أكثر من صيادين
لم يعرف عنهم أهل اليابسة سوى أنهم "صيادون". لم يكترث أحد بهم أو بعالمهم أو حياتهم التي لا تتشابه مع حياة اليابسة، على الرغم من أن معظم مَن يمر بجوار النيل يشعر بالابتهاج حين ينظر إليهم ويكاد يحسدهم على مكوثهم في قلب النيل. عشرات الأسئلة تطرح نفسها بشأن حياتهم ومدى قدرتهم على الحياة داخل قوارب صغيرة لنحو خمسين عاماً، لا يعرفون عن البر سوى قضاء حاجتهم من مأكل وملبس، وكذلك بشأن ما يتعلق بطقوسهم وتعليمهم وعلاجