برغم مرور عشر سنوات على الثورة التونسية، ما زال الغضب يسيطر على كثير من التونسيين، بسبب الارتفاع المستمر في معدل البطالة وتردي مستوى العيش والخدمات العامة، ما أشعل الشارع التونسي، وفجّر احتجاجات عنيفة عمّت أغلب المحافظات.
الاحتجاجات القائمة منذ أيام والمستمرة، تخللتها أعمال حرق وتخريب وسرقة لبعض المحلات التجارية، رفضاً لحظر التجول الذي أقرّته الحكومة، من الرابعة عصراً حتى السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي، وللمطالبة بتحسين ظروف العيش وتوفير فرص عمل.
ومنذ نحو شهرين، تشهد تونس احتجاجات في مناطق عدّة للمطالبة بتحسين ظروف المعيشة وتوفير فرص عمل للعاطلين عن العمل، بالتزامن مع الذكرى العاشرة لثورة أطاحت بالنظام السابق في 14 كانون الثاني/ يناير 2011، ممهدةً لانتقال سياسي يواجه تحدّيات اقتصادية، ولكنها مؤخراً تطوّرت كمّاً ونوعاً، وتخللتها أعمال نهب وهجمات على الممتلكات.
كيف بدأت الاحتجاجات؟
انطلقت الاحتجاجات في البداية من محافظة سليانة، شمال تونس، في 14 كانون الثاني/ يناير، ودارت عمليات كر وفر بين محتجين استخدموا زجاجات المولوتوف الحارقة وعناصر الأمن الذين ردّوا بإطلاق قنابل بالغاز المسيّل للدموع، على خلفية تعمّد شرطي إهانة راعٍ بسبب مرور أغنامه أمام مقر المحافظة، ما أثار غضب الأهالي، ورواد مواقع التواصل الاجتماعي، وأجبر السلطات المحلية على الاعتذار منه، ونقل الشرطي إلى مكان عملٍ آخر.
إثر ذلك، تحرّك محتجون في مدينة الكاف المجاورة، في نفس اليوم، وتسبب ذلك أيضاً باندلاع مواجهات بين الأمن والمحتجين، لتتسع رقعة الاحتجاجات وتشمل الأحياء الشعبية في العاصمة وباقي المحافظات، حيث لاحقت قوات الأمن المحتجين وأطلقت قنابل الغاز.
وحاول محتجون في محافظة سيدي بوزيد إحراق أحد مراكز الحكم المحلي، وبعض المحلات التجارية، لتتواصل التحركات نهاراً في كل من مدينة المكناسي والرقاب وجلمة، ضد الفقر والبطالة، وقاد العاطلون عن العمل تحركات احتجاجية تحت شعار "ها قد جئنا بالنهار يا حكومة الاستعمار"، و"التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق"، إلى جانب شعار "الشعب يريد ثورة من جديد".
وتواصلت التحركات النهارية بانضمام محافظتيْ القصرين وسيدي بوزيد، وسط غرب تونس، إليها، في 16 يناير، تحت شعار "ها قد جئنا في النهار"، مطالبةً بإسقاط المنظومة السياسية الحالية التي عجزت عن الاستجابة لمطالب الثورة على امتداد السنوات العشر الماضية.
واحتشد متظاهرون أمام الهيئات الحكومية في شارع الحبيب بورقيبة، شارع العاصمة الرئيسي، في 18 كانون الثاني/ يناير، مطالبين بإطلاق سراح المعتقلين خلال الأيام السابقة، وهتف المشاركون في هذه الاحتجاجات "لا خوف، لا رعب، الشارع ملك الشعب".
يرى عضو التنسيقية الوطنية للحركات الاجتماعية عبد الحليم حمدي المشارك في احتجاجات سيدي بوزيد، أنّ الشباب ملّوا من الوعود الانتخابية التي تغدق بها الأحزاب السياسية خلال حملاتها الانتخابية عليهم، وخرجوا للتذكير بمطالب الثورة التي تتمثل في "شغل، حرية، كرامة وطنية"، وهو الشعار الذي أسقط نظام بن علي.
وأضاف حمدي لرصيف22 أن تحركات هذا العام تختلف عن التحركات السابقة، لأنها طالبت بإسقاط النظام السياسي كاملاً، ولم تطالب فقط بتنحية سياسيين معيّنين، لأن السياسات الاجتماعية والاقتصادية التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة دفعت الشعب نحو الغضب واليأس من المنظومة برمتها.
"من بين الأسباب التي جعلت من شهر يناير محرّك التحركات الاجتماعية والانتفاضات في تونس، ارتباطه ببرودة الطقس، متى تكثر الأمراض، ويزداد الشعور بالفقر والتهميش، كما يقوم فيه التونسي بتقييم وضعه الاقتصادي والاجتماعي، لمرور عامٍ ودخول آخر جديد"
كما عاد شباب محتجون في محافظة القصرين إلى الاعتصام أمام محطة ضخ الغاز في ماجل بلعباس، في 18 كانون الثاني/ يناير ونصبوا خياماً بجوارها لمطالبة الشركة بتفعيل دورها في تنمية المنطقة واستيعاب العاطلين عن العمل في الجهة وتزويدهم بالغاز الطبيعي.
ثورة جياع أم أعمال نهب وسرقة؟
الاحتجاجات الجارية اعتبرها بعض التونسيين بمثابة ''ثورة جياع''، خصوصاً أنّ الشباب المحتجين تعمّدوا فقط سرقة المواد الغذائية والحياتية، فيما اعتبرها آخرون تحرّكات مشبوهة تحرّكها أطراف معلومة لا تريد نجاح التجربة التونسية، وهدفها بث الفوضى وتعطيل الانتقال الديمقراطي.
وكانت رئيسة الحزب الدستوري الحر المعارض عبير موسي قد دعت إلى مساءلة رئيس الحكومة في البرلمان، قصد معرفة الجهات التي تقف وراء هذه "التحركات المشبوهة"، فيما وصف الأمين العام لحزب التيار الديمقراطي المعارض غازي الشواشي، في تدوينة له، أعمال العنف والاعتداء على الأملاك العامة والخاصة، بأنها "إجرام وإرهاب" يمارَس بحق البلاد والشعب.
في المقابل، قال الكاتب والمحلل السياسي فريد العليبي إنّ ما يجري هو احتجاجات شعبية يشارك فيها حتى الآن الشباب العاطلون عن العمل بصورة رئيسية وهم الذين كانوا ضحية الهجرة السرية والانقطاع المبكر عن الدراسة وتجارة المخدرات، كما أنّها شملت الشمال والساحل والوسط والجنوب، معتبراً أنّ عدد المعتقلين الضخم يؤكد الحجم الكبير للمشاركين فيها.
وقال العليبي لرصيف22 إنّ هذا الحراك الشعبي هو نتاج عجز السلطة الحالية عن تنفيذ وعودها في التشغيل والتنمية الجهوية، خصوصاً أنّه تركز على مهاجمة مراكز المال والتجارة والأمن وهذا يعني أنّه ليس عفوياً، وإنّما هناك قدر من التنظيم فيه، مشيراً إلى أهميّة توقيته في شهر يناير المعروف في تونس تاريخياً بمحطاته الانتفاضية ضد السلطات السياسية المتعاقبة من بورقيبة وبن على حتى المنظومة الحاكمة الحالية.
هذا وعبّرت أكثر من 20 منظمة وطنية وجمعية حقوقية عن مساندتها المطلقة "لكل الاحتجاجات السلمية ضد سياسات التهميش والتفقير والتجويع وضد تلاعب الحاكمين بمصير التونسيات والتونسيين وتبديدهم لكل آمال وانتظارات الثورة"، وعن استغرابها "من صمت السلطة واكتفائها بالرد الأمني على ما يحدث، بما في ذلك عبر منح كل الردود الإعلامية للسلطات الأمنية التي لم تشر إلى طبيعة الاحتجاجات وأسبابها واقتصرت على الإشارة إلى أعمال العنف والتهديد".
يشير رمضان بن عمر، الناطق باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وهو منتدى غير حكومي مهتم بتوثيق الاحتجاجات، أنّ ما يحدث غير مفاجئ حتى للحكومة، وهو نتيجة طبيعية لمسار من التهميش والإقصاء.
وأضاف بن عمر لرصيف22 أن بعض ردود الأفعال التي تركز فقط على ما يرافق هذا الغضب من سرقة أو نهب، تعكس قصوراً في الفهم ورغبة سريعة في الوصم، وأرجع حدّة هذه التحرّكات إلى العنف الاقتصادي والتمييز الاجتماعي المقترنين بالاحتقار الطبقي أو الفئوي الاجتماعي، إلى جانب ضعف أداء الدولة أثناء الجائحة وتخليها عن فئات واسعة من الشعب.
انتشار الأمن والجيش لحماية المنشآت
تبعاً لهذه التطورات، أعلن المتحدث باسم وزارة الداخلية خالد الحيونيا في 18 كانون الثاني/ يناير اعتقال 632 شخصاً بعد أعمال شغب في أنحاء البلاد شملت أعمال نهب وهجمات على الممتلكات، لافتاً إلى أنّ معظم المعتقلين تتراوح أعمارهم بين 15 و20 عاماً.
الاحتجاجات الجارية في تونس اعتبرها البعض ''ثورة جياع''، خصوصاً أنّ الشباب المحتجين تعمّدوا فقط سرقة المواد الغذائية والحياتية، فيما اعتبرها آخرون تحرّكات مشبوهة تحرّكها أطراف لا تريد نجاح التجربة التونسية
وأشار إلى أنّ العمليات الأمنية لا تزال جارية، ولكن الوحدات الأمنية متواجدة في أغلب المناطق وتسعى إلى "حماية الممتلكات العامة والخاصة وفرض الأمن العام والحيلولة دون حصول عمليات تخريب أو تكسير"، مشيراً إلى وجود إصابات في صفوف العناصر الأمنية، بعضها يخضع للعلاج، وهنالك مَن تعرّض لإصابات بليغة بالمولوتوف والحجارة، أو برضوض، نتيجة المواجهات.
من جانبه، لفت الناطق الرسمي باسم وزارة الدفاع، محمد زكري، إلى انتشار الجيش أمام المنشآت العامة ومقرات السيادة في سليانة والقصرين في الشمال الغربي، وبنزرت في الشمال الشرقي، وسوسة في وسط البلاد، تحسباً لأعمال الشغب التي من الممكن أن تستهدف هذه المنشآت.
وقال زكري في تصريح صحافي إنّ قوات الجيش الوطني بصدد المشاركة في دوريات مشتركة في كافة جهات البلاد.
بدوره، تحدّث رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان جمال مسلم لرصيف22 عن وجود خرق للقانون في عمليات الإيقاف، فضلاً عن تسجيل اعتداءات بالعنف على الموقوفين لدى نقلهم إلى مراكز الإيقاف أو النيابة العمومية، مشيراً إلى أنّ أغلب الموقوفين لم يقع إعلامهم بحقوقهم ولا تمتيعهم بها على غرار ضرورة حضور محامين، أو الأولياء في حال إيقاف قاصرين.
وأضاف مسلم أنّ الرابطة سجّلت أيضاً بعض الخروقات الأخرى على غرار إيقاف محتجين دون وجود قرائن على تورّطهم في أعمال السرقة والتكسير، داعياً إلى ضرورة احترام القانون وتطبيقه سواء أثناء عملية الإيقاف أو النقل أو الاحتفاظ أو الاحتجاج، وإلى ضرورة الكف عن استعمال العنف المادي ضدّ الموقوفين.
واستغرب رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، في السياق ذاته، الصمت الحكومي تجاه تطوّر الأحداث في تونس، وتصاعد وتيرة الاحتجاجات واتساعها.
يناير شهر الانتفاضات
وبالرجوع إلى تاريخ تونس، عرف شهر كانون الثاني/ يناير أبرز التحركات الاحتجاجية والانتفاضات التي شهدتها البلاد وكانت المطالب الاجتماعية القاسم المشترك بينها، حتى أنّه بات يمثّل هاجساً مؤرقاً للحكام، وشهر كل المخاطر بالنسبة إلى الحكومات المتلاحقة، فقد عاشت تونس بداية كل السنوات العشرة الماضية على وقع تحركات اجتماعية طالبت جميعها بالشغل والتنمية والإطاحة بالحكم.
وعادةً ما يتزامن ذلك مع المصادقة على موازنات البلاد، وهو ما جعل من شتاء البلاد ساخناً منذ أحداث الثورة التي أطاحت بنظام بن علي في 14 يناير 2011.
ويفسر الباحث في علم الاجتماع ممدوح عز الدين تزامن كل الاحتجاجات مع شهر يناير بارتباطها بالذاكرة الاحتجاجية الشعبية التي تربط الغضب الشعبي دائماً بهذا الشهر.
وقال عز الدين لرصيف22 إنّ من بين الأسباب التي جعلت من شهر يناير محرّك التحركات الاجتماعية والانتفاضات، ارتباطه ببرودة الطقس، متى تكثر الأمراض، ويزداد شعور التونسيين بالفقر والتهميش، كما يقوم فيه التونسي بتقييم وضعه الاقتصادي والاجتماعي، لمرور عامٍ ودخول آخر جديد.
ولم تحد البلاد عن القاعدة، خلال السنوات التي سبقت الثورة، إذ كان دائماً يناير شهر الغضب والتصادم مع السلطة، فقد شهدت في يناير 2008 انتفاضة في منطقة الحوض المنجمي الغنية بالفسفاط في محافظة قفصة جنوب غرب البلاد، واجهتها قوات الأمن بالقمع وبحملة اعتقالات في حق متظاهرين ونقابيين، واستمرّ التوتر طيلة ستة أشهر كاملة.
وكانت قد اندلعت أواخر كانون الأول/ ديسمبر 1983 احتجاجات من مدن الجنوب التونسي، رفضاً لزيادة ثمن الخبز وتوسعت الاحتجاجات في بداية كانون الثاني/ يناير إثر سقوط قتلى وجرحى بين المتظاهرين، واجتاحت مناطق الشمال والوسط الغربي، الأمر الذي أدى إلى تدخل الجيش، ولم تتوقف الأحداث إلا بعد إعلان الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة يوم 6 يناير 1984 إرجاع الأسعار إلى ما كانت عليه.
كما عاشت تونس أحداثاً ساخنة في يناير 1978، إثر صدام بين الاتحاد العام التونسي للشغل (أكبر منظمة نقابية) والسلطة آنذاك، ما أدى إلى اعتقال 500 نقابي، في ما بات يُعرف بـ"الخميس الأسود"، من بينهم الأمين العام الحبيب عاشور وتقديمهم للمحاكمة بتهمة التحريض والتآمر على النظام، وتراوحت الأحكام الصادرة ضدهم بين ستة أشهر وعشر سنوات أشغال شاقة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ أسبوعمقال رائع فعلا وواقعي