وفي منتصف حزيران/يونيو الفائت صدر قرار يقضي بزيادة أسعار العديد من أصناف الأدوية المصنعة محلياً، وبنسبة وصلت حتى 500%، في وقت ينتظر السوريون/ات تحسين وضعهم المعيشي الذي وصل إلى أسوأ مستوياته هذا العام.
بعد هذا القرار، وجد السوريون أنفسهم عاجزين تماماً فتغيرت عادات استهلاكهم للدواء دون مبالاة بآثار ذلك على صحتهم، فالوضع المادي هو سيد الموقف. آثر البعض شراء دواء واحد من أصل الوصفة كاملة، وخفّض آخرون الجرعة من تلقاء أنفسهم لتدوم العلبة وقتاً أطول، واتجه البعض للأعشاب الطبيعية كحل بديل لبعض المشاكل الصحية.
خفض الجرعة طوعياً واختصار الوصفة
تصف الصيدلانية مهى الخطيب المشهد بالمحزن واللا إنساني. وتروي لرصيف22 إحدى القصص التي حصلت معها: "زارتني سيدة في الستين من عمرها بوجه شاحب وتشكو الدوار، وطلبت قياس ضغطها الذي كان مرتفعاً بشكل كبير، وأثناء الحديث معها أرجعت السبب للحزن والتوتر، ليتبين أنها خفضت جرعة دواء الضغط، فبدلاً من حبة يومية، تتناول حبة كل يومين أو ثلاثة لتبقى العلبة التي تحتوي على ثلاثين حبة ثلاثة أشهر بدل شهر واحد. وتعلل الأمر بأنها لا تستطيع شراء علبة كل شهر".
بعد قرار رفع أسعار الأدوية، وجد السوريون أنفسهم عاجزين تماماً فتغيرت عادات استهلاكهم للدواء دون مبالاة بآثار ذلك على صحتهم، فالوضع المادي هو سيد الموقف
عمران شاب في الثلاثين من العمر يعيش في دمشق، وهو موظف راتبه لا يتجاوز 50 ألف ليرة (20 دولاراً بحسب سعر الصرف غير الرسمي). يقول لرصيف22: "زوجتي تعاني من قدم سكرية وتحتاج إبرة بسعر 19 ألف ليرة، إضافة للفيتامينات الخاصة بمرض السكري والضرورية لإتمام العلاج كما أخبرني الطبيب، ولكن ليست لدي القدرة على تأمين ثمن جميع الأدوية، فاختصرت الفيتامينات وجمعت ثمن الإبرة من الأصدقاء والأقارب".
وحسب عمر الرشيد الذي يملك صيدلية بمنطقة مساكن برزة شرق دمشق، يلغي العديد من المرضى الكلس والفيتامينات من الوصفات الطبية، ويشترون الدواء الرئيسي فقط، غير آبهين بالحصول على العلاج كاملاً.
توافقه مها وهي تدير صيدلية الخطيب وسط دمشق، وتضيف أن عدد الأشخاص الذين يراجعون الأطباء تدنى بشكل ملحوظ، لأن المريض يمكن أن ينفق نصف راتبه الشهري لدفع كشفية الطبيب وشراء الأدوية الموصوفة له. أما من يأخذون الدواء كاملاً تبعاً للوصفة، كما تقول مها، فلا يتجاوزون عشرة بالمئة مقارنة بما كان عليه الوضع قبل رفع أسعار الدواء، وتتابع بحسرة: "نقف عاجزين أمام الحالات التي تدخل الصيدلية، وأمام ما يعانيه الناس".
وكمثال على ذلك التقينا أحمد وهو في العشرين من العمر، وقد أصيبت والدته بفيروس كورونا. ذهب لصيدلية بدمشق وبحوزته وصفة طبية تحتوي على ثماني إبر يبلغ مجموع ثمنها 20 ألف ليرة سورية (حوالي ثمانية دولارات)، فطلب إبرة واحدة ليتمكن من شرائها، علماً أنه والدته لن تستفيد إن لم تحصل على كامل العلاج، وجوابه بسيط على الأمر: "إذا تمكنت من الاستدانة فسأحضر لشرائها".
وهنا تشير بتول عبد الرحمن وهي صيدلانية تعمل بمنطقة الشعلان وسط دمشق، إلى أن المصاب بفيروس كورونا بحاجة ماسة لهذه الإبر، وتقول لرصيف22: "في مثل هذه الحالات نقف عاجزين. في السابق كنا نساعد قدر الإمكان، ولكن مع تزايد الحالات المشابهة التي نستقبلها كل يوم، لم تعد لدينا القدرة على المساعدة".
انخفاض مبيعات الصيدليات
انخفاض المبيعات هو مؤشر لانخفاض استهلاك عامة الناس للدواء حسب الصيدلانية بتول، وتقول: "أسعار الأدوية ارتفعت أربعة أو خمسة أضعاف، لذلك يفترض أن يرتفع المردود المادي للصيدلية بالتوازي مع ذلك، ولكن في الحقيقة بقي كما هو، لأن عدد الأشخاص الذين يشترون أدويتهم كاملة مثلما كانوا يفعلون من قبل قد انخفض".
وتقدر بتول نسبة انخفاض المبيعات بين 40 و50 بالمئة، وتقول: "أشخاص كثر استغنوا عن الدواء، فهو، برأيهم، أقل أهمية من حاجات أساسية أخرى، ونتيجة لذلك هناك صيدليات أغلقت أبوابها بشكل نهائي وانتقل أصحابها لمهن أخرى قد تكون مفيدة أكثر من الناحية المادية".
عدد الأشخاص الذين يراجعون الأطباء تدنى بشكل ملحوظ، لأن المريض يمكن أن ينفق نصف راتبه الشهري لدفع كشفية الطبيب وشراء الأدوية الموصوفة له. أما من يأخذون الدواء كاملاً تبعاً للوصفة، كما تقول مها، فلا يتجاوزون عشرة بالمئة مقارنة بما كان عليه الوضع قبل رفع أسعار الدواء
خلطات الأعشاب أوفر من الأدوية
ومع ارتفاع أسعار الأدوية وتراجع المستوى المعيشي لمعظم السوريين/ات، إضافة لملاحظة بعضهم انخفاض فاعلية الدواء المصنع محلياً، أصبح التداوي بالأعشاب رائجاً في البلاد التي أنهكتها الحرب والفقر.
في سوق البزورية وسط أسواق دمشق القديمة، تنتشر محال بيع الأعشاب، ويعلق أصحابها لافتات متجاورة تعلن عباراتها عن توفر خلطات لعلاج الأمراض المختلفة، مثل التهاب المفاصل والقولون العصبي والسكري وارتفاع ضغط الدم والفشل الكلوي، إضافة للترويج لفوائدها برفع المناعة وتقوية الصحة.
التقينا صاحب أحد هذه المحال، ويدعى أبو الفتح الصباغ، وهو يبيع أعشاباً طبيعية متنوعة. يخبرنا بأن مبيعاته زادت بشكل ملحوظ مقارنة بالسنوات السابقة، خاصة في الوقت الحالي مع انتشار فيروس كورونا، إذ يلجأ كثيرون لخلطات رفع المناعة ومقاومة الأمراض الشتوية بشكل عام.
تحتوي هذه الخلطات على أعشاب بسيطة ومفيدة كما يصفها صاحب المحل، ومكونة بشكل أساسي من الصعتر البري مع البابونج واليانسون، ويمكن الحصول على كمية جيدة منها بسعر لا يتجاوز 2000 ليرة سورية، لذا يلجأ إليها الناس بدل شراء الدواء.
هكذا استعاضت هبة عن الدواء ببعض الأعشاب الطبية، وبرأيها إن لم تنفع فلن تضر، وتقول لرصيف22: "هناك أعشاب تساعد على علاج التهابات المجاري البولية التي أعانيها، وخاصة أنني غير قادرة على شراء الأدوية ومراجعة الأطباء بسبب ارتفاع تكاليف ذلك. عندما راجعت خبيرة أعشاب نصحتني بعشبة القريص التي لا تحتاج سوى غليها في الماء قبل أن تُشرب".
مع ارتفاع أسعار الأدوية وتراجع المستوى المعيشي لمعظم السوريين، إضافة لملاحظة بعضهم انخفاض فاعلية الدواء المصنع محلياً، أصبح التداوي بالأعشاب رائجاً في البلاد التي أنهكتها الحرب والفقر
من جانبه، لجأ معتصم وهو شاب مقيم في دمشق للخلطات الطبيعية التي ترفع مناعة الجهاز التنفسي، بسبب عدم قدرته على شراء إبر وصفها الطبيب لزوجته المصابة بالالتهاب الرئوي وسعر كل منها 19 ألف ليرة. وبناءً على آراء خبيرة، اشترى خلطة تتألف من الميرمية والريحان والصعتر البري، وما على زوجته سوى غلي معلقة صغيرة من كل نوع وشربها للحصول على الفائدة المرجوة.
ويشير طارق عوف، وهو صاحب متجر لبيع العقاقير العشبية في سوق البزورية، إلى أن محال الأعشاب تتعامل مع النباتات كمصدر طبيعي لعلاج الأمراض وتستخدم هذه النباتات بعد تجفيفها أو استخلاص زيوتها، كما أن بعضها يتم تناوله شراباً، ويؤكد لرصيف22 أن أناساً كثراً باتوا من رواد السوق بعد فقدان الأمل من الأدوية الكيميائية أو كمحاولة لتوفير النقود.
فاعلية الأعشاب أكبر في بعض الأحيان
يعاني عيسى شعبان، وله من العمر 45 عاماً، مرض تهيج القولون منذ سنوات. يقول إنه أجرى جميع التحاليل والفحوص وتناول مختلف أنواع الأدوية من دون فائدة، فلم يتخلص من آلام المعدة والانتفاخ، إلا أن سوق البزورية شكّل منقذاً له حسب قوله، إذ عثر على وصفة عشبية لعلاج القولون العصبي، وتتكون من ثلاثين نوعاً مختلفاً من الأعشاب، وبسعر معقول هو 2500 ليرة سورية، فكانت أكثر فائدة وأقل ثمناً من الأدوية.
ورغم عدم وجود أساس علمي واضح في سوريا للوصفات المقدمة من قبل العطارين، قررت هدى شمس الدين، بعد يأسها من الاستفادة من العلاجات الدوائية لوالدتها المصابة بالديسك وتآكل الفقرات، اللجوء للأعشاب لتحصل على خلطة تأمل أن تساعدها على الشفاء.
تقول الشابة المقيمة في دمشق: "والدتي في الستين من العمر وحالتها الصحية دوماً في تراجع رغم التزامها جميع الوصفات الطبية. يبدو أن فاعلية بعض الأدوية السورية أصبحت شبه معدومة، لذلك حاولت البحث عن حلول جديدة، ووصف لي معالج الأعشاب خلطة تتكون من نبات السندروس وبودرة السكر نبات والعسل".
على هدى أن تخلط المكونات وتقدم منها ملعقة كل صباح وكل مساء لأمها لمدة تسعين يوماً، على أمل الشفاء. لكنها تشير إلى ارتفاع أسعار الخلطات العشبية أيضاً، فهذا العلاج يكلفها 34 ألف ليرة سورية (حوالي 15 دولاراً)، وتضيف: "من يريد التوفير لن يستطيع حتماً شراء جميع الوصفات العشبية. ككل شيء في سوريا، طال ارتفاع الأسعار حتى هذا الأمر، وأصبح مكلفاً وغير مجدٍ لأغلب الناس".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت