شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
مصر: زينة عيد الميلاد تحوّلت إلى أبوابٍ معدنيّة وخوف

مصر: زينة عيد الميلاد تحوّلت إلى أبوابٍ معدنيّة وخوف

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 8 يناير 201902:16 م

يشعل إضاءة مصطنعة غير مباشرة خلف الورق المقوّى البني المائل إلى الإصفرار، ليوحي بوجود نجم لامع خلف جبل صُنع من الورق لينشىء مغارة صغيرة يحيط بها رعاة بقر وحظيرة وأم بملامح هادئة وابنها الحديث الولادة الملفوف في أقمشة بيضاء بين أكوام القش. يُطلب مني أن ألمّع باقي التماثيل الصغيرة للمجوس ويوسف النجّار والملاك الطائر في اتّجاه النجم. ثم يجلس ليستريح بعض الوقت حتى يستعيد طاقته ويعود ليوزّع الأفرع المضيئة الملوّنة على الشجرة التي عادة ما يبذل مجهوداً حتى يجد عند البائعين في هذا الموسم واحدة تناسب أحلامه كشجرة عيد الميلاد. كطقوس عائلية بسيطة لعائلة مصرية سكندريّة مكونّة من أب وأم وأربعة أبناء، ظلّ بناء المغارة وتزيّين شجرة الصنوبر الصغيرة كل عام طقساً روتينياً جميلاً ومطمئناً! روتيني في تكراره وجميل في ما يحمله من مفاجأة المرح البسيط المصحوب بدهشة طفولية غريبة مشبعة بدفء الاطمئنان.

وَكَانَ فِي تِلْكَ الْكُورَةِ رُعَاةٌ مُتَبَدِّينَ يَحْرُسُونَ حِرَاسَاتِ اللَّيْلِ عَلَى رَعِيَّتِهِمْ، وَإِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ وَقَفَ بِهِمْ، وَمَجْدُ الرَّبِّ أَضَاءَ حَوْلَهُمْ، فَخَافُوا خَوْفًا عَظِيمًا .فَقَالَ لَهُمُ الْمَلاَكُ: "لاَ تَخَافُوا!" (لو 2 : 8-10)

يحكي القديس لوقا في إنجيله هذه الكلمات عن قصة البشارة المفرحة التي أتت إلى رعاة البقر بالاطمئنان وتبشيرهم بميلاد الطفل يسوع في بيت لحم، فلسطين. ولم تكن هذه الكلمات الوحيدة التي لامست الاطمئنان، فبشارة الملاك للعذراء مريم أيضًا جاءت للطمأنينة.

فَقَالَ لَهَا الْمَلاَكُ: "لا تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ .وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ" (لو 1- 30-31)

لا تخافوا...لا تخافي... متخفوش.

"متخفوش" كانت الكلمة الوحيدة التي نطق بها الأب مقار لحظة تفجير كنيسة القديسين ليلة رأس السنة (2010 – 2011) أثناء الصلاة في الإسكندرية بعد سماع صوت انفجار مدوٍ، وأصبح الصراخ والعويل والدم في صدارة مشهد الاحتفال، إذ فقدت عائلات بأكملها ذويها في ليلة كابوسية لم ترَ القمر.

كان قد سبق هذا الحادث حوادث أخرى استهدفت الأقباط المصريين في ليالي الاحتفالات والأعياد تحديداً. ثم توالت العمليات الإرهابية حتى في ليلة الميلاد الأخيرة، إذ وجد رجال الأمن عبوات ناسفة بجوار كنيسة العذراء بعزبة الهجانة بمدينة نصر راح ضحية تفكيكها ضابط شرطة.

تحوّل إلى يوم لنتذكّر ليلة قاسية اختفت من سمائها الطمأنينة وغابت.

أشك الآن في أنه قد يتم التجهيز لأعياد الأقباط دون التطرق إلى الحديث عن الاستعدادات الأمنية واحتمال وقوع تفجيرات. وكأنه "شرف مثلاً للدولة" أنها تستعد كل عام لنفس الحدث المتوقع؛ وهو تفجير تجمعات المسيحيين في أي مكان! أين المنطق؟ وأين الحرب على الإرهاب التي يحدثنا عنها قيادات الدولة المصرية ليل نهار وكأنها "كارت الرعب" الذي يخرج أمامنا من قبلهم كلما حاولنا المطالبة بأي حقوق شرعية لنا كبشر ومواطنين بكل طوائفنا في هذه الدولة، كالحقوق الاقتصادية والاجتماعية وحرية الرأي والتعبير.

