شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
أيها الله، إليك من أكون

أيها الله، إليك من أكون

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 11 يناير 202112:05 م

أحمي ظلالي من الذئاب التي تعيش في قلبي. لم أمت بعد في غمرة الانشغال. لم أسمح للآلة أن تبتلعني. لذا قررت أن لا أعمل دواماً طويلاً، كي يتسنى أن أجرب الخفة، كالاستماع إلى الموسيقى. الاستلقاء في العشب. التفرج على المارة. الرسم. القراءة. الصمت الطويل والمؤنس. الغرق في أشياء محالّ الفينتج والبروكونت. الاستمتاع باللمس. لمس وجهي. يدي. خصلات شعري الكيرلي. إبطيّ. عانتي. جلدة بشرتي المائلة إلى السمرة. أحزاني. تلك التي أروضها كي لا تبقى وحوشاً في حديقة النوم.

أحمي ظلالي. أتركها تسرح من دون خوف. تنزل إلى شقة جارنا الذي يسهر إلى ساعات الصباح الأولى. ثم يغرق في كنبته. أحمي ظلالي بالنوم عشر دقائق فقط على كرسي الشارع. الابتسام للمرأة الكحولية. تلك التي تنظر إلى العالم من عينين انطفأتا. وضع سنتيمات قليلة لمتشرد، يترغل كلماته من بلده الأم البعيد، ولم يعد قادراً على التحكم بمبولته ولا لسانه الذي يمضغ الأسى. الصعود إلى باص لا أعرف وجهته. النزول منه للمشي في حارات لم أزرها. تبديد الوقت لمجرد تبديده. الخيال لمجرد الخيال. البكاء لمجرد البكاء. الجلي وطي الكلاسين وتنظيف الأواني البورسلانية، والاستمتاع بالعري في الاستديو الذي أعيش فيه. ممارسة العادة السرية كي تنمو زهرات البيت، والوحدة القاسية التي تبقي وجهي في المرآة المالسة. 

ولدت بين نسوة يدندن أغاني نجاح سلام وشادية وأسمهان وصباح. نساء يرقصن مستلهمات حركاتهن من بديعة مصابني وهند رستم وسامية جمال وشفيقة القبطية. نساء يعشن في صور أفلام شاهدنها في صالات عرض لم تعد موجودة اليوم

أحمي ظلالي بتجريب أشياء لم تعد تعني أحداً. أظن أني ولدت لزمن آخر. لا وجود له اليوم. أحمل أسمالاً من حقبة لم أعشها. ربما هذا آت أيضاً من تربيتي، بين نساء ورجال يكبرونني بخمسين عاماً. ولدت لأم في الثانية والأربعين وأب في الخمسين، وبين جارات وجيران يبلغون الستين. عشت في طفولتي بين بيوت لا تعنيها الآلات. لم يعرف أهلها آلات الجلي ولا مكنات الحلاقة الكهربائية ولا الخلاطات. نسوة ابتكرن كل شيء من اليدين والحاجة. تقشير فصوص الثوم بالأصابع المليئة بالحركة وبآثار الآخرين. دق الكبة النيئة في الجرن كدق الألم والحزن. معس البصل باستخدام المطرقة الخشب، كمن يمعس الغياب وموت الأبناء المبكر. 

نسوة يعجّن حلوياتهن وخبزهن في الشقق ويتبادلن الأرغفة كأنهن يصنعن المعجزات في بيوت تشققت جدرانها. يسكبن بعضهن لبعض الأكلات اليومية كي ينسين أنهن جئن من مدن بعيدة. لا تعنيهن أصوات التلفاز، بل كان الراديو جزءاً من حياتهن الخلفية. غير المرئية. والغناء بأصوات شجية وإنشاد التعويذات التي توارثنها من أمهاتهن الآتيات من حمص وبانياس واللاذقية وريف حلب.

 الهمهمة بشتائم ودعوات آفلة. الاستماع الى أصوات مقرئي القرآن أو تلاوتها في جلسات المساء. ولدت بين نسوة يدندن أغاني نجاح سلام وشادية وأسمهان وصباح. نساء يرقصن مستلهمات حركاتهن من بديعة مصابني وهند رستم وسامية جمال وشفيقة القبطية. نساء يعشن في صور أفلام شاهدنها في سينما الأبيض والأسود في صالات عرض لم تعد موجودة اليوم. ولم تعد المدينة نفسها في الأصل. المدينة التي جئت منها، ولا تزال قدماي فيها لم تبرحا ساحة عبد الحميد كرامي. تربيت بين نساء تحجبن الآن أو متن، أو صرن جدات صامتات. حزينات يجربن العيش في زمن لم يعد لهن. يتمددن بأقدام ترهلت وسكنها الشك. ينتظرن الموت كي يأتي على غفلة. يسحب قلوبهن التي مالت إلى الضفة الأخرى من المدينة. 

منذ تلك اللحظة التي رأيت جارتنا من ثقب بابهم، تقبّل زوجها العائد من خدمته في الجيش، أو تمرير عجينة السكر التي كن يصنعنها على بدن إحداهن في مطبخ أمي، أو صور الجنس من مجلة متروكة عند جارتنا المردلية، منذ ذاك الحين، كنت أعبر إلى هذا العالم ككاميرا

تربيت بين نساء ثرثارات يروين كل الحكايات الطويلة. المنقوصة. الكاذبة. الخلاقة. ولدت بين روائيات يبتكرن القصص. يحكينها بزفرات عميقة وعيون ملتهبة وبشوق يموت اليوم. ولا تجده في الشفاه الحكاءة. لا شوق في الكلام والأحاديث. بل شعور ميت أن الحكاية لا تعني أحداً. كنت بين نسوة شبقات يحببن الجنس. يتلامسن. ينتفن حول فجواتهن ويلعبن بها ويتصهصهن. كان لهذه البراءة جرأتها، وقدرة ساحرة على تكوين صوري.

 منذ تلك اللحظة التي رأيت جارتنا من ثقب بابهم، تقبّل زوجها العائد من خدمته في الجيش، أو تمرير عجينة السكر التي كن يصنعنها على بدن إحداهن في مطبخ أمي، أو صور الجنس من مجلة متروكة عند جارتنا المردلية، منذ ذاك الحين، كنت أعبر إلى هذا العالم ككاميرا. وفهمت أن جسمي المركب، برغباته الكثيرة الفائضة، المتدلية والتي تنز كل الوقت خوفاً وارتعاشاً وحباً خبيئاً وحياء، كان يبني خبرته من هنا. من الصور التي تتشكل كل يوم. في شقة أهلي في الطابق السادس من بناية المصري، المطلة على المدينة التي لم تعلن موتها بعد.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image