شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
بعدما انقطعت زيارات

بعدما انقطعت زيارات "بابا نويل" عن بيتنا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 26 ديسمبر 202012:09 م

قبل يومين سافرت من محافظة اللاذقية إلى قريتي التابعة لمحافظة طرطوس لقضاء فترة الأعياد مع أهلي، تستغرق الطريق قرابة ساعة ونصف قضيتها في استرجاع ذكرياتي القديمة عن ليالي أعياد الميلاد ورأس السنة، عندما كان كانون الأول/ ديسمبر أجمل شهور السنة وأكثرها مرحاً؛ حفلات أعياد الميلاد، والأرض المكسوة بالثلج قبل أن يسبب الانحباس الحراري خللاً في المناخ، أصوات الأجراس التي تصدح من السيارات المحملة بالهدايا في كل شوارع القرية ووجوه الأطفال الملتصقة بالنوافذ في انتظار اقتراب صوت الجرس الذي يبشر بهدية…

 في تلك الأيام البهيجة لم تكن الطفولة مرهونةً بعمر معين فالكثير من النساء والرجال أيضاً كانوا ينتظرون هداياهم ويفرحون بها كفرح الأطفال، وكانت القرية تتزين من بابها لمحرابها بحبال الضوء الملونة والأشجار والأجراس التي يومض ضوؤها من بعيد، وحتى المتسولون كانوا يستغلون يوم الميلاد ويوم رأس السنة لكي يملأوا جيوبهم بالنقود، إذ يطوفون في القرى ويقرعون الأبواب ويحظون بالكثير من الأعطيات سواء كانت نقوداً أو مأكولات العيد الشهية، فلا أحد يرد سائلاً يوم العيد.

أذكر ليلة العيد كيف كانت تجتمع عائلتنا الكبيرة في بيت من بيوتها، الكؤوس التي تُضرب بعضها ببعض، فرحتنا كأطفال يُسمح لنا للمرة الأولى بتذوق طعم العرق البلدي وتعابير وجوهنا المضحكة بعد أن يدور العرق اللاذع في أفواهنا

 أذكر ليلة الخامس والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر كيف كانت تجتمع عائلتنا كلها في بيت من بيوتها، أخوالي وخالاتي وجداي وأحفادهما، الكؤوس التي تُضرب بعضها ببعض، الأنخاب التي تُقترح، فرحتنا كأطفال يُسمح لنا للمرة الأولى بتذوق طعم العرق البلدي وتعابير وجوهنا المضحكة بعد أن يدور العرق اللاذع في أفواهنا، وأذكر أن البرد لم يكن عائقاً أمام خروجنا إلى الشارع ليلة رأس السنة، إذ تعجّ شوارع القرية بعدما تدق الساعة معلنةً انتصاف الليل بالمحتفلين الذين يطلقون الألعاب النارية فتتلون السماء بألف لونٍ ولون، ويعلو صوت الضحكات حتى يصل إلى أذني الله وملائكته... يا لها من أيام مباركة!

أفقت من انغماسي في ذكرياتي على صوت سائق الحافلة يطلب من الركاب أن يجمعوا هوياتهم ليسلمها إلى عسكري الحاجز، وكانت قسوة الواقع كفيلة بانتزاعي من عالم الذكريات الوردي، شعرت لوهلة كأنني انتقل بين زمنين مختلفين كما يحصل في أفلام الخيال العلمي، وبينما كنت أبحث عن الهوية داخل حقيبتي وقعت يدي على ورقة اليانصيب، سحبتها ونظرت مرةً أخرى إلى أرقامها فغمرني شعورٌ حلوٌ، رحت أنظر حولي وأنا أتفحص الركاب الآخرين وشعرت أنه يمكنني الجزم بأن معظمهم يحملون أوراق يانصيب في انتظار سحب رأس السنة الكبير.

 فمنذ بداية الحرب في سوريا، ونتيجة عبثية الوضع وسرياليته أصرّ السوريون على المراهنة على حظوظهم، فلا يمر سحب رأس السنة من دون أن تجد عائلات بأكملها متسمرةً أمام شاشات التلفاز – ذلك طبعاً في حال توفر الكهرباء - تنتظر أن تربح ورقتها الجائزة الكبرى أو حتى جائزة الترضية، وفكرت في أبي الذي واظب على سحب بطاقات اليانصيب بشكل أسبوعيّ منذ أكثر من عشر سنوات، وإلى يومنا هذا من دون أن يربح مرةً واحدةً أكثر من ثمن البطاقة.

وصلت إلى القرية حوالى السابعة مساءً، كان التيار الكهربائي مقطوعاً، والقرية تسبح في ظلام تخترقه بعض الأضواء الخفيفة المنبعثة من البيوت، لكنني لم أرَ شجرةً واحدةً مضاءةً، أو نجمةً لامعةً. لا أطفال يمرحون في الشوارع، ولا عائلات تنقل كراسي من بيت لآخر كي تتسع البيوت "للسهيرة"، فكرت كيف أن المفاهيم تختلف باختلاف الظروف، فمثلاً كيف يمكن أن يفهم طفل كبر في بلد ليس فيه أشجار مضاءة أن الأضواء أجمل ما في عيد الميلاد؟ أو كيف يمكن لهذا الطفل الذي لم يشهد سهرةً عائلية تلتقي فيها العائلة من أصغر فرد إلى أكبرهم حول مائدةٍ واحدةٍ أن يقتنع أن السهرات العائلية التي تقام احتفالاً بليلة رأس السنة تجعلها سنةً ملأى بالحب والدفء؟

لا أطفال يمرحون في الشوارع، ولا عائلات تنقل كراسي من بيت لآخر كي تتسع البيوت "للسهيرة"، فكرت كيف أن المفاهيم تختلف باختلاف الظروف، فمثلاً كيف يمكن أن يفهم طفل كبر في بلد ليس فيه أشجار مضاءة أن الأضواء أجمل ما في عيد الميلاد؟

أصابني شيء من الإحباط، إذ كنت قد أتيت محملةً بالذكريات الحلوة وتوقعت أنني سأستطيع إحياءها رغم كل الظروف، لكن غياب الأضواء أوضح لي أن تلك الأيام صارت بعيدة جداً وبدأت ملامحها تتشوه ومن العسير جداً استحضارها.

 لكن رغم ذلك خطرت لي فجأةً صورة أمي فلاحت ابتسامة حقيقية على وجهي، فأمي التي قاربت الستين لم تزل تفرح بالعيد كفرحة طفلة في السادسة من عمرها، تحب الملابس الجديدة والهدايا والأكل المخصص للأعياد إذ تقضي أسبوعاً كاملاً في المطبخ تعد الحلويات التي لا تتذوقها بتاتاً لأن جسدها لا يتقبل السكر، وطبخات العيد التقليدية التي بدأت تقل شيئاً فشيئاً نتيجة ارتفاع أسعار اللحوم، ولكنها رغم ذلك ترفض رفضاً قاطعاً أن يمر غداء العيد كأنه غداء أي يوم آخر، ولا تتقبل أن أبناءها قد كبروا وما عادوا يهتمون بأكل العيد أو حتى بالعيد نفسه، إذ أصبحت لهم اهتمامات أخرى أكثر جدية وواقعية، اهتمامات تتعلق بصعوبة العيش في بلد يستنزف أحلام مواطنيه، ويقتل فيهم الطفولة والأفراح الصغيرة من دون أن يرف له جفن.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image