عيد الميلاد تحديدًا الذي يعتبر أكثر الأعياد بهجة عند المسيحيين في العالم أجمع، أصبح الآن في مصر تسبقه تجهيزات لا تشبه الزينة وشجر الميلاد بل البوابات المعدنية ورجال الشرطة والصلاة تحت المراقبة والخوف وانتظار ملايين الأشخاص لقنبلة أو عربة مفخخة تنفجر هنا أو هناك.

كنت أتحدث مع صديقة الطفولة قبل أيام عن الطمأنينة، وتطرقنا نحو ذكر الأشياء التي كانت تهبط علينا باطمئنان وراحة للنفس، فذكرت محبتها الخاصة  للترانيم والتسابيح القبطية للشهر المريمي (كيهك) وذكرياتنا حول ليالي السهر والتسبيح في الكنيسة ونحن صغيرتان تمهيدًا لعيد الميلاد والاستمتاع بتبادل خبراتنا جميعًا في تقدمنا باتقان اللغة القبطية، كان هناك شمّاس عجوز فاقد البصر في إحدى كنائس الإسكندرية، كان صوته عذبًا ومريحًا لدرجة قد تصل إلى حد السحر والشعور بالسلام الكامل أثناء إنشاده باللغة القبطية، بديع في سكونه، صاحب روح قوية وطيبة ومطمئنة في قيادة التسبيح. كان عادة ينشد في ليالي التسبيح الأربع لشهر "كيهك" حتى الفجر وكنا نرد عليه في حالة من الانسجام الشديد .. نحلق حرفياً كالحمام الذي كان يحيط بقبة الكنيسة، تحديداً ترانيم وتسابيح شهر "كيهك" تتسم بحالة روحية مسالمة وخاصة تكاد فيها تفقد شعورك بالمكان والزمان وتنتقل إلى حالة أخرى من السلام الروحي العجيب أثناء التسبيح حتى الصباح في ليالي هادئة باردة من شهر ديسمبر. كان لدي شعور داخلي منذ سنوات أن ممارسة التسبيح لا تلزم البتة أن تكون مسيحياً، فهي عادة قديمة عند المصري القديم أثناء استقباله لفيضان النيل مثلاً أو وداع أحبائه.

الشهور القبطية

الشهر المريمي وهو في الشهور القبطية "شهر كيهك" الذي يسبق احتفال الكنيسة المصرية الأرثوذكسية بمولد المسيح ابن مريم، من بين الشهور القبطية المصرية نسبة إلى الآله (كا هاكا)، إله الخير أو الثور المقدّس المعروف في الحضارة المصرية القديمة بالعجل أبيس. "كيهك" هو بداية الخير وفيضان النيل بالمياه والحبّ. وتاريخيًا فإن الشهور القبطية قد وضعها المصري القديم قبل الميلاد واستخدمها في كل ما يخص الزراعة والحصاد ولا تزال تستخدم في الريف المصري بين المزارعين، واستمر أقباط مصر في استخدام هذا التقويم حتى يومنا هذا، وأطلقوا على هذا الشهر "الشهر المريمي" نسبة لمريم العذراء تكريماً لها وتمهيداً للاحتفال بولادتها لابنها في 7 كانون الثاني/ يناير (29 كيهك). لذلك تقريباً كل التسبيح في هذا الشهر ينادي باسمها وطلب شفاعتها من أجل الخير والسلام والحب والغفران.

أشك الآن في أنه قد يتم التجهيز لأعياد الأقباط دون التطرق إلى الحديث عن الاستعدادات الأمنية واحتمال وقوع تفجيرات. وكأنه "شرف مثلاً للدولة" أنها تستعد كل عام لنفس الحدث المتوقع؛ تفجير تجمعات المسيحيين!
عيد الميلاد تحديدًا الذي يعتبر أكثر الأعياد بهجة عند المسيحيين في العالم أجمع، أصبح الآن في مصر تسبقه تجهيزات لا تشبه الزينة وشجر الميلاد بل البوابات المعدنية ورجال الشرطة والصلاة تحت المراقبة والخوف وانتظار ملايين الأشخاص لقنبلة أو عربة مفخخة.
اكتشفوا أن أحد أسباب الهجوم على المسيحيين هو اعتقاد المسلمين أن الترانيم التي ينشدونها في بيوتهم وداخل الكنيسة بلغة غريبة (اللغة القبطية) ما هي إلا أعمال سحر ودجل لإيذائهم!

أعمال سحر؟

كل هذه المعلومات التاريخية التي يغفلها ويجهلها معظمنا، لم تجعلني أتعجب أبدًا عندما أخبرني صديق أن أثناء التحقيق في حدث من أحداث الفتنة الطائفية في إحدى قرى صعيد مصر منذ وقت قريب، اكتشفوا أن واحداً من أسباب الهجوم على المسيحيين هو اعتقاد المسلمين أن الترانيم التي ينشدونها في بيوتهم وداخل الكنيسة بلغة غريبة (اللغة القبطية) ما هي إلا أعمال سحر ودجل لإيذائهم!

لا أعرف هل مثل هذة الأحداث تستدعي البكاء أم الضحك. الجهل باللغة القبطية مثلًا وغيرها من الأمور الخيالية المتداولة عن المسيحيين من وصم اجتماعي وأساطير وهمية، وبالمقابل تقوقع المسيحيين حول أنفسهم داخل الكنيسة دون الانفتاح على الآخر، خاصة خارج المدن المركزية، كلّ هذا خلق حالة من الاحتقان بين الطرفين أدّت إلى سلاسل من الصراع الطائفي المتبادل الذي يحكمه قوة الأغلبية أيًا كانت، ولا أعتقد أن هناك جهوداً حقيقية من جهة الدولة أو الكنيسة لحل هذا النزاع بشكل حقيقي من خلال تطبيق القانون أو انفتاح الكنيسة على المجتمع وفتح حوار مجتمعي حقيقي ينجو بالجميع من فقاعة الجهل الجماعي.

وفي ارتباك صرنا نعيشه وترقب وسلسلة من المخاوف، لمحت أمس لوحة معلّقة على باب الكنيسة المجاورة لمنزل أمي ورسالة من عدة أصدقاء ليلة العيد تحمل نفس الجملة:

"وَهذِهِ لَكُمُ الْعَلاَمَةُ تَجِدُونَ طِفْلًا مُقَمَّطًا مُضْجَعًا فِي مِذْوَدٍ, ظَهَرَ بَغْتَةً مَعَ الْمَلاَكِ جُمْهُورٌ مِنَ الْجُنْدِ السَّمَاوِيِّ مُسَبِّحِينَ اللهَ وَقَائِلِينَ :الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ." (لو 2: 12-14)

توقفت أمام اللوحة للحظات وتذكرت أني لا أعرف المعنى الحقيقي للمسرّة، أو ما هي تحديداً متطلبات الشعور بالسعادة! خاصة بعد مرور السنوات، إذ  لم يصبح الأمر مختصرًا في التسوق لشراء ملابس العيد والاهتمام بالزينة ولقاء الأصدقاء وحيرة أبي في حجم شجرة الميلاد وتحديد مكانها بالبيت وأي نوع ورق مقوّى سيشتريه لتصميم مغارة ميلاد الطفل يسوع في غرفة استقبال الأصدقاء للاحتفال.
أصبح الاحتفال بعيد الميلاد  أكثر تعقيداً، قد يصل في كثير من الأحيان لمناقشات فلسفية بين أصدقائي عن معنى العيد والتجمع الأسري والخوف من استعادة الذكريات الجميلة بعد فقدان روحها بمرور الوقت. وهل حقاً المسرّة تكمن في الفضيلة كما يرى أفلاطون ولذلك الوصول إليها مستحيل؟ أم هي نزوات روحية للمتعة سريعة ومؤقتة؟ أم هي العزلة؟ لا أستطيع الحكم على الأمر الآن، وأعتقد أنني سأظلّ أبحث بين يوميات متعبة تتسم بالصراع والمخاوف والملل والحزن أحياناً عن المسرّة، ولكن كل ما كنت أتمناه ببساطة أن امتلك آلة زمن للحظات، أعود بها إلى الوراء، حيث لا يشوه مشهد الاحتفال وزينة الأشجار بالدماء، ولا تتصدر احتفالات العام الجديد كل سنة ذكرى مقتل فتيات وشباب وأصدقاء أعتدنا أن تكون ليلتنا هذه معاً للمرح واللعب والحب وتقريباً السعادة. يعود الأمر طبيعيًا بكل ما يحمله من روتين وجمال خاص معتاد بعيدًا عما وصلنا إليه اليوم، فهو تحوّل إلى يوم لنتذكّر ليلة قاسية اختفت من سمائها الطمأنينة وغابت.
 

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard