حملت حداثة القرن العشرين بشرى الرفاهية والراحة للإنسانية، لكنها لم تخبرنا مسبقاً أن كلفة هذه الراحة سُتدفع مقدماً من أنظمتنا الحيوية، التي لم تتكيّف يوماً على الراحة، بعد أن عاش الأسلاف ملايين السنين يصارعون من أجل توفير أبسط احتياجاتهم.
ربما يتجلّى هذا الوعد الزائف بتزايد حالات الإصابة بأمراض العمود الفقري والمفاصل بين الشباب والمراهقين/ات في مصر (كما في العالم)، بشكل غير مسبوق، لتزيح الدراسات الطبيّة الحديثة الستار عن إحدى ثمار الراحة والرفاهية التي جعلت الشيخوخة تبدأ من الطفولة.
"كنت محلقّة كالفراشات"
تلاحظ مروة عبدالله (29 عاماً)، تسكن في القاهرة، هذا التحوّل الذي بدا عليها فور التخرّج من الجامعة، فتحوّلت من فتاة خفيفة الوزن، يمكنها الركض يومياً لأكثر من ساعة دون الشعور بالتعب، ومواصلة ضرورات الحياة اليومية، إلى جسد منهك من أبسط الأنشطة.
تحكي مروة لرصيف22: "بعد التخرج لم يزدد وزني عن 60 كيلوغرام، كنت مُحلقّة كالفراشات، على الرغم من أن شهيّتي للطعام كانت كبيرة، لكن بعد التخرّج والالتحاق بعمل مكتبي في أحد البنوك، صرت أمضي 9 ساعات يومياً على الأقل جالسة بين المكتب والمواصلات، ولضيق الوقت، أتناول طعاماً جاهزاً بشكل شبه يومي".
لاحظت مروة بعد مرور عام واحد أن وزنها زاد 15 كيلوغرام، كل محاولات تخفيض الوزن التي قامت بها باءت الفشل، تحت وطأة ضغط العمل وضيق الوقت، تقول: "منذ عامين، بعد ألم متواصل في أسفل الظهر، خضعت للفحص الطبي الذي كشف عن مشكلة في فقرتين من الفقرات القطنيّة".
"حدوث ضرر للعمود الفقري والمفاصل، عادة ما كان يبدأ بعد سن الخمسين، نتيجة التقدم في السن، لكن أن نراه اليوم شائعاً بين المراهقين/ات والشباب، فهو أمر يستحق الانتباه والتوقف"
"منعني الطبيب من الحركة إلا بعد برنامج دوائي يعقبه برنامج للعلاج الصحي حتّى لا تتدهور الحالة، مشدداً على منعي من الجلوس لفترة تتجاوز الساعة، وإذا حدث، يجب عليّ بعدها التجوّل في المكان على الأقل لمدة 5 دقائق، وأوصاني بضرورة تخفيض الوزن، لأن هذا أحد العوامل التي سرّعت إصابتي بهذا الأمر الذي لا يصيب سوى المسنّين".
غيّرت تعليمات الطبيب تلك حياة مروة، قرّرت أن تترك العمل في البنك وتتجه للعمل الحرّ في تصميم الجرافيك، وحافظت على تمارين السباحة التي غيّرت حياتها جذرياً، بعدما أخبرها الطبيب أن السباحة أكثر شيء يحافظ على صحة العمود الفقري.
"لا وقت للعلاج"
بدأت هدير رجب (25 عاماً)، بالشكوى من آلام أسفل الظهر، بعد فترة طويلة من الجلوس في المنزل، عقب مرض والدتها الذي أجبرها على حمل كل أعباء العمل المنزلي ورعاية والدتها المريضة.
تروي هدير في حديثها لرصيف22: "قبل ثلاث سنوات، أصبت بمشكلة صحيّة في الفقرات، وطلب مني الأطباء إجراء جراحة دقيقة، وكان إجراؤها مستحيلاً بسبب زيادة وزني. بعدها بفترة قليلة مرضت والدتي، ما اضطرني لترك العمل لرعاية شؤون الأسرة، فأصبح عبء رعاية والدتي المريضة وبقيّة أفراد الأسرة والعمل المنزلي اليومي المضاعف، عليّ وحدي، ما جعل الآلام تصبح صعبة للغاية".
بعد زيارة هدير للطبيب، طلب منها أشعة مقطعية للفقرات القطنية والعجزية، لأن الألم في أسفل الظهر يعني إصابة في هذه المنطقة، تستدرك هدير: "لكنني لا أجد حتى الوقت لإجراء الأشعة، ولن يكون لديّ فرصة لتلقي علاج أو الراحة بسبب ظروفي العائلية".
"بدأت تظهر أمراض العمود الفقري والمفاصل في مرحلة الشباب والمراهقة بأعداد كبيرة".
يشرح أخصائي جراحة العظام والعمود الفقري، الدكتور محمد سمير الغندور: "بدأت تظهر أمراض العمود الفقري والمفاصل في مرحلة الشباب والمراهقة بأعداد كبيرة في السنوات الأخيرة، وذلك لعدّة أسباب، أهمها سوء التغذية، انعدام ممارسة الرياضة، التكنولوجيا الحديثة ونمط العمل المكتبي الروتيني الذي يتسبب بظهور هذه الحالات، التي لم يكن يراها الأطباء تقريباً قبل ثلاثة عقود".
يتابع الغندور في حديثه لرصيف22: "التغذية الجيدة هي أهم عوامل صحة الجسم، خاصة العمود الفقري، ومن هنا بدأت الكارثة، فمع انشغال الآباء والأمهات بسبب نمط العمل الحالي، صار الأطفال يتناولون الطعام الجاهز الذي يتسبب بسمنة الأطفال ووالديهم كذلك، إذ إن الوزن الزائد هو أخطر مشكلات العمود الفقري والمفاصل، وبالطبع يزداد الأمر خطورة دون ممارسة الرياضة".
"وحتى الرياضات التي تهتّم بها العائلات تكون في الأغلب مخصّصة للذكور دون الإناث، وغالباً ما تنحصر في كرة القدم أو السلة، وهي رياضات هامة بالطبع، لكنها لا تفيد صحة العمود الفقري، لأن أي رياضة تعتمد على عضلات جزء محدّد من الجسم، تصنع تفاوتاً بين صحة عضلات على حساب عضلات أخرى من الجسم"، يقول الغندور.
"كأنني أحمل أوزاناً"
تذهب سما عزّت (15 عاماً)، إلى الدروس الخصوصية يومياً، بعد يوم دراسي طويل تضطر فيه للجلوس طويلاً. كانت تضطر منذ المرحلة الابتدائية لحمل حقيبة ثقيلة للغاية على جسدها الصغير، ما جعلها تكره أحياناً الذهاب إلى المدرسة التي تقع بجوار منزلها، سيراً لمدة 20 دقيقة يومياً، ذهاباً وإياباً.
تقول سما لرصيف22: "بدأت أشعر بألم في أسفل ظهري في الصف الثالث الإعدادي، خاصة قبل النوم، كأنني أحمل أوزاناً على ظهري، وزاد الألم بعدما التوى كاحلي في المدرسة. ذهبت إلى المشفى وأظهرت الأشعة حدوث كدمة في أسفل الظهر، أمرني الطبيب بالامتناع عن أي نشاط سوى المشي، وأكّد على ضرورة ممارسة الرياضة بعدما أخبرته أنني لا أمارس أي نشاط حركي، حتى المشي".
"كلما طالت فترة جلوسي في حصص الدروس الخصوصية، عاد الألم أقوى".
عما تشعر به الآن، تقول: "الآن أشعر بتحسّن بطيء بعد انتهاء فترة تناول العقاقير، لكن كلما طالت فترة جلوسي في حصص الدروس الخصوصية، عاد الألم أقوى".
يضيف الغندور: "حدوث ضرر للعمود الفقري والمفاصل، عادة ما كان يبدأ بعد سن الخمسين أو الستين، وهو أمر طبيعي نتيجة التقدم في السن، لكن أن نراه اليوم بين المراهقين والشباب، فهو أمر يستحق الانتباه والتوقف".
ويُرجع الطبيب ذلك إلى "عادات مدمّرة يراها الناس أمراً طبيعياً، مثل تصفّح الهاتف لفترات طويلة والذي يسبب التواء في الرقبة ترهق العمود الفقري، امتناع الأجيال الجديدة عن الخروج بعدما أصبحت وسائل التواصل بديلهم الأمثل لقضاء وقت الفراغ، ما يتسبب في زيادة الوزن، والجلوس لفترات طويلة في وضعيات خاطئة، سواء في المكاتب، المدارس أو المواصلات".
"أجيال هشّة قادمة"
نشرت المجلة المصرية للعمود الفقري ESJ، الصادرة عن الجمعية المصرية للعمود الفقري ESA، دراسة في منتصف العام الجاري، بعنوان "تقييم التصوير بالرنين المغناطيسي لمرض العمود الفقري القطني التنكسي عند الشباب: تقييم كمي لعوامل الخطر"، لتوضيح العلاقة بين أمراض العمود الفقري بين الشباب بين 21 – 30 عاماً، والسُمنة والتدخين والانقطاع عن ممارسة الرياضة، والتي وجدت عبر 200 حالة تمّ فحصها، علاقة مباشرة بين ما يسمى بـ "داء الفقار وتنكس القرص الفقري" (IVD)، وبين السمنة وقلّة النشاط الحركي والتدخين، في 95% من حالات الدراسة، كما لاحظت العلاقة المباشرة بين نمط الحياة غير المستقر، من حيث النوم والطعام وروتين الحركة ومؤشر كتلة الجسم الذي يوضح نسبة الدهون، وأمراض العمود الفقري التي تبدأ بعمر الشباب، لتسبّب تشوهات لاحقة إذا لم يتم علاجها بشكل سريع وصحيح.
"أمراض العمود الفقري والمفاصل هي أحد عوارض الشيخوخة، وظهورها لدى الأطفال والمراهقين بهذا الشكل والفجاجة، يجعلنا نتنبأ بشيخوخة صعبة وقاسية لهذه الأجيال"
خلصت الدراسة إلى أن ظاهرة أمراض العمود الفقري صارت أكثر شيوعاً بين الشباب والمراهقين عن ذي قبل، وهي ظاهرة عالمية وليست مقتصرة على مجتمعات معينة، لكنها في الحضر أكثر منها في الريف والمناطق غير المدنية.
يعلّق الغندور: "الحياة الحديثة والراحة ليست دائماً في صالح أجسادنا، لأن أمراض العمود الفقري والمفاصل هي أحد عوارض الشيخوخة، وظهورها لدى الأطفال والمراهقين بهذا الشكل والفجاجة، يجعلنا نتنبأ بشيخوخة صعبة وقاسية لهذه الأجيال، التي تدفع دفعاً، بسبب ظروف اقتصادية واجتماعية وثقافية، إلى أنماط غذائية مؤذية وقلّة ممارسة الرياضة، اللذين يرجعان في الأغلب إلى عوامل ثقافية واقتصادية".
"ولا تملك معظم العائلات المصرية ثقافة أن يذهب أبناؤهم لممارسة السباحة بشكل دوري، ويكتفون بها في أسبوع واحد طوال العام، صيفاً. كل هذه العوامل تنذر بأجيال قادمة أكثر هشاشة، لأن آلام العظام والعمود الفقري تعد من أكبر معوّقات الإنسان عن مواصلة العمل، وكلفتها الاقتصادية على الشعوب أكبر بكثير من كلفة تفاديها المبكر".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...