شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"أقسم بالله نجحوا وصاروا نواب"... ما هي قصص الرايات البيض لدى بدو الأردن؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 1 ديسمبر 202002:25 م

هناك من على شرفات المنازل والشبابيك ومداخل البيوت، وتحديداً جوار قوارير الريحان، والنعناع، والخبيزة، يتكرر مشهد أثناء التجول في قرية يرقا غرب محافظة السلط في الأردن، وجود رايات بيض كانت في الأصل أقمشة تم قصها من رداء أو ثوب، معلقة على شرفات ومداخل بيوت أغلب سكان القرية. نعم تتشابه الرايات في بياضها لكن تختلف أسباب تعليقها أو "غزها" كما في لهجة سكان القرية.

رغبتي في كتابة قصة الرايات البيض في يرقا جاءت بعد زيارتي لتلك القرية، وملاحظتي تكرار مشهد "غرز" تلك الرايات في كثير من المنازل، في البداية اعتقدت أنها رمز للترحيب بموسم الشتاء، لكن بعد الحديث مع السكان تبين أن وراء كل راية حكاية، هي أشبه بالعادة الموروثة منذ ما يقارب المئة عام، ولا تقتصر فقط على قرى "السلط"، بل درجت كثيراً عند أغلب بدو الأردن كما روى مختصون.

"راية الله بيضا" تبرير، اتفقت عليه أغلب النسوة اللواتي تحدث معهن رصيف22 للبوح بالأسباب الكامنة وراء تعليق الرايات البيض، فالسبعينية غزوة تبين أنها ورثت هذه العادة من والدتها وحماتها أيضاً، وهي كما تفسر بمثابة النذر الذي يتم قسمه في حال استجاب الله دعاء ما، يتم بعده "غز" راية بيضاء على شرفة أو على واحد من شبابيك المنزل من قبيل شكر لله، وإشهار لسكان القرية بأن الأمنية تحققت.

رغبتي في كتابة قصة الرايات البيض في يرقا جاءت بعد زيارتي لتلك القرية، وملاحظتي تكرار مشهد "غرزها" في كثير من المنازل، في البداية اعتقدت أنها رمز للترحيب بموسم الشتاء، لكن بعد الحديث مع السكان تبين أن وراء كل راية حكاية... فما هي؟

غزوة التي تعلق أربع رايات على مدخل منزلها بجانب قوارير الخضراوات، تعود بنا إلى بعض النذور التي أقسمتها مقابل تعليق هذه الرايات، أحدثها عندما بقي حفيدها من ابنها البكر عشرة أيام في غرفة "الخداج" بعد ولادته، تقول: "يومها قلت نذراً علي أن أعلق راية بيضاء إذا خرج حفيدي مصطفى معافى، هذا ليس أي حفيد، إنه يحمل اسم جده رحمه الله". قالتها وهي تنظر من الشباك إلى راية حفيدها مصطفى. تضيف وعلامات الفرح والانتصار في وجهها وعينيها: "الله لم يخيب لي أي دعاء مقابل تعليق راياتي البيض، هذا ليس كفراً، بالعكس هذا إيمان ويزيد من شكر العبد لربه، وراياتي هي تسليم لأمر الله".

ومن بعض ما وراء بعض رايات غزوة كما جاء في ختام حديثها: "مرة جرت مشاجرة كبيرة بين عشيرتنا وعشيرة أخرى في السلط، وقتها نذرت أنا ونساء عشيرتي إذا انتهت المشاجرة على خير فسوف نعلق الرايات البيض"، وتختم وهي تؤشر بإصبعها: "تلك الراية التي بجانب الزيتونة ترمز لانتهاء المشاجرة على خير وبدون قتل".

"خلي الدهر يشيلها"

تكاد تنذر وهي تقسم بالله بأنها "ستغز" راية بيضاء إذا صدقت ما قالته لي، السبعينية مليحة وهي تصمم خلال الحديث معها أن عشيرتها ذات صيت واسع عابر لقرية يرقا بأنها عشيرة "فالها أبيض"، وتقول: "كان يأتينا أناس من قرى أخرى، يطلبون منا أن ننذر بغز راية بيضاء إذا نجح ابنهم أو ابنتهم في التوجيهي، أقول لك؟ حتى في انتخابات مجلس النواب الأخيرة جاءنا مرشحون طلبوا من عشيرتنا ننذر بغرز رايات بيض إذا فازوا بالانتخابات".

وهل نجحوا؟ داهمتها مازحة، وأجابت: "أقسم بالله نجحوا وصاروا نواب"، وتروي لنا قصة حدثت: "كان هناك شخص يعيش في قرية قريبة من قريتنا، ومضى على زواجه خمسة أعوام ولم ينجب، نصحه أحد أصدقائه بأن ينتقل للعيش في قريتنا باعتبار أن فالنا أبيض، اليوم هذا الشخص يعيش هو وزوجته في يرقا"، وتضيف: "احزري شو كمان؟ ابنه يدرس في أميركا... روحي"، تقول ضاحكة.

وعند سؤالها هل هناك موعد لإزالة الرايات البيض أم تبقى معلقة؟ تختم قائلة: "خلي الدهر يشيلها، إحنا ما نشيلها هذه شكر لرب العباد".

سعاد أم ثلاثينية شاهدة عيان على ما روته تلك النسوة بل أنها ما تزال تعلق رايات بيضاً في شرفة منزلها أسوة بأجدادها. تقول لرصيف22 تصديقاً لرواية مليحة: "مرة جاء طالب توجيهي من قرية مجاورة في زيارة لأهلي قبل أن أتزوج، وطلب في نهاية زيارته قلم حبر ليكتب به في امتحانات الثانوية العامة على اعتبار أن عشيرتنا ذات فال طيب وأبيض، أذكر أنني أنا من أعطيته القلم، ولا أنسى كمية التوتر التي ساورتني خلال فترة امتحاناته!".

"كأنني أنا التي كنت أخوض الامتحانات وخائفة على نتيجتي" تضيف سعاد، وتقول: "يوم إعلان نتائج التوجيهي استيقظت مبكرة لأعرف نتيجة ذلك الطالب، كنت خائفة ألا يكون قلمي ذا فأل لنجاحه، وخوفي الأكبر أن تُمس سمعة عائلتي!".

نجح؟ سألتها: "وجاب 89 اسم الله عليه". تجيب وتضيف: "حتى في السابق وربما موجودة حتى الآن، بعض القضاة العشائريين عندما يحكمون قي قضايا عشائرية، يطلبون من العشيرة المعتدية بغز رايات بيض في منطقة العشيرة (الضحية) لتبييض راياتهم أمام الجميع".

"حتى أيام الحكم العثماني في فلسطين، عندما كان يذهب أبناء القرى مثل قريتي عيرا ويرقا إلى فلسطين لمحاربة العثمانيين، كانت عشائرهم تغرز رايات بيضاً عند عودتهم سالمين، وكل ما روي من قصص حول الرايات البيض تحمل غايات رمزية وليس تقديساً، وكل دلالتها فرح وخير"

الغاية تختلف

وهو ما يؤكده الباحث والكاتب سهم العبادي في حديثه مع رصيف22 إذ يشير إلى أن الغاية من تعليق الرايات البيض تختلف لدى بدو الأردن، ويقول: "في التاريخ القديم عندما كان شخص يفتري على شخص آخر بموضوع ما، يتم نفي الثاني إلى حين التحقق من صحة الادعاءات، وفي حال ثبت عدم صحتها يجبر من قام بالافتراء على أن يركب الخيل و'يزم' أي يرفع رايات بيضاً من موقعه إلى المكان الذي نفي فيه الضحية".

ويضيف: "وكانت تضاف إلى عقوبة زم الرايات البيض طوال تلك المسافة، بدفع ثمن جمال أو غنم للضحية بعدد المسافة المقطوعة، كل ذلك بهدف تبييض وجه الضحية وأهله أمام الجميع، اليوم إذا دخلنا صيدلية لشراء مرطب لتبييض الوجه فإن ثمنه لا يتجاوز عشرة دولارات!".

ويختم العبادي: "حتى أيام الحكم العثماني في فلسطين، عندما كان يذهب أبناء القرى مثل قريتي عيرا ويرقا إلى فلسطين لمحاربة العثمانيين، كانت عشائرهم تغرز رايات بيضاً عند عودتهم سالمين، وكل ما روي من قصص حول الرايات البيض تحمل غايات رمزية وليس تقديساً، وكل دلالتها فرح وخير".

رمزية الألوان

وبحسب رأي الباحث والخبير التراثي الدكتور نايف النوايسة لرصيف22. "عموماً يشكل اللون مادة دسمة في الأساطير، مثل اعتبار أن اللون الأسود يتعلق بالشيطان، واللون البيض يحمل الفأل الحسن، لذلك عندما جاء الإنسان البسيط الشعبي واصطدم بحقائق علمية تفند تلك الأساطير، فضّل أن يعود إلى المعاني الرمزية للألوان التي ذكرتها الأساطير".

في ما يتعلق بعادة النذر بتعليق راية بيضاء، بيّن النوايسة أن هذا النوع من النذور لا يقتصر على اللون الأبيض فقط، "فمثلاً كثيرون ينذرون بتعليق خيط أخضر في حال استجيبت دعواتهم تيمناً بلون العشب والربيع، ويكثر هذا النوع من النذر بالخيط الأخضر في الأردن عند زيارات مقامات الصحابة والأولياء الصالحين حيث من يزورها يجد أن هناك خيوطاً خضراء معلقة على الأشجار المحيطة بالمقامات".

وختم: "هذه العادات ليست محصورة في القرى فقط، فدارج جداً وجودها في المدن، مثل العاصمة عمّان، حيث هي عادة متعلقة بأشخاص وليس بحقائق علمية، يبحثون عن ملاذ أو فأل طيب من خلال راية أو حتى خيط!".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard