"تبدو الأحوال سيئة جداً في مركز استقبال اللاجئين في بلدة حمداييت السودانية، ففضلاً عن عدم وجود مخيمات كافية، هنالك تردٍ مريع في خدمات الرعاية الصحية".
هذا ما يرويه الصحافي الميداني حسين أرّى لرصيف22، ويضيف: "شاهدت بعيني معاناة بعض مرضى الضغط والسكري، كما أن تكدس اللاجئين في مخيمات ضيقة متلاصقين، سيسهل من انتقال الأمراض بينهم بحال تفشيها، خاصة وأن الموجة الثانية لجائحة كورونا اقتربت، كما أنّ اللاجئين يتحركون بحريّة وسهولة بين المواطنين، ما يشكل خطراً أمنياً على الجميع".
وينبّه أرّى إلى ضرورة الانتباه إلى أن "الحرب الدائرة في بلادهم ذات بعد عرقي"، ما يستوجب اتخاذ احتياطات من احتمال أن "تحاول مجموعات منهم الانتقام من أخرى في ظل الاحتقان الشديد بينهم".
يشرح أرّى أن هنالك ثلاثة مسارات يسلكها اللاجئون الإثيوبيون إلى السودان هرباً من حرب طاحنة تدور في مثلث حدودي فاصل بين السودان وإثيوبيا وإريتريا. المسار الأول من مدينة حُمرا الإثيوبية عابرين نهر سيتيت، أحد روافد النيل، إلى منطقة حمداييت في ولاية كسلا السودانية في الضفة الأخرى للنهر، ومعظمهم من قومية التيغراي التي تُشن الحرب على إقليمهم.
المسار الثاني من القرى والبلدات المتناثرة بين حدود إقليمي أمهرا وتيغراي الإثيوبيين عبر ذات النهر إلى منطقة اللُقدّي في ولاية القضارف السودانية، وهؤلاء من خليط بين قوميتي أمهرا وتيغراي.
أما المسار الثالث، فعبر نهر سيتيت أيضاً من مناطق النزاعات داخل إثيوبيا إلى القرية (8) في ولاية كسلا السودانية، ومعظم الذين يسلكون هذا المسار يبدون كأنهم من أصحاب النفوذ والمال أو مسؤولين حكوميين، إذ يأتون بسيارات وآليات زراعيّة.
ومُنذ إطاحتها بنظام الرئيس الإثيوبي الأسبق منغستو هايلي ماريام، عام 1991، ظلّت "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي" تدير إثيوبيا على مدار 27 عاماً. ورغم إحجامها عن تطوير نظام سياسي ديمقراطي، وتعسفها في استخدام السلطة، لكنّها أحدثت قفزة تنموية لم تشهدها البلاد عبر تاريخها.
وبُعيد تسلم رئيس الوزراء الحالي آبي أحمد، وهو من قومية الأرومو، رئاسة الوزراء، عام 2018، انقلب نظام الحكم والإدارة في إثيوبيا رأساً على عقب، بدءاً من التحالفات السياسية القديمة وصولاً إلى تفكيك هيمنة قوميّة تيغراي على السُلطة والاقتصاد والمؤسسات الحكومية والأمنية. أدّى ذلك إلى انسحاب كبار القادة السياسيين والعسكريين التيغراويين من العاصمة الإثيوبية أديس أبابا إلى قلعتهم الحصينة "مقلي"، عاصمة إقليمهم المُحاصرة حالياً.
في الرابع من تشرين الثاني/ نوفمبر، أمر رئيس الوزراء الإثيوبي الحائز على جائزة نوبل للسلام عام 2019 بشنّ حملة عسكرية على الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، والتي تدير الإقليم الواقع شمالي إثيوبيا، على الحدود السودانية الإريترية، وأطلق عليها اسم "حملة إنفاذ القانون"، مُتهماً الجبهة بشن هجوم على القاعدة العسكرية الشمالية للجيش الفيدرالي الإثيوبي. هكذا تم النفخ على بوق الحرب، فاشتعلت.
بغض النظر عن مآلات الحرب ونتائجها، فإن المُتضررين منها، كما هي العادة، هم المدنيون العزّل. فعندما دوت أصوات المدافع، وجد سكان الإقليم أنفسهم في مواجهة الموت مباشرة، وكانت الموجة الأولى من اللجوء في السابع من تشرين الثاني/ نوفمبر، وتواصلت الموجات في ما بعد، حتى وصل عدد اللاجئين الذين وصلوا إلى السودان فعليّاً خلال أقل من ثلاثة أسابيع إلى نحو 42 ألفاً، بحسب المفوضية السامية لشؤون اللاجئين.
قصص مأساوية
تقول المفوضية السامية لشؤون لاجئين التابعة للأمم المتحدة إنها سجلت نحو 42 ألف لاجئ، إلا أن العدد الحقيقي ربما يكون أكثر من ذلك، لأن بعض المتسللين لم يتوجهوا إلى المعسكرات المخصصة لهم، وانتشروا داخل المشاريع الزراعية الكبرى على الحدود بين البلدين.
"وصلتُ إلى السودان قبل خمسة أيام، لكنّي حاولت التسلل مُجدداً إلى قريتي الواقعة على الضفة الأخرى للنهر، لإحضار بقية أسرتي. لقد تركتهم خلفي، فقد كنت في مزرعتي أثناء اجتياح جيش آبي أحمد ومليشيات قبيلة الأمهرا المساندة له لمزارعنا".
"ربما لن أجد أحداً ممّن أحبهم بعد أن تنتهي الحرب. أصبح القتل على الهوية سلوكاً يومياً في إثيوبيا. رأيت الكثير من الناس يُقتلون بطرق بشعة، حتى كبار السن. لا أعرف لماذا يقتلونهم. أنا في حيرة من أمري، لا أعرف لماذا فعلوا ذلك؟"
هذا ما يرويه اللاجئ الإثيوبي تخستّى ولد سلاسيّ (43 عاماً) لرصيف22، ويضيف: "بعد أن سمعت أن الأمور هدأت نسبياً قررت العودة لإحضار أسرتي، لكنّي فوجئت بالوجود الكثيف للجيش الإثيوبي على الحدود السودانية، فعدت أدراجي إلى المعسكر. لقد أغلقوا الحدود التي تمثل المنفذ الوحيد للمدنيين الفارين من الحرب. يبدو أن الأمور ستكون سيئة جداً في الأيام القادمة".
أسرة إثيوبية لدى وصولها إلى مركز استقبال اللاجئين في بلدة حمداييت السودانية.
"يا للهول، لقد قتل جيشنا الوطني خمسة أفراد من أسرتي، اثنان في ‘ماي خضرا’ وثلاثة في ‘حُمرا’ (بلدتان إثيوبيتان على الحدود السودانية). قتلوهم لأنهم من قوميّة تيغراي، لقد كانوا مسالمين ويعيشون مع الناس بسلام"، تقول لينا تولدّي (37 عاماً) لرصيف22.
وتضيف: "سهّل لي جاري في مدينة حمرا الهروب رفقة أسرتي، بشكلٍ سرّي وآمن، وأرسل إليّ كافة مقتنياتي. رغم عمله ضابطاً في الأمن، لكنّه إنسان لطيف".
"أنا في غاية في الحزن"، تتابع، "فربما لن أجد أحداً ممّن أحبهم بعد أن تنتهي الحرب. أصبح القتل على الهوية سلوكاً يومياً في بلدي. رأيت الكثير من الناس يُقتلون بطرق بشعة، حتى كبار السن. لا أعرف لماذا يقتلونهم. أنا في حيرة من أمري، لا أعرف لماذا فعلوا ذلك؟".
وتواصل لينا: "في تيغراي، يختبئ الناس بين الأدغال، وما إن يتوقف الرصاص يهربون بسرعة إلى النهر ليعبروا إلى السودان، بملابسهم أو بدونها، ليس لديهم مال، البنوك أغلقت والاتصالات قُطِعَتْ. كان عليهم الفرار بسرعة لكي ينجوا بأنفسهم".
أوضاع إنسانيّة معقدة
ساعدت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، حتى الآن، في نقل ما يقرب من 10 آلاف لاجئ إثيوبي من مراكز الاستقبال الثلاثة في بلدات حمداييت، اللُقدي، والقريّة 8، إلى مخيّم أُم راكوبة، 70 كيلومتراً داخل الحدود السودانيّة.
وأعربت عن قلقها بشأن سلامة المدنيين مما يدور داخل إقليم تيغراي، وحذّرت من أن حوالي 96 ألف لاجئ إريتري يعيشون داخل معسكرات في الإقليم المأزوم، سينفد طعامهم يوم الاثنين، في 30 تشرين الثاني/ نوفمبر، إذا تعذّرت عمليات إيصال الإمدادات والمساعدات الإنسانية لهم، فضلاً عن 500 ألف مواطن إثيوبي يعيشون داخل مدينة (مقلي) عاصمة إقليم تيغراى المحاصَرة من قبل الجيش الفيدرالي الإثيوبي.
وكان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش قد أعرب في وقت سابق عن قلقه العميق إزاء تطور الوضع في الإقليم، وناشد قادة إثيوبيا لبذل كل ما بوسعهم لحماية المدنيين، ودعم حقوق الإنسان، وضمان وصول المساعدات الإنسانية للمحتاجين.
كما دعا غوتيريش في بيان إلى كفالة حرية تنقل الأشخاص الباحثين عن الأمان والمساعدة، بغضّ النظر عن هويتهم العرقية، عبر الحدود الوطنية والدولية.
"في تيغراي، يختبئ الناس بين الأدغال، وما إن يتوقف الرصاص يهربون بسرعة إلى النهر ليعبروا من إثيوبيا إلى السودان، بملابسهم أو بدونها. ليس لديهم مال، البنوك أغلقت والاتصالات قُطِعَتْ. كان عليهم الفرار بسرعة لكي ينجوا بأنفسهم"
وحذّرت ميشيل باشيليت، مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، من أنّ الجانبين يستخدمان خطاباً استفزازياً خطيراً، ما يعرّض المدنيين المستضعفين والخائفين لمخاطر جسيمة.
وفور وصوله إلى السودان، في 28 تشرين الثاني/ نوفمبر، قام المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فيليب غراندي بزيارات ميدانية إلى معسكرات اللاجئين في شرق السودان، وقال إنه سيبحث مع المسؤولين سير عمليات المفوضية لدعم الاستجابة التي تقودها الحكومة السودانية لمقابلة الموجة الجديدة من اللاجئين.
أمراض متفشية ورعاية صحية متدنية
يؤكد الطبيب عادل محمود لرصيف22 أن المعسكرات تفتقر إلى الخدمات الصحية الأولية، وتحتاج إلى المزيد من الدعم، في ما يتعلق بالرعاية الأولية وتوفير الدواء، ويضيف: "تحسنت الأوضاع الصحية نسبياً بعد وصول فرق من منظمة أطباء بلا حدود في 16 تشرين الثاني/ نوفمبر، وشروعها في تقديم الرعاية الصحية وأنشطة الصحة النفسية وفحص الوافدين الجدد".
ويواصل محمود: "الآن، نستطيع أن نقدّم العلاج لمرضى التهابات الجهاز التنفسي، الملاريا، الإسهال، لكن هنالك العديد من الأشخاص الذين يحتاجون إلى علاج مستمر للحالات المزمنة مثل السل وغيرها".
وأشار محمود إلى أنهم رصدوا، بالتعاون مع أطباء بلا حدود، مُصابيْن بطلق ناري، حُوّلا إلى مستشفى مدينة القضارف، كبرى مدن شرق السودان، على الحدود الإثيوبية.
وأوضح أن الأمراض الأكثر شيوعاً بين اللاجئين هي الإسهالات والمشاكل في المسالك البولية، فيما يعاني 15 شخصاً في معسكر أم راكوبة الذي يضم عشرة آلاف لاجئ من سوء التغذية الوخيم، و154 من سوء التغذية المعتدل، ويعاني كثيرون من القلق والاكتئاب.
وكشفت الأمم المتحدة، في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر، عن إرسالها 32 طناً من المساعدات الطارئة عبر الجو إلى الخرطوم، لدعم اللاجئين، تضمنت خمسة آلاف بطانية و4500 مصباح شمسي، و2900 ناموسية و200 غطاء مقاوم للماء، و200 غلاف بلاستيكي.
ويتوقع أن تصل رحلة أخرى خلال هذا الأسبوع محملة بـ1275 خيمة وعشر مستودعات مبنية مسبقاً، تكفي لإيواء 16 ألف شخص، في وقت تتوقع المفوضية السامية لشؤون اللاجئين أن يصل عدد اللاجئين إلى 200 ألف خلال الأشهر الستة المقبلة.
إلى ذلك ناشد رئيس لجنة الطوارئ في معتمدية اللاجئين السودانية كلاً من الحكومة والمنظمات الإنسانية والمجتمع الدولي إلى الإسراع في تقديم الخدمات الضرورية إلى هذا العدد الكبير من اللاجئين.
وأضاف لرصيف22: رغم الدعم من الهلال الأحمر السوداني وبعض المنظمات الخيرية والمتبرعين من المواطنين، والمساعدات من الدول الصديقة، إلا أن الأوضاع لا تزال سيئة للغاية، فالأمراض العضوية والنفسية متفشية في أوساط اللاجئين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...