السحر في القرآن
يرد السحر صراحة في القرآن الكريم، ففي سورة الفلق نقرأ {ومن شر النفاثات في العقد}، والمقصود بهنّ، بحسب تفسير الطبري، "السواحر اللواتي ينفثن في عُقَد الخيط حين يرقين عليها". وفي الآية 102 من سورة البقرة، والتي تذكر "هاروت وماروت"، وهما شيطانان يعلمان السحر، جاء: {وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وماهم بضارين به من أحد إلا بإذن الله}. ويقول الطبري "إن سحرة اليهود كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود فأكذبها الله بذلك، وأخبر نبيه محمداً أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر قط، وبرأ سليمان مما نحلوه من السحر، فأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين، وأنها تعلم الناس ببابل، وأن اللذين يعلمانهم ذلك رجلان: اسم أحدهما هاروت واسم الآخر ماروت". وبتأمل معاني هذه الآيات، يمكن القول إن الاستعاذة من "شر النفاثات في العقد" قد يكون للوقاية من أذى مادي خارجي في وسع ممارسات السحر إلحاقه بالناس، وقد يكون، في الوقت نفسه، استعاذة من إرادة أذى داخلية ومن أحقاد القلوب ونوايا الشر ليس أكثر. كما أن قصة هاروت وماروت تتصل بواقعة في الماضي، وتنتهي آيات القرآن بما يفيد تهافت قوى السحر ومظهرية ممارسات السحرة: {وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله}. هذا المعنى الذي يصرف السحر إلى وجه الخداع والإيهام والتخييل (الدجل والشعوذة) يصف به القرآن الكريم سحرة فرعون عند مواجهتهم موسى: {فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى} (طه: 66)، مع أنها مجرد حبال وعصي تحولت بفعل الإيهام والتخييل، وعبر الفزع والإبهار وخداع الأعين، إلى حيات تسعى.أنواع من السحر
هذا الغموض الملتبس في طبيعة السحر كممارسة خفية لا تظهر للعيان، لا يطّلع عليها غير أصحابها، لا يمكن الاستدلال عليها إلا من آثارها التي تنسب إليها، والتي لا تثبت بالتجربة والمشاهدة. كل ذلك جعل المفسرين والعلماء يميلون إلى تقسيم السحر إلى أنواع: حقيقية أو تخيلية، ظاهرة وخافية، معروفة وغير معروفة. ففي كتاب "فتح الباري شرح صحيح البخاري" يعمد ابن حجر إلى تقسيم أخبار ومعارف الغيب التي ترد عن طريق السحرة إلى صنفين: الأول ما يتلقاه السحرة عن الجن، والثاني ما يستند إلى الظن والتخمين والحدس والتجربة والعادة. ويؤدي الافتراق بين أهداف السحرة إلى تقسيم للسحر يصنّفه إلى فئتين: فئة السحر المرغوب فيه وفئة السحر غير المرغوب فيه، أي سحر أسود وسحر أبيض، الأول يهدف إلى إلحاق الأذى والشرور بالناس، والثاني يهدف إلى منفعتهم أو على الأقل إلى مقاومة أعمال السحر الأسود باستخدام نفس وسائل السحر.ممارسة "السحر السلبي"، أو السحر لمقاومة السحر، كانت البوابة الخلفية الواسعة للتصريح بممارسة السحر الحلال في الإسلام، وهي ممارسة استندت إلى ركائز قوية من النصوص
ربما يكون من أكثر أنواع السحر المرغوب فيه انتشاراً على نطاق واسع، على طول التاريخ الإسلامي، السحر الذي يُصطلح عليه بلفظ "الخيمياء"، ويرمي إلى توليد "حجر الفلاسفة" الذي يحوّل التراب إلى ذهب
فتح الباب لممارسة السحر
