في صالون جارتنا أم طلال، رأيت لأوّل مرة ناديا لطفي بدور "فردوس". كانت شقة أم طلال عالماً موازياً لما لا قدرة لي على اكتشافه في بيتنا، هناك أحببت شادية، كارم محمود، سيد مكاوي وصباح. عالم أشبه ببلاد العجائب في أسطورة أليس، أدخله بدهشة، أرى فيه رقصاً وأجساداً شبه عارية، بدءاً من التلفزيون، مروراً بالمجلات الفنية ووصولاً الى الأفيشات التي كانت جارتنا الشيعية مولعة بها، وأسمع فيه موسيقى لا إنشاداً دينياً أو مقاطع قرآنية.
رغبت بأن أكون امرأة، جذابة وشقراء. معايير الجمال في بيئة مسلمة، تعطي البيضاوات وصاحبات الشعر الأشقر قيمة مضافة عن السمراوات، وهذا ما تغيّر عندي مع الزمن.
هذه الأشياء كانت محرمة في بيتنا. التلفزيون الذي جاء متأخراً، كان مبرمجاً على قنوات دينية في بداية الألفية الثانية، والراديو لا يتزحزح عن خطب الشيخ عبد الحميد كشك، وصوته الثخين وهو يصرخ ويهذي، أو محطة القرآن الكريم التابعة لدار الفتوى ببرامجها المضجرة. لا صور ولا لوحات في البيت الذي حكمه والدي السلفي برقابة مشددة، وزادت رقابته بعد انطلاق برامج المنوعات على قناة المستقبل، والتي كان يعتبرها الأكثر إفساداً يومها.
كانت "فردوس" أول امرأة من خارج عالم النساء من حولي، ممن فتحن وعيي على مثليتي الجنسية وميلي للرجال، انتباهي إلى رجولة مختلطة بأنوثة، وحرارة ممزوجة بصلافة ما. وربما "فردوس"، بإغوائها وحزنها وشفاهها الطرية، علمتني كيف أصطاد شبان حارتي، أنا الذي تخليت باكراً عن الخجل، وابتكرت طرقاً مختلفة لجذب الرجال، واكتشاف أياديهم على جلدي، وأصابعهم الطويلة التي تترك آثارها الى الأبد، في زوايا الحي أو خلف البنايات المهدمة أو المهجورة، والتي لم تسلم من صواريخ ميليشيات الحرب، مستخدماً شيئاً من دلع الممثلة وعضات شفاهها التي لا تزال، من دون وعي مني، جزءاً من تعابير وجهي حين أنظر إلى رجل يغويني.
وربما ناديا لطفي، بإغوائها وحزنها وشفاهها الطرية، علمتني كيف ابتكر طرقاً مختلفة لجذب الرجال، واكتشاف أياديهم على جلدي، وأصابعهم الطويلة التي تترك آثارها الى الأبد، في زوايا الحي أو خلف البنايات المهدمة أو المهجورة، والتي لم تسلم من صواريخ ميليشيات الحرب
ولأن رقصها يومها كان اكتشافاً مخيفاً، كتبت نصاً وأخفيته في كيلوتي، وبعد ساعات محوته بالمصحّح الأبيض. أفرغته مثل إفراغ قضيب من مائه على كلمات لفتى لم يدخل مراهقته بعد. لا أتذكر ماذا كتبت. خفت فقط من أن يكتشفوا نصي، كما أخفيت في طفولتي صور العارضين المصورة على أغلفة البوكسرات التي يشتريها شقيقي، وكنت أبحث عنها في أكياس النفايات، أنقذها من الموت لتحيا في تهويماتي المبكرة وبين أصابعي، راسماً وجوههم وتقاسيم صدورهم وأفخاذهم الشهية.
رأيت ناديا لطفي أو "فردوس"، في الشاشة الصغيرة، تتمايل أمام عيني عبد الحليم حافظ، تعكس المرآة الصغيرة على خصرها نحول وجهه، وتحت أضواء لامعة تكشف الجزء العلوي من صدرها الحليبي. رحت أتعلم الهزّ، ذاك الذي لم أر مثيلاً له في طفولتي. كانت أثداء جاراتنا ذابلة ومرتخية. فهمت لاحقاً أنها أثداء منهكة من الإرضاع، إذ شاع في بيئتنا إرضاع الطفل حتى عمر الرابعة. كنت أتلصص على أثداء جاراتنا أيام الجمعة، حين تفرغ بنايتنا من الرجال، وتتجمع نسوتها في مطبخ أمي بدءاً لحفلة النتف. يومها رحت أتلمس صدري، باحثاً بين عظام صغيرة وجلد شاحب يميل ببياضه إلى الاصفرار عن نتوئه. رغبت بأن أكون امرأة، جذابة وشقراء. معايير الجمال في بيئة مسلمة، تعطي البيضاوات وصاحبات الشعر الأشقر قيمة مضافة عن السمراوات، وهذا ما تغيّر عندي مع الزمن.
أنتتعل حذاء أمي، وكان وقعه، وأنا أرقص مرتكباً، يُحدث بهجة خفية في نفسي، متمايلاً مثل "فردوس" في "أبي فوق الشجرة"، متخيلاً الرجال يصفقون لي وعيونهم تشتهي جسمي النحيل المخفي خلف أقمشة أمي، وأمام مرآتها التي ألصق عليها شقيقي المتدين شعارات "الجماعة الإسلامية"
كنت في الثانية عشرة من عمري، غير منتبه إلى الخوف الذي تركته آنذاك "فردوس" في جسمي، رحت أقلدها حين يفرغ البيت من صحبه. أخرج ما أهملته أمي من أقمشة الدانتيل والساتان والحرير، وألفه على جسمي الطري، أنتعل "اسكربينتها" الوحيدة التي اشترتها من سوق البالة موقعة من إيف سان لوران.
لم نكن نعلم من هو المصمم ولا قيمة الحذاء حينها، وقليلاً ما استخدمته أمي ومع أمراضها المزمنة نسته. لكن وقع الحذاء، وأنا أرقص مرتكباً، كان يُحدث بهجة خفية في نفسي، متمايلاً مثل "فردوس" في "أبي فوق الشجرة"، متخيلاً الرجال يصفقون لي وعيونهم تشتهي جسمي النحيل المخفي خلف أقمشة أمي، وأمام مرآتها التي ألصق عليها شقيقي المتدين شعارات "الجماعة الإسلامية".
المرة الثانية التي رأيت فيها ناديا لطفي في فيلم "السمان والخريف"، وكانت تؤدي دور "ريري"، بائعة الجنس. يومها لم أنم، متخيلاً حركات يديها الرشيقة وفمها مفرجاً عن ابتسامات شرهة، وسيجارتها الطويلة وهي تدخن بغنج. طوّرت "ريري" ما تركته "فردوس" فيّ: أقلد حركة اليد وأنا أمسك قلم البيك الأزرق في فمي، أو السكائر المحلاة التي كنا نشتريها من أبو مصطفى بائع الحي، واضعاً السيجارة المتخيلة في فمي، ونافخاً رغباتي دفعة واحدة، آتياً بكل الرجال الذي حلمت بهم في حاراتنا، والآخرين الذين اصطدتهم وقبّلتهم متخيلاً نفسي "فردوس".
تموت ناديا لطفي، تاركة أفلاماً ومواقف وصوراً شتى لأجيال، بالنسبة لي تحيا ناديا لطفي في ذاكرتي وبدني، اليوم أستعيد معها هوسي الطفولي بكوني امرأة شقراء وجذابة، صاحبة عضات شفاه لا تنتهي وغير مرئية، تدخل المرآة كما أليس في بلادنا العجيبة.
وداعاً "فرودس"، وداعاً "ريري" وإلى اللقاء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...