حملات مكثفة ضد "السحرة والمشعوذين" تعم ليبيا حالياً، عبر مواقع التواصل الاجتماعي وميدانياً، عبر شقيها المتحاربين الشرقي والغربي، تقودها حكومة الوفاق المعترف بها دولياً والحكومة المؤقتة للبرلمان الليبي.
تلف الشبهات هذه الحملات التي تزعّمتها قوى سلفية على الأغلب ورافقها تحريض -بعضه من رجال دين- على قتل المتهمين بممارسة السحر وسط مخاوف من أن تكون هذه التهمة "ذريعة للتخلص من الخصوم والمعارضين" أو "شماعة لتعليق فشل المسؤولين عن إدارة أزمات البلد"، وأخطرها راهناً تفشي فيروس كورونا وتكرار عمليات الخطف والإخفاء القسري والقتل.
"حد الساحر: القتل بالسيف"
في 3 أيلول/ سبتمبر الجاري، أفتت "اللجنة العليا للإفتاء" في شرق ليبيا بشأن "حد الساحر وعقوبة من يتعامل معه أو يدافع عنه".
قالت اللجنة: "حد الساحر ضربة بالسيف. ومن يأتي الساحر ليضر الآخرين فإنه يعزر تعزيراً شديداً رادعاً حتى لو وصل إلى قتله بحسب إضراره. والذين يدافعون عن السحرة بأي اعتبار ويحاولون عرقلة عمل أولئك المجاهدين في جهاز مكافحة السحرة، فإنهم غالباً لا يخرجون عن الصنفين السابقين، وسواء كانوا منهما أو لا، فالواجب ردعهم هم أيضاً بأشد العقوبات حتى ينتهوا".
"السحر أحد أسباب اتساع انتشار الأورام السرطانية في بلادنا"... هجمة متعددة الأوجه والأذرع ضد "السحرة والمشعوذين" في أنحاء ليبيا، وناشطون يرون "تخويفاً مقصوداً" يستهدف "الخصوم والمعارضين" بالأساس
أثارت فتوى اللجنة التي يسيطر عليها السلفيون مخاوف جمة عبّر عنها ليبيون في مواقع التواصل الاجتماعي. وهذا ما دفع وزير الداخلية في الحكومة المؤقتة إبراهيم بو شناف إلى توجيه رؤساء الأجهزة الأمنية ومديري الأمن بـ"ضرورة عمل أعضاء هيئة الشرطة حِيال مكافحة ومحاربة السحر والشعوذة وفقاً لصحيح القانون".
وأضاف: "في حال توجيه الاتهام أحدهم، كائناً من كان، تتوجب معاملته وفقاً للقانون، معاملة لا تنبو عن الإنسانية ولا تحيد عن الأصول لحين مثوله أمام القضاء"، مضيفاً: "ينبغي أيضاً ألا نستشعر أننا في خصومة مع المتهمين فنحيد عن جادة الصواب (...) إلى أن يتدخل المشترع لتأطير الفتوى المنسوبة إلى اللجنة العليا للإفتاء".
وغذّى معلقون سلفيون -على ما يبدو- التعليقات بشأن تفشي السحر وخطورته حتى أن أحدهم زعم: "أحد أسباب اتساع انتشار الأورام السرطانية في بلادنا ليبيا هو السحر"، داعياً بالتوفيق لجهود "قوات مكافحة السحر والشعوذة".
ولا يوجد كيان رسمي لمثل هذه القوات التي قال باحث اجتماعي ليبي، فضل عدم ذكر اسمه، لرصيف22، إن داخلية الحكومة المؤقتة في شرق البلاد أوكلت إلى أفراد تلك القوات مسؤولية تنظيف المقابر من السحر، مبرزاً أنهم من السلفيين.
المحلل السياسي الليبي عماد الدين بادي اعتبر أن مصطلحات "السحر والدجالين والمشعوذين" ليست إلا "كناية" عن أتباع المذهب الصوفي الذين يراهم السلفيون خصوماً محتملين داخل الدوائر الانتخابية في شرق ليبيا.
وشدد الناشط والمصور الليبي نادر القاضي على أن "نبش وهدم الأضرحة الصوفية" كان هدف هذه الحملة منذ بدايتها إذ تطور الأمر حالياً إلى نبش القبور عامة وليس الأضرحة فقط.
لكن اللافت أن الهجمة المزعومة على السحرة لم تقف عند الشرق الليبي إذ غرد المستشار الإعلامي لوزارة الصحة في حكومة الوفاق، أمين الهاشمي، مساء 7 أيلول/ سبتمبر، عن "انتشار واسع للسحر والسحرة، وجهاز الردع يخصص الرقم 0920000111 للإبلاغ".
ثم أعرب عن تخوفه: "في الحلقة الأخيرة تطلع ليبيا مسحورة وصورتها ملوحة في وحدة من المقابر، لأنه واضح مش طبيعي اللي احنا فيه توا".
"حد الساحر ضربة بالسيف"... لجنة الإفتاء بشرق ليبيا تفتي بوجوب قتل الساحر و"التعزير الشديد حتى القتل" لمن يلجأ إليه. لكن وزارة الداخلية في الحكومة المؤقتة تحث على التعامل مع المشعوذ وفق القانون حتى "يؤطر المشرع" هذه الفتوى!
جهل؟ استهداف خصوم؟
في الأثناء، حذر معلقون من أن "إيمان المجتمع بوجود قوى خفية قادرة على التحكم فيه وتغيير مسار حياته وممارساته لا يعدو كونه شكلاً من أشكال الجهل المتوارث عبر السنين".
وعلق الناشط الأمازيغي الليبي خليفة البشباش بالقول: "انتشار ظاهرة الخوف من السحرة وتنظيف المقابر والتشجيع على تأسيس هيئات لمكافحتهم والقبول الواسع جداً لهذا الخطاب شعبياً ونخبوياً وحتى رسمياً، هو صورة محزنة جداً تعكس الانحطاط الفكري الرهيب الذي نعيشه".
وأعرب كثيرون عن شكوكهم في "استخدام تهمة ممارسة السحر وسيلة للتخلص من الأصوات الحرة والأقلام غير المأجورة والخصوم والمعارضين بصفة عامة"، متسائلين عن الضمانات لعدم حدوث ذلك.
ودعا آخرون إلى عدم الاهتمام بالحملات، واصفين إياها بـ"الموسمية التي تكررت في السنوات الماضية".
ولاحظ رصيف22 كثافة الأخبار عن ضبط "سحرة ومشعوذين" في ليبيا في مثل هذه الفترة من العام الماضي.
لكن طه كريوي، الصحافي الليبي ورئيس المنظمة الليبية للتصوير، وصف الحملة المزعومة على السحر والشعوذة في بلاده وفي الجارة تونس بـ"المنظمة"، معتبراً أن هذا التزامن "مؤشر يؤكد أن هناك جهوداً سلفية موحدة وأيادي وراءها".
"الساحر الليبي يُسمى معالجاً أو راقياً"... ناشطون ليبيون ينددون بتوجيه تهمة "السحر والشعوذة" للنساء والمهاجرين والمهاجرات حصراً، مذكرين بـ #مقبولة_الحاسي الحاصلة على شهادة الطب البديل والمختطفة في بنغازي منذ عام تقريباً
المتهمون: نساء ومهاجرين
يُلاحظ أن غالبية المتهمين بـ"ممارسة أعمال السحر والشعوذة"، وفق الأخبار المتداولة عبر وسائل الإعلام المحلية، هم من النساء أو المهاجرين. وهذا ما ندد به ناشطون، لافتين إلى إطلاق وصف "المعالج الراقي" على الدجالين الليبيين.
وتضاف هذه التهمة عادةً إلى جملة اتهامات أخرى. قبل عدة أيام، نشر الإعلام المحلي خبراً عن "إلقاء القبض على عصابة في مدينة القره بوللي مكونة من جنسيات مختلفة، بتهمة الخطف والسرقة وممارسة السحر والشعوذة، علاوةً على عمليات التهريب من ليبيا إلى السودان".
وفي العام الماضي، استنكر ناشطون ليبيون حوادث "خطف وقتل وتمثيل بجثث" عدد من السودانيات في بنغازي بذريعة اتهامهن بممارسة السحر. حينذاك، استدعت وزارة الخارجية السودانية القائم بأعمال سفارة ليبيا في الخرطوم، مطالبةً بسرعة القبض على الجناة وتأمين الجالية السودانية وحماية مصالحها.
وفي تشرين الأول/ أكتوبر عام 2019، اختطفت مقبولة الحاسي (70 عاماً)، وهي معلمة متقاعدة حاصلة على شهادة الدكتوراه في الطب البديل ولديها شركة مرخصة في هذا المجال، في وضح النهار من قبل جماعة مسلحة في بنغازي.
وزعمت تعليقات عديدة على مناشدات نجلها الذي يلعب كرة القدم ضمن صفوف فريق بنغازي، لأشخاص كثر، بينهم أعوان أمن، أن الحاسي قتلت عقب خطفها بذريعة ممارستها السحر.
"كجزء رئيسي في الحرب الأهلية، كانت الوهابية أحياناً تضع اللوم على السحر والشعوذة في فشل بعض الحملات العسكرية".
وفي ظل استمرار إخفائها قسراً، لا تعلم الأسرة حتى اليوم مصير ابنتها، التي أسست أول دار رعاية اجتماعية في مدينة سوسة الليبية، ولا تعلم صحة المزاعم من عدمها.
وأوضح الباحث الاجتماعي الليبي لرصيف22: "بعد ثورة فبراير عام 2011 (التي أطاحت معمر القذافي)، استغلت الوهابية بفروعها المتعددة الفوضى الأمنية في الساحة الليبية، فبدأت بنشر معتقدها بقوة السلاح أو بالمحاضرات الدينية والخطب"، مبرزاً أن بداية فرض أفكارها كان "هدم أضرحة الأولياء الصالحين بحجة أن كل ظاهرة طبيعية مدمرة أو كل فشل اقتصادي سببه الجن أو السحر أو ما تروج له عقيدتهم".
وأضاف: "كجزء رئيسي في الحرب الأهلية، كانت الوهابية أحياناً تضع اللوم على السحر والشعوذة في فشل بعض الحملات العسكرية. وبعد انتهاء الحملات وتوغل الفكر الوهابي في وزارتي الداخلية والدفاع، أصبح لها سلطة شرعية لأول مرة في تاريخ الدولة الليبية، وهذا ما نرى انعكاسه على البيانات الأخيرة الصادرة عن الوزارات الليبية سواء في الحكومة المؤقتة أو في حكومة الوفاق الوطني".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...