هكذا، فُتح الباب من جديد أمام ممارسة السحر بعد أن جرى تحريمه، وذلك رغم اتفاق الفقهاء على حرمة تعلم السحر وتعليمه وممارسته بالكلية، بل وإفتاء بعضهم بتكفير مرتكبه مستدلين بقوله تعالى: {وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر} (البقرة: 102)، ورغم الذهاب إلى قتل الساحر دون استتابة كما حدث بالفعل خلال فترات من التاريخ وحمل لنا المؤرخون أخباره. يذكر المؤرخ ابن إياس أنه في عهد السلطان قنصوه الغوري (1446-1516م) حُمل إليه رجل من الصعيد متهم بأنه ساحر زنديق يتوضأ باللبن ويستنجي به، فأرسله إلى القاضي المالكي الذي حكم بكفره وأمر بضرب عنقه وشهر به على جمل وهو عريان. ويروي المؤرخ "المقريزي" قصة حكم بقتل نصراني قصاصاً بتهمة قتل خوند زوجة السلطان وابنة أحد كبار المماليك مستخدماً "وسائل السحر". لكن كيف يُقتل الساحر طالما أن الناس في حاجة إليه لمواجهة السحر ذاته؟ هذا ما لا تجيب عنه الأخبار. لكن في تفسير القرطبي خبر عن كتاب لعمر بن الخطاب يأمر فيه بقتل "كل ساحر وساحرة". وقال "بجالة": "فقتلنا ثلاث سواحر"، كما جاء عن "حفصة" زوجة النبي أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها، فقُتلت. ولا بد أن المفهوم من هذه الأخبار أن المعنيين بها هم ممارسو السحر الأسود وحده، وهو أمر يعز إثباته بيقين كامل، فالسحر لا يمكن تلمسه إلا من خلال شكوك ترتبط بنتائجه أو مظاهر لا يمكن الحكم على انتمائها للون محدد من ألوان السحر. لكن هناك خبراً يورده الذهبي في كتاب "سير أعلام النبلاء" بثلاث روايات مختلفة، تدل مجتمعة على ما اكتنف حديث السحر وأخبار السحرة من مبالغات عبر التاريخ الإسلامي. الخبر عن صحابي هو جندب الأزدي الذي عزا للنبي القول: "حد الساحر ضربه بالسيف". وفي الرواية الأولى للخبر: أن ساحراً كان يلعب عند الأمير الوليد بن عقبة وكان يأخذ سيفه فيذبح نفسه ولا يضره فقام جندب إلى السيف فأخذه فضرب عنقه. وفي الرواية الثانية أن الوليد كان في العراق فلعب بين يديه ساحر فكان يضرب رأس الرجل ثم يصيح به فيقوم خارجاً فيرتد إليه رأسه، فلما كان من الغد اشتمل جندب على سيفه وضرب عنقه وقال: إن كان صادقاً فليحيي نفسه، فسجنه الوليد لكن السجّان هرّبه لصلاحه. وفي الرواية الثالثة أن ساحراً جاء من بابل فأخذ يُري الناس الأعاجيب، يريهم حبلاً في المسجد وعليه فيل يمشي وحمار يشتد حتى يجيء فيدخل من فمه ويخرج من دبره، ويضرب عنق رجل فيقع رأسه ثم يقول له: قم فيعود حيا، ثم أخذ جندب سيفه وأتى الناس وهم مجتمعين على الساحر ودنا منه وضربه فرمى رأسه وقال: احيِ نفسك، فأراد الوليد بن عقبة قتله فلم يستطع وحبسه. كان الوليد بن عقبة مشهوراً بالفسق وشرب الخمر وكان جندب الأزدي من أصحاب علي بن أبي طالب ومن أمراء جيشه وقتل في موقعه صفين، وهو ما قد يفسر التوتر السياسي الكامن في الخبر، وربما يفسر بعض الشيء المبالغة التي حوّلت الساحر من رجل يمارس خفة اليد وخداع العيون إلى ساحر جبّار يأتي بمعجزات مهولة، ساحر من بابل بلد "هاروت وماروت".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmed -
منذ يومينسلام
رزان عبدالله -
منذ يومينمبدع
أحمد لمحضر -
منذ 4 أياملم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ 6 أيامالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ أسبوعوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع