شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"أشعر أني غريبة في بلدي"... عن العودة إلى الأردن بعد انتهاء فترة الدراسة خارجه

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 29 ديسمبر 202002:14 م

باءت كل محاولات عائلة الشاب جهاد المغربي (24 عاماً) بالفشل، إذ تعذّر إخراجه مما هو أقرب لـ "قوقعته" التي يقضي وقته فيها ما لا يقل عن ثماني ساعات يومياً خلال أيام العمل، و "حتى مطلع الفجر" خلال أيام نهاية الأسبوع التي من المفترض أن تكون أيام "متنفسه".

"قوقعة" جهاد أو "غرزته"، أو "غرفة حبسه الانفرادي" وغيرها من توصيفات أهله للمكان الذي يقضي فيه أغلب ساعات يومه، هي عبارة عن غرفة معيشة صغيرة المساحة، استطاع بأسلوبه الدبلوماسي أن "يحتلها" عن باقي غرف المنزل بحيث تكون تخصه وحده فقط. كل شيء تقريباً متوفر فيها: تلفاز ذو شاشة عصرية وكبيرة، خط إنترنت، كنبة مريحة (صوفا)، بجانبها كرسي ضخم من الجلد موجّه أمام شاشة، ولو كانت خطوط هذا الكرسي تنطق لكانت أكثر من هو صادق لوصف الحالة النفسية المرهقة التي يعيشها جهاد منذ أكثر من عام، داخل تلك الغرفة التي يمكن وصفها بأنها مظلمة، ودائماً مظلمة.

هذه المشاهد رصدتها بحكم معرفتي الشخصية للشاب جهاد وعائلته، لاحظتها في أكثر من زيارة عندما كنت أسأل عما إذا كان جهاد في المنزل، ويجيبني أهله بضحكة ساخرة حزينة في الوقت نفسه: "طبعاً في غرزته"، وفي آخر زيارة وتحديداً عندما رأيت الضوء الخافت الخارج من "غرزة جهاد" وهو ضوء لعبة "البلاي ستيشن"، قررت أن أكتب تقريراً عن الأثر النفسي الصعب الذي يعيشه شباب وشابات أردنيين/ات خاضوا تجربة الدراسة خارج الأردن، وذاقوا طعم الحرية والاستقلالية لأعوام، قبل أن يعيشوا "صدمات نفسية" بحسب حديثهم لرصيف22 فور عودتهم إلى الأردن بعد انتهاء فترة الدراسة.

"اليوم اكتشفت أن عمّان فعلاً غير لكن ليس بالمفهوم الذي كنت أحبه!"

"والله أنا غير مكتئب، والله أنا بخير" هو الرد المعتاد الذي يرد به جهاد على استفسارات أهله بشأن بقائه طوال الوقت داخل تلك الغرفة المظلمة. مرة سألت والدته عمّا إذا كان سبب اعتكافه في تلك الغرفة أنه مشتاق لزملائه في الدراسة في قبرص، فأجابتني: "كيف يشتاق؟ ها هم معه أون لاين طوال اليوم في لعبة البلاي ستشين!".

وبأسلوبه الدبلوماسي ذاته الذي اتبعه لاحتلال غرفة المعيشة في المنزل، لم يصدني  جهاد بطريقة صريحة وواضحة عندما طلبت منه أن يسرد لي تجربته النفسية التي اعترف أنها "ليست جيدة" بسبب اشتياقه لحياة الحرية التي تنفسها خلال أيام دراسته في قبرص، فاحتال علي بطريقة أخرى بأن عرفني على صديقات وأصدقاء له، يمرون بنفس الحالة النفسية التي يمر بها، ذكاء منه من التنصل بالحديث، وذكاء آخر منه لعلني أعرف تفاصيل ما يمر به من خلال ما يمر به أصدقاؤه وصديقاته.

مثل صديقته ياسمين الشامي (23 عاماً)، التي استهلت حديثها مع رصيف22 من المحور الجميل، أي فترة دراستها في واشنطن، قبل المرور إلى المحور "القاسي والصعب" بحسب وصفها بعد أن عادت إلى الأردن، فالمحور الجميل كما تسرده هو: "كانت أحلى ست سنين في حياتي، أربع منها لغايات الدراسة في جامعة جورج واشنطن، وسنتان عمل، أشك أنني سأعيش أجمل منها".

هنا أسرد قصص يعيشها شباب وشابات أردنيين/ات خاضوا تجربة الدراسة خارج الأردن، وذاقوا طعم الحرية والاستقلالية لأعوام، قبل أن يعيشوا "صدمات نفسية" بحسب حديثهم لرصيف22 فور عودتهم إلى الأردن بعد انتهاء فترة الدراسة... ما هو سبب هذا الأثر النفسي عليهم؟

"كنت حرة نفسي"

لم يفارق فعل الماضي الناقص (كنت) لسان ياسمين، وهي تعود بنا لذكرياتها من الماضي غير البعيد وهي تعيش وحدها في واشنطن، لكن الشيء الذي ما يزال ناقصاً، خوفها كما تقول أن "تبقى حالتي النفسية غير مريحة، فعقلي وقلبي ما يزالان معلقين داخل شقتي الصغيرة في واشنطن، تلك الشقة التي أنا وحدي من اختارت أثاثها، صحيح كانت مساحة شقتي صغيرة لكنها منحتني استقلالية واسعة، أنا اليوم أنام في غرفة نومي في بيت عائلتي في عمّان، غرفة أثاثها ليس من اختياري!".

كلما كانت تمر ياسمين في روايتها عن تجربتها في الغرفة، كانت تعود إلى تكرار كلمة "بيتي"، حيث ألصقتها في أغلب التجارب التي سردتها، مثل: "كنت أذهب إلى الجامعة مشياً من بيتي، كنت أقضي وقتاً طويلاً شاردة الذهن باستمتاع لأنني في بيتي، تعرفت على المشهد الجميل الذي تخبئه ساعات الصباح الباكر وتحديداً الساعة السادسة صباحاً عندما كنت أستيقظ وأنظر إلى السماء من شرفة بيتي، في واشنطن فقط اكتشفت لأول مرة أنني مورنينغ بيرسون!".

ليس فقط أنها "مورنينغ بيرسون" مما اكتشفته ياسمين خلال إقامتها في واشنطن، بل كما تقول: "اكتشفت ياسمين، عرفت من هي ياسمين وماذا تحب، اكتشفت أنني أحب اليوغا مثلاً، تعرفت على هوايتي هناك، وهناك تمكنت أن أصبح مدربة يوغا".

 ومن التجارب التي تشتاق لها: "مشتاقة إلى نبرة صوتي وكلها شغف وحرية في اتخاذ القرار وأنا أقول فجأة: بكرا بدي أروح على نيويورك بالسيارة، كنت حرة نفسي بكل معنى الكلمة، وبالمناسبة كنت متفوقة جداً في دراستي، فهناك في واشنطن تعلمت معنى المسؤولية".

"لقد وقعنا في الفخ"، قالتها ياسمين ضاحكة عندما انتقلنا في حديثنا إلى محور العودة إلى البلاد، وبدأت أيضاً سردها عن هذه التجربة بكلمة متعارف عليها في الأردن: "وينك؟"، هو نفس السؤال الذي "كنت قد ارتحت من سماعه لمدة ستة أعوام في واشنطن، وما إن عدت إلى عمّان حتى عاد سؤال وينك؟ وين رايحة؟ متى مروحة؟ من قبل أهلي، وكل ما أسمع هذه الأسئلة أضحك ضحكة مؤلمة وأقول: الله يرحم!".

"في واشنطن صنعت فقاعتي الخاصة التي تشبهني وتريحني، لكن عمّان كلها فقاعة كبيرة تجبرك على أن تكوني مع أناس لا يشبهونك"، تقول ياسمين، وتختم منطلقة إلى محور حالتها النفسية: "أنا لست مصابة بالاكتئاب، أنا حزينة لأنني بت أشعر أني غريبة في بلدي، بلدي فيها قيود مجتمعية كثيرة وفجوة ثقافية واسعة جداً عن العالم الآخر، أنا أعشق بلدي وبالأخص عمّان، وطوال عمري أردد جملة 'عمّان غير' خصوصاً عندما كنت أشتاق زيارتها في عطلي الدراسية، لكني اليوم اكتشفت أن عمّان فعلاً غير لكن ليس بالمفهوم الذي كنت أحبه!".

"أحب عمان جداً، لكنها لم تفلح أن تصنع لي هوية وكياناً مستقلين. أنا فيها لا أستطيع أن أعتذر عن مأدبة لا أريد الذهاب إليها، في مدريد تشكّلت هويتي وعرفت معنى الحرية، يكفي أنه كانت لدي حرية في أن أبقى شاردة..."

"اشتقت أن أصفن"

"عادي أحكيلك مشهدين؟" أجابتني الشابة غالية أبو ستة (23 عاماً) على سؤالي: ما أكثر مشهد تشتاقين إليه؟ فهي تخرجت من مدريد بعد أن قضت سنة من دراستها في قرية تدعى "سكوفيا"، نفس القرية التي فضلت أن تتحدث عن مشهدين فيها تشتاق إليهما، تقول: "القرية صغيرة جداً، ومجتمعها أيضاً صغير وأنا كنت منه خلال وجودي هناك، اشتقت لمكان يدعى بلازا هو مكان على شكل مربع مفتوح تنتشر فيه محلات كثيرة وفي المنتصف مساحة فارغة كنا نجتمع أنا وأصدقائي هناك ونفطر فطورا، بسيطاً مثل البيض مع البندورة أو البطاطا، وأمامنا كنيسة قديمة جميلة جداً، ننظر إليها وحولنا ناس كثر، منهم كبار في السن، وعائلات، وكثير من العشاق".

أما المشهد الثاني، فتقول: "في جانب جامعتي مطل جميل جداً، اشتقت لمشهد غروب شمس سكوفيا من خلف جبال عالية وشامخة"، إخلاص غالية لتفاصيل صغيرة خلال الأربعة أعوام في إسبانيا، لم يقتصر على تجربتها في سكوفيا، بل أيضاً مدريد لها حظ وفير من هذا الإخلاص، خصوصاً عندما كررت عبارة: "لن أستسلم وسأبقى أحاول العودة إلى مدريد، فهناك توسعت آفاقي وتعلمت الاختلاف واحترام الاختلاف، أصدقائي من جنسيات مختلفة تسمعين الفرنسي، والألماني، والياباني، واللبناني، تعلمت هناك تقبل الآخر لأن أهل مدريد تقبلوني رغم أنني شخص آخر عنهم".

"كنت أقول راجعة على مدريد بعد زياراتي لعمان في إجازاتي، كنت أقولها بثقة لكني اليوم عاجزة عن ذلك"، تقول غالية التي لم تكن خطتها بعد أن كانت تنتظر موعد مقابلات عمل لها بعد تخرجها في مدريد، أن تكون رحلة الذهاب إلى عمّان دون إياب لإسبانيا، فهي كغيرها ممن علقوا في الأردن، في الربع الأول من العالم الحالي بسبب ظروف فيروس كورونا وفترة منع رحلات الطيران وهي الفترة التي انتهت فيها إقامة غالية في إسبانيا.

ونفسياً؟ سألت غالية وختمت: "عندما هاتفتني والدتي بعد انتشار فيروس كورونا وقالت لي: ضبي أغراضك وارجعي، كانت أول مرة لا أجادلها فيها، صمتي في تلك اللحظة كأنه غششني أنني لن أعود إلى مدريد مثل كل عودة، أنا مثلي مثل كثيرين، تعبة نفسياً، وأنتظر اللحظة التي أعود فيها إلى مدريد، وأشرب القهوة في مقهى وحدي قبل أن يأتي شخص غريب ويجلس معي مثلما تعودت عندما كنت هناك، أحب عمان جداً، لكنها لم تفلح أن تصنع لي هوية وكياناً مستقلين. أنا فيها لا أستطيع أن أعتذر عن مأدبة لا أريد الذهاب إليها، في مدريد تشكّلت هويتي وعرفت معنى الحرية، يكفي أنه كانت لدي حرية في أن أبقى شاردة... اشتقت أن أصفن".

"تعلمت الانتفاح"

لم يكن يعلم الشاب محمد غولة (24 عاماً) أن الحقيبة التي وضبها وهو في أميركا، والتي تكفي لأربعة أيام زيارة لعمّان للاطمئنان على وضع خاله الصحي، أن تلك الحقيبة وما فيها لن تكفي قرابة العام التي علق فيها في عمّان بسبب ظروف كورونا كما صرّح لرصيف22، وقال عن تجربة "العيشة برا" سواء في إنجلترا التي درس فيها المرحلةً الجامعية أو في أميركا التي درس فيها الماجستير: "كل من في الأردن يعيش في بيئة مغلقة تفرضها عليه العائلة والمجتمع وقيود المجتمع، لكن في فترة غربتي تعلمت الانفتاح واختيار دائرتي الخاصة، كل شيء هناك كان بقراري أنا، حتى أنني أصبحت شخصاً يتحمل مسؤولية وأنتبه لمصاريفي أين وكيف تذهب".

كيف يعني؟ سألت محمد فقال: "هناك شفت الحياة من منظور آخر. في عمّان أؤكد لك أنني على علم بماذا سيحدث اليوم وبعد ساعة وحتى يوم غد، لأنها مكان ضيق الأفق مثل أي بلد عربي، أما في الخارج فالآفاق واسعة ولا حدود لسقف الحرية، الحرية بمعناها الحقيقي الجميل مثل أن تكوني تسيرين في الشارع ولا أحد ينظر إليك أو بالأحرى "يجحرك"، لأنك مختلفة عنه، يكفي أن لا أحد هناك يطلق عليك أحكاماً مسبقة من مظهرك"، ويضيف ضاحكاً: "يكفي أنك لا تسمعين كلمة وينك!؟".

"والله عظيم سؤالك جميل"، تنهد بعدها محمد وقال: "اشتقت إلى نفسي التي كنتها هناك!". 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image