واحدة من أهم النصائح والتي تتصدّر قائمة "كيف تتخلص من آلام صدمة الانفصال عن الحبيب في خمس خطوات؟"، هي أن تشغل نفسك بقدر ما تستطيع، وأن تقتل كل أوقات الفراغ، كيلا تجد وقتاً للتفكير به أو الشعور بالحنين إليه.
وقد حدث أن قرأتها مؤخراً على فيسبوك بالصدفة، ولكنها جاءت في الوقت المناسب، إذ كنت أتخبط بين حاجتي للتدخين ورغبتي بتركه بشكل نهائي، وبالتأكيد لم تكن رغبتي قائمة على أساس الخوف على الصحة، فمن البلاهة أن أحاول الحفاظ على صحة رئتيّ في بلد يشتهر بكونه "بلد الطوابير"، ففي أحسن الحالات قد تقتلني ذبحة قلبية ناتجة عن انقطاع التيار الكهربائي مدة نصف ساعة وخمس دقائق، ضمن وقت التغذية الذي لا يتعدى الساعتين كل ست ساعات.
بل في الحقيقة، إن غلاء أسعار الدخان واعتمادي على الكتابة فقط لكسب قوت يومي، جعلاني أفكر بالتخلّي عنه رغم صعوبة الموقف، لذلك قرّرت اتباع النصيحة السابقة، وصرت أستيقظ باكراً وأمارس رياضة المشي لمدة ساعتين يومياً، وبذلك ينصبّ تفكيري على الخطوات والطرقات بدلاً من السجائر.
لم تكن رغبتي قائمة على أساس الخوف على الصحة، فمن البلاهة أن أحاول الحفاظ على صحة رئتيّ في بلد يشتهر بكونه "بلد الطوابير"، ففي أحسن الحالات قد تقتلني ذبحة قلبية ناتجة عن انقطاع التيار الكهربائي
في اليومين الأولين لم يكن الأمر سهلاً، وكانت رغبتي بسيجارة الصباح التي اعتدت تدخينها مع فنجان القهوة تتصاعد مع كل خطوة جديدة، في اليوم الثالث صارت حاجتي إلى سيجارة أكثر إلحاحاً، ولكي أشغل نفسي عن التفكير بالتدخين، وعيني عن الكشك الذي أقف على يمينه وأنا أحدق إلى كميات النيكوتين الهائلة التي تتراص على هيئة علب صغيرة، وتمارس عليّ السحر الأسود وقانون الجذب دون أن تبذل أدنى مجهود.
ولكيلا أخضع لرغبتي بنفث الدخان من فمي وأنفي، قررت أن ألعب لعبة صغيرة، تقوم على محاولة تخمين عدد الخطوات بين الأشياء الثابتة، نظرت إلى يساري واستطلعت المشهد على طول خط النظر، محاولةً تخمين المسافة بين كشك بيع الدخان ومحل بيع الأزهار، وبذلك يكون الكشك قد أصبح خلفي وتجاوزته دون الشعور بالانسلاخ العاطفي عنه. قدّرت عدد الخطوات بمئتي خطوة، ثم بدأت بالمشي والعدّ للتأكد من صحة تخميني، ولم يكن لدي أي شك بأنني قد أخطئ، ولكن لما وصلت إلى محل الأزهار كان عدد خطواتي قد جاوز ثلاثمئة خطوة منذ برهة، وكنت قد توقفت عن العد عند الخطوة العاشرة بعد الثلاثمئة.
تعجّبت من سوء تقديري للمسافة، وتذكرت صديقي الذي ضحك عندما خضنا حواراً حول سهولة قيادة السيارة بالنسبة للرجال أكثر من النساء، إذ قلت له إن هنالك تلك الحكاية التي تعتقد بأن النساء غالباً يواجهن مشكلةً بتقدير المسافات، فابتهج، وقال لي: "إنني أضاهيك أنوثةً في هذا المجال!".
يبدو إذن أن تلك العبارة غير دقيقة، فالرجال أيضاً يخطئون في تقدير المسافات. قررت أن أعيد الكرة وحاولت أن أكون أكثر دقة، مستفيدة من تجربتي السابقة ومعتمدة على ذاكرتي القديمة، إذ اعتدت عندما كنت طفلة أن أقيس المسافة بين بيتنا وبيت جدي بالخطوات، ولأن خطواتي كانت صغيرة مثلي، فقد قمت بتقسيم تلك المسافة إلى نصفين، النصف الأول من منزلنا إلى أول عمود إنارة ويستهلك خمسين خطوة، والنصف الثاني من عمود الإنارة ذاك إلى العمود الذي يليه والذي يقع بجانب منزل جدي تماماً، ويستغرق ذلك النصف أيضاً خمسين خطوة، وبذلك تكون المسافة الإجمالية مئة خطوة، وبهذه البساطة كنت أستطيع أن أدلّ أي إنسان على منزل جدي، شرط أن يقف أمام منزلنا وأن يعرف العد من واحد إلى خمسين.
أعجبتني اللعبة وساقتني داخل أزقة المدينة وشوارعها المزدحمة منها والخالية أيضاً، وألهتني تماماً عن التفكير بالتدخين، كما جعلتني أتساءل: هل أستطيع أن أحدد بدقة المسافة التي يجب تركها بيني وبين الآخرين في العلاقات الاجتماعية والعاطفية؟
إذن أعدت الكرّة، ولأن اللاذقية مدينة التناقض ويتجاور فيها الفقر المدقع والثراء الفاحش كتجاور فرشاة الأسنان والمعجون في وعاء واحد، فقد كان المشهد أمامي خليطاً من مظاهر الفقر والثراء، لذا حاولت تقدير المسافة بين إحدى البنايات القديمة الآيلة للسقوط وواحدة من تلك الأبنية الضخمة الحديثة، وكدت أنجح في ذلك بفارق عشر خطوات تقريباً، أعجبتني اللعبة وساقتني داخل أزقة المدينة وشوارعها المزدحمة منها والخالية أيضاً، وألهتني تماماً عن التفكير بالتدخين، كما جعلتني أتساءل: هل أستطيع أن أحدد بدقة المسافة التي يجب تركها بيني وبين الآخرين في العلاقات الاجتماعية والعاطفية؟ واكتشفت أن الخطأ في تقديري لتلك المسافة، سواء مع الأصدقاء أو الأحبة، كان سبباً في إيلامي وشعوري بالخيبة، أما المرّات التي كنت أنجح فيها بتقدير تلك المسافة، فقد كنت أحصد الراحة والمتعة.
أنهيت جولتي الصباحية وعدت إلى المنزل، وفي طريقي مررت بجانب قهوة رصيف صغيرة، فلفحت أنفي رائحة الدخان المتصاعد من سيجارات "الحمراء"، بدأ رأسي بالدوران، تسمّرت في مكاني وكنت أهم بطلب سيجارة من رجل غريب تماماً، لكنني تذكرت النصيحة التي قرأتها على فيسبوك، فقررت أن أدخل إلى متجر الأحذية القريب، وأشغل نفسي بتجريب الأحذية ذات الكعب العالي، والتي أثق تماماً بأنني لن أشتريها يوماً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...