أدى تفشي فيروس كورونا إلى اكتظاظ استثنائي في المستشفيات الحكومية والخاصة، وهذا ما ساهم بطريقة مباشرة في تدني الخدمات الطبية، وارتفاع كلفتها بسبب الكم الهائل من المرضى، ودفع ذلك فئات مختلفة من التونسيين للعودة إلى التداوي بالطرق التقليدية القديمة والخرافية، فترددوا إلى الوقاعات، والعرافات، والمعالجين الروحانيين وغيرهم، الذين تزدهر تجارتهم كلما غلت الأسعار.
والوقاعة عرّافة تعتمد في عملها على أجهزة بسيطة، هي خيط أحمر حريري على شكل كتلة متشابكة تقوم بربطه بخيط أبيض رفيع لاستخراج السحر، والحصى من الكلى، والأتربة من العين، والمدب هو ذلك الرجل الذي يعمل على إزالة السحر، وجلب الرزق، وتسهيل الزواج، وقراءة القرآن على الأموات، وتغسيلهم، وكل ذلك بمبالغ مادية عالية. أما "التقازة" فهي المرأة التي تتجول في القرى والدشر والمدن، وتطرق الأبواب لمن يريد "التتقيز"، ويعني الفعل "تقز" باللهجة التونسية "تكهن".
ويستعمل هؤلاء طرقاً وأساليب مختلفة يستميلون بها زبائنهم الذين لم يحظوا بتعليم جامعي، وتعرضوا لضائقة مالية، بعد أن عجزوا عن حل مشاكلهم اليومية، واستبد بهم اليأس.
"خيط الشفاء"
على بعد 141 كلم من العاصمة تونس، تحديداً في منطقة نفزة التابعة لمحافظة باجة، ذاع صيت منوبية (اسم مستعار) المختصة في إخراج السحر، والحصى من الكلى، وصلتُ إلى هناك، حيث التقيت تلك المرأة التي يتجاوز عمرها الخمسين عاماً، كانت كثيرة الحركة والكلام، حكيمة ورصينة في تصرفاتها مع زبائنها.
المشهد هنا يغني عن كل تعليق، سيارات بالجملة مركونة أمام المنزل، وعشرات الأشخاص من شبان وفتيات، وكهول، ونساء أتوا للتداوي على يدها "المباركة"، كما قال بعضهم لرصيف22.
ينظر سائق سيارة أجرة إلى منزل إحدى الساحرات المكتظ بالزبائن بشكل يومي، ويقول: "الطلبات على هذه المرأة فاق كل التوقعات"
رحبت بنا في البداية، وأجلستنا على كرسي بلاستيكي في بهو المنزل، ولم تسألنا حتى عن سبب قدومنا لأن النتيجة في كل الأحوال ستبتلع ذلك الخيط، سواء كنت مسحوراً أو لديك حصوات في الكلى أو غيرها.
ناولتنا خيطاً رفيعاً أبيض وفي أسفله كتلة من الخيوط المتشابكة من الحرير، وطلبت منا بلع الخيط بالاستعانة بقليل من الماء، بينما هي ممسكة بطرف الخيط الأبيض خارج الفم.
الإحساس الوحيد الذي تشعر به هو ذلك الخيط الذي يدغدغك في بلعومك، ويبعث على التقيؤ، بعد عشر دقائق تقريباً جاءت منوبية، وجذبت ذلك الخيط، لنتفاجأ بحصوات صغيرة علقت برأسه، وهذا ما يبعث فعلاً على الحيرة، رغم أننا لم نكن نشعر بالألم.
وكان يجلس إلى جانبي ثلاثة أشخاص آخرين، كلهم خرج خيطهم مرصعاً بالحجارة وبعض الشعر، ويحكون أن الخيط كان نظيفاً تماماً قبل ابتلاعه.
ورفضت منوبية الإجابة عن أي سؤال حول هذه المهمة التي تقوم بها، مؤكدة "أن هذه بركة، وكرامة من الله، وسيدي عبد القادر (ولي صالح)"، ولا يمكن الخوض في أحاديث عنها، لأن " البركة تطير"، حسب قولها.
"اختصار المسافات"
يقول سعد (43 عاماً)، سائق سيارة أجرة، التقينا به أمام منزل "الوقاعة"، إنه يأتي يومياً إلى هنا "فالطلبات على هذه المرأة فاق كل التوقعات هذه الأيام"، رغم أنه لا يؤمن شخصياً بهذا الدجل، حسب قوله.
ويقول منصور (45 عاماً) إنه جاء إلى منوبية للتخلص من أوجاع كليته، التي يعتقد أن بها حصوات، مؤكداً أنه لم يذهب إلى الطبيب لأن ذلك سيكلفه غالياً بين فحص، وصور، ودواء، وربما عملية جراحية، لذلك قرّر تفادي كل ذلك "واختصار المسافات".
وأكد لنا أحد الحاضرين، وهو جزائري، أنه تخلص كلياً من الأوجاع الذي كانت تراوده في كل مرة قبل المجيء إلى "الوقاعة"، مشيراً إلى أنه جلب اليوم والدته للتداوي على يد هذه العجوز.
ويعاقب القانون التونسي بالسجن مدة خمسة أعوام، وبغرامة مالية قدرها 800 دولار، كل من استعمل اسماً مدلساً أو صفات غير صحيحة أو التجأ للحيل والخزعبلات التي من شأنها إقناع الغير بوجود مشاريع لا أصل لها في الحقيقة، وذلك وفق الفصل (291) من المجلة الجزائية.
ويعلق أخصائي الطب الباطني، منير البرزي، لرصيف22: "من غير الممكن وصول الخيط إلى الكلية أو إلى المرارة"، نافياً أن يكون ما تقوم به الوقاعة صحيح".
وتنتشر في تونس مكاتب هؤلاء الدجالين والمحتالين على مرأى المسؤولين، وكل منهم يدعي المعرفة في شأن معين، وباتوا منافسين للأطباء المتخصصين.
"سيدي المدب"
عندما تسأل بعض التونسيين عن الشعوذة والسحر، يبتسمون ابتسامة عريضة دلالةً على أنهم لا يصدقون ذلك، ولا يؤمنون به، إلا أن الطابور الذي تراه أمام "الوقاعات"، والعرافات، يقول عكس ذلك.
يقبل التونسيون هذه الأيام على العرافات وبعض ممن يسمون أنفسهم بـ"الحكيم الروحاني"، و"التقازات" للتقصي عن مستقبلهم، خاصة مع تدهور الأحوال الاجتماعية والاقتصادية في البلاد نتيجة تفشي فيروس كورونا.
طلبت منا بلع الخيط وهي ممسكة بطرفه الأبيض خارج الفم، الإحساس الوحيد الذي تشعر به ما يدغدغك في بلعومك، ويبعث على التقيؤ، ثم جذبت الخيط، لنتفاجأ بحصوات صغيرة علقت برأسه
يفسر بلقاسم (مدب) لرصيف22 لجوء الناس إلى "الحكماء الروحانيين" مردداً أفكاراً شائعة: "هناك إقبال أكثر من المعتاد هذه الأيام، فالتونسي أصبح واعياً بأن لا شفاء له إلا بكلمات الله بعدما عجز العالم وكل العلماء عن إيجاد دواء لداء كورونا".
ويقول سامي (33 عاماً) عن نفسه إنه بات يزور " سيدي المدب" مرة على الأقل في الشهر، ليقرأ عليه ما تيسر من القرآن، ويقدم له بعض الأدوية التقليدية ليشربها "وقاية من السحر، والعين، والحسد"، على حد وصفه.
التقازة
"التقازة" من أقدم الشخصيات الروحانية التي كان يلجأ إليها التونسي في حال ضاقت به السبل، فهي تعتبر الطريقة الوحيد لمعرفة المستقبل، والتكهن به، وفقاً لآراء شائعة يتبناها عدد غير قليل من الناس.
ثم تطلب في النهاية "بركة سي عبد القادر".
الكلمات التي ترددها "التقازة" تكاد تكون معروفة، تسأل الزبون عن "اسمك واسم امك"، ثم تنظر إلى كف الفتاة، وتتمتم بكلمات غير مفهومة، ثم تقول: "صلِ على النبي"، وتبدأ في سرد أحداث تتماشى مع حالة الفتاة، فتقول لها هناك زوج قادم في الطريق، وهناك أموال وأولاد في انتظارك ستحول حياتك إلى الأفضل، ثم تطلب في النهاية "بركة سي عبد القادر".
عادةً، تشخّص "التقازة" حالة الفرد الذي وصل إليها بأنه مسحور، وعليه زيارتها مرات أخرى للتخلص من ذلك، وطبعاً بمقابل يبلغ 200 دولار.
وتعرف "التقازة" وسط من لا يؤمنون بها بأنها امرأة ذكية جداً، وتستطيع أن تخمن ما يدور في عقول غير المتزوجات أو الفتيان الباحثين عن عمل، لذلك تختار كلمات مقنعة وقوية من أجل كسب عقل الزبون، ليستسلم أمام قدرتها الوهمية.
"التونسي عندما تضيق به الأحوال يذهب إلى الحضن الذي يحتويه".
ردّ بعض الشباب الذين التقى بهم رصيف22 أسباب إقبال التونسيين/ات على العرافات في زمن الكورونا إلى عوامل نفسية، يقول لطفي القصريني (23عاماً)، طالب بكلية العلوم الإنسانية: "التونسي عندما تضيق به الأحوال يذهب إلى الحضن الذي يحتويه، ويخفف عنه ألمه، وهو ما نجح في تأسيسه هؤلاء الدجالين، إذ تمكنوا من وضع كمين محكم يسقط فيه كل يائس وبائس".
ويشاركه الرأي حسان، طالب بكلية الآداب، يقول: "إن الظروف الاجتماعية والاقتصادية دفعت بالناس للعودة إلى تلك المسائل التقليدية القديمة، وهو تصرف خاطئ يزيد من الفكر الخرافي وعقلية التواكل، ويشجع المشعوذين والدجالين ليصبحوا نجوماً وأبطالاً".
ويقول محمد (22 عاماً)، طالب في المعهد العالي لأصول الدين، إن العودة إلى العرافات والمشعوذين والمنجمين مؤشر على وجود فقر في التفكير وعلى التخلف الحضاري والعلمي والثقافي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...