شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"كلما مشيت في شوارعها أحزن"... عن اللاذقية مدينة "اللون الرمادي"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 3 نوفمبر 202004:45 م
تعود المهندسة سارة بذاكرتها بين حين وآخر إلى ذلك البيت، صورته مطبوعة في مخيلتها، تغمر الشمس جدرانه البيضاء، أسقفه عالية مزخرفة بالألوان الزاهية، أبوابه خشب، إنه منزل قديم قرب منزلها في حي الصليبية في مدينة اللاذقية السورية.

وداعاً قصر الأحلام

لن تنسى سارة ذلك الصباح أبداً، عندما خرجت إلى شرفتها، لتجده اختفى تماماً، تحوّل إلى حجارة مهدمة، تقول: "حدث ذلك قبل عدة سنوات، كان المنزل هو المنظر الوحيد الجميل وسط البشاعة التي نعيشها".

تضيف سارة لرصيف22: "رغم أنّ المنزل مهجور، كان يبث الروح في الحي بأكمله، كنّا نراه مصدراً للجمال والتراث السوري، أطلق عليه جارنا اسم قصر الأحلام، حتى أنني كتبت عنه قصيدة صغيرة. لا أدرى أين هي الآن، لكن أذكر أنها كانت نابعة من القلب".

ما يزعج سارة أنّ المنزل تهدم دون أن تقوم الجهات التي هدمته بإنشاء أي بناء حديث عوضاً عنه. ما زال مكانه فارغاً منذ نحو 10 سنوات.

تعمل سارة صوفي (24 عاماً) مهندسة معمارية في مدينة اللاذقية، تقول: "بعد تخرجي من الجامعة حلمت بتنفيذ العديد من المشاريع في المدينة، تأثرت بالمهندسة المعمارية زها حديد، أذكر مقولة لها: "لا أحب أن أضع الناس في علب كبريت"، لذلك نلاحظ أن معظم مشاريعها لا تحتوي على زوايا بل على انحناءات فقط".

ما هي خيارات المهندس المعماري في سوريا؟ تجيب سارة: "إما أن يصبح أستاذاً لمواد الهندسة المعمارية في الجامعة، أو أن يعمل في تصميم المكاتب، أو المطابخ، أو المنازل بشكل عام، أما أن يصمّم جسراً أو نفقاً أو حديقة عامّة أقرب إلى المستحيل أو الخيال".

ترى سارة أن الجمال اختفى بشكل مطلق من مدينة اللاذقية، لم يبق سوى مشاهد المولدات الكهربائية والطرقات المحفرة والأبنية الباهتة، تقول: "إنها مدينة بلا روح أو ألوان".

أين هوية المدينة؟

يجلس محمد يومياً في مقهاه المفضل. 10 سنوات مضت على انتقاله من مدينته حلب الى اللاذقية، وما زال هذا المقهى المكان الوحيد المعبِّر عن هويّة المدينة الساحلية.

مقهى دافئ تتدلى من أسقفه فوانيس مضيئة ملونة، تحكي حجارته القديمة قصة المدينة، يلتصق محمد بالمقعد الخشبي، يسمح لبخار الشاي أن يلفح وجهه، يسترخي لموسيقى المكان وسحره وجماله.

"معظم الأبنية لونها بني أو خمري داكن، عندما تنظر إليها تشعر أنّك في ثكنة عسكرية، لأن مؤسسة الإنشاءات العسكرية مسؤولة عن كل المشاريع السكنية التابعة للبلدية"

يقول محمد محمود (26 عاماً) لرصيف22: "أشعر بالحزن كلما مشيت في الطرقات، اللاذقية مدينة بلا هوية، أينما تحركت لا ترى سوى التشوهات البصرية، أتمنى أن أمارس دوري كمهندس معماري في تحسينها".

ويضيف: "حتى المدينة القديمة تهمشت جداً، هدموا البيوت القديمة، أو تركوها مهجورة، بدلاً من فتحها معارض فنية أو مكتبات عامة، المقهى الذي أجلس فيه، بناء قديم شكرت الله لأنهم لم يهدموه".

يتذكر محمود مدينته حلب. لم تستطع الكوارث التي تعرضت لها خلال الحرب أن تمحو طابعها المعماري العريق، حتى نظام البناء فيها مختلف عن اللاذقية، الأرصفة والجدران والساحات العامة، "كل حجر فيها يقول لك: أهلاً بك في حلب"، يقول محمود.

ثكنات عسكرية

يشرح محمود أنّ معظم الأبنية لونها بني أو خمري داكن، عندما تنظر إليها تشعر أنّك في ثكنة عسكرية، لأن مؤسسة الإنشاءات العسكرية مسؤولة عن كل المشاريع السكنية التابعة للبلدية في مدينة اللاذقية، بالتالي ستختار ألواناً غامقة، فيبدو المكان كأنه سكن للعساكر.

ويتفق محمود مع سارة بشأن المساحات المتاحة للمعماري في تحسين مدينته، يقول: "لا يُسمح للمعماري بإظهار إبداعه، المطلوب منه تصميم بناء يستغل كل المساحات بتكلفة أقل، دون إضافة أي لمسة جمالية أو فكرة هندسية، لذلك نجد أغلب الأبنية تشبه علب الكبريت، مربعة الشكل، مكسوة بالحجر من الواجهة، أما من الخلف أحياناً فتبقى عارية".

شجرة الجاكرندا

تحت شجرة الجاكرندا يجلس العم أبو سامر، حوله أزهار الجاكرندا البوقية الشكل، البنفسجية اللون، يقول لرصيف22 "هذا أجمل شارع في مدينة اللاذقية، السبب هذه الشجرة وأزهارها التي تعيد الروح إلى دقات قلبي".

يرى العم أبو سامر (80 عاماً)، بائع في محل بقالة، أن مدينة اللاذقية كانت سابقاً أجمل، لكن التوسّع العمراني العشوائي، وإهمال المدينة القديمة، غيّبا هويتها، يضحك، ويقول: "لا يخلو الأمر من بعض الأماكن التي يجد المرء فيها راحته".

يتمنى أن تتحسن مدينته، لأنها تستحق أن تكون كالمدن اليونانية الساحلية، أو كجزيرة سانتوريني، تمتلك من الجمال والطبيعة الحلوة ما يكفي، لكنها "تفتقر إلى المحبين لها"، بحسب قوله.

شارع فيروز

شارع فيروز وسط مدينة اللاذقية يضم سلسلة من المقاهي التي تحمل أسماء أغنيات فيروز: "صباح ومسا"، "اسمينا"، "سوا ربينا"، يقول أبو سامر: "رغم أن الشارع ليس قديماً، إلا أن المقاهي والرسومات على جدرانه تبعث راحة نفسية، وتدفعك للتردّد إلى المكان". 

"الواقع يختلف عن الورق"

يبحث المهندس الشاب أيهم خلال سيره في مدينة اللاذقية عن جدار واحد ملوّن في المدينة، أو إشارة مرور مضاءة، أو حتى ساحة عامة جميلة، يقول: "طرطوس ودمشق وحلب أفضل حالاً من اللاذقية من الناحية التخطيطية والمعمارية، حتى الساحات العامة أجمل من هنا".

يتخيل أيهم ساحة عامة وسط مدينة اللاذقية، مليئة بالأزهار الملوّنة.

يتخيل أيهم ساحة عامة وسط مدينة اللاذقية، مليئة بالأزهار الملوّنة، والأعشاب الخضراء، حولها أعمدة إنارة تتدلى منها فوانيس صفراء اللون، ومقاعد خشبية دافئة، يقول: "أتمنى أن تُتاح الفرصة للمهندسين المعماريين لإعادة الحياة إلى الساحات العامة في المدينة".

يشرح أيهم: "تصميم الساحات العامة يعود للجهات المعنية في البلديات، سمعت أن هناك الكثير من الأفكار والمشاريع التي نُفذت ودُفع عليها مبالغ ضخمة، لكن لم نلمس شيئاً على أرض الواقع، ما زالت الحدائق والساحات العامة كما هي دون أي تحسين".

بوالين ملونة

تقف ميرنا في حي دوار الزراعة في مدينة اللاذقية بانتظار "الميكرو" أو الحافلة الصغيرة، يقع نظرها على دراجة هوائية مليئة بالبوالين المضاءة بالألوان، يبيعها شاب في مقتبل العمر، تسرع إلى مكان الدراجة، تختار بالون وتشغله لتنعكس الأضواء على وجهها.

تقول ميرنا مصطفى (42 عاماً) لرصيف22: "فقدنا الدفء في هذه المدينة، أصبحت الأماكن كلها مرتبطة بسوء واقعنا، مكان مرتبط بانتظار الميكرو، آخر مرتبط بانتظار الخبز، هكذا تمضي الأيام، شعرت أن هذه البوالين المضاءة أعادت الحياة إلى الساحة، أضافت منظراً جميلاً نفتقده منذ زمن".

ترى ميرنا أن مدينة اللاذقية جميلة فقط في عيد ميلاد السيد المسيح، لأن بعض العائلات تزيّن شرفاتها بشجرة الميلاد، لكن فيما خلا ذلك لم تتحسن هذه المدينة منذ كانت صغيرة، الأنفاق ألوانها باهتة، تشعرك كأنك تدخل إلى حمّام، الجسور حديدية زرقاء بلا أي لمسة جمالية، الطرقات مليئة بالحفر.

مدينة بلا طابع

المهندس فادي (اسم مستعار) يعمل في بلدية اللاذقية، يقول لرصيف22: "المدينة لا تمتلك أي طابع معماري أو هوية بصرية أو نمط هندسي، رغم أنها مدينة ساحلية سياحية".

يعود ذلك إلى أن نظام ضابطة البناء لا يشترط على المهندس تصميم واجهات معمارية تحمل شكلاً هندسياً، لذلك نجد معظم الأبنية الحديثة والقديمة دون أي لمسة معمارية، مربعة الشكل مع نوافذ صغيرة. ونجد ضمن الحي الواحد بناء من خمسة طوابق وآخر من سبعة بأشكال مختلفة دون مراعاة المنظر العام للحي أو المدينة. بحسب رأي فادي.

ترى سارة أن الجمال اختفى بشكل مطلق من مدينة اللاذقية، لم يبق سوى مشاهد المولدات الكهربائية والطرقات المحفرة والأبنية الباهتة، تقول: "إنها مدينة بلا روح أو ألوان"

ويرى فادي أن الاعتماد على نظام المربعات السكنية أو "علب الكبريت" يعود لانخفاض الميزانية، "كلما أضفت لمسات جمالية أو أفكاراً معمارية، ازدادت التكلفة. لذلك يفضّل معظم المهندسين والمتعهدين الشكل المربع بلا زوائد".

"حاولنا وفشلنا"

ماذا عن العشوائيات؟ يجيب فادي: "حاولنا مرة بالتعاون مع بلدية اللاذقية ونقابة المهندسين طرح فكرة تلوين الأحياء الشعبية بألوان زاهية كما فعلت مدينة ريو دي جانيرو، لكننا فشلنا لأن معظم العائلات رفضت تلوين منازلها لارتفاع التكلفة".

ويكمل: "مهمتنا الآن منع ظهور أي بناء بلا واجهة معمارية، وتوحيد واجهاتنا. الخبرات موجودة لكن كامنة، علينا أن نخلق طابعاً يحكي عن مدينتنا".

ويضيف فادي: "تحتوي رخصة البناء التي تطلبها البلدية: المساحات الأفقية، المقاطع الشاقولية، الواجهات، الدراسة الانشائية، دراسة الكهرباء، التكييف، العزل الحراري، لكنها لا تشترط منظوراً ثلاثي الأبعاد للبناء".

"لا تشترط رخصة البناء منظوراً ثلاثي الأبعاد".

"عندما نضيف المنظور كشرط رئيسي ضمن الأوراق الرسمية للحصول على رخصة بناء، سنفجّر الإمكانات المعمارية في مدينتنا. كذلك يمكننا استبدال الحجر بالقرميد كما تفعل معظم الدول الاوروبية، تكلفته ليس مرتفعة، لونه وشكله جميلان، وقابل للطلاء بسهولة".

بالنسبة إلى فادي فإن الشارع الحضاري ليس مجرد "منظر، إنما خدمات، مثلاً أن يحتوي كل حي على نادٍ رياضي، ومسبح، ومستوصف، ونقطة إطفاء، لكن للأسف لا تراعى هذه الخدمات عند الحصول على رخصة بناء، فقط يراعى وجود حديقة أطفال".

وينهي فادي حديثه قائلاً: "هناك الكثير من الحلول والإمكانات الكامنة، نحتاج إلى قوانين صارمة، وأناس تحب مدينتها، وتسعى لتحسينها، وليس لاستغلال منصبها الرسمي".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image