة 155 آخرين، وبجلاء آخر جندي فرنسي من التراب التونسي يوم 15 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1963.

استشهد شاب واحد من أبناء الحامة الستة والستين، فيما عاد البقية عشية الأحد إلى قابس، وشارك النفطي في حزيران/ يونيو عام 1964 في اختبار الالتحاق بالشرطة ونجح فيه وواصل وظيفته في هذا السلك حتى عام 1992.

"السنوات العجاف"

يقول النفطي لرصيف22 "تقاعدتُ وأنا راضي الضمير عما قدمته لتونس قبل وبعد الاستقلال، كنا نغير بصدق على وطننا ليس مثل اليوم، والمقاومة والنضال ليسا بالسلاح فقط بل من خلال العمل بنية صادقة لمصلحة البلاد"، مشدداً على أنه يتلقى معاملة حسنة من الجميع لأنه يبادلهم بدوره الاحترام.

أول راتب حصل عليه النفطي كانت 28 ديناراً، وهو برأيه "أفضل من راتب اليوم المقدر بـ280 ديناراً لأن الأسعار حينها كانت منخفضة، ليقارب خلال حكم بن علي 400 دينار وظل على حاله إلى غاية اليوم".

وقفة احتجاجية في سيدي بوزيد 

ويصف النفطي ما تشهده تونس بعد الثورة بـ"السنوات العجاف"، منتقداً تنكّر الحكومات المتعاقبة لنضالات المقاومين إذ "يوجد مقاومون من الظهير الأول هم الآن طريحي الفراش وليست لديهم إمكانيات للعلاج"، بينما "يحزّ في نفسي أن أراهم على هذه الحال وهم من أفنوا أعمارهم وحياتهم لمصلحة البلاد".

في الختام، يدعو النفطي الدولة إلى العناية بأسر وأرامل المقاومين وبرد الاعتبار للمقاومين ولشهداء الحركة الوطنية وتوفير الرعاية الصحية الكاملة لهم.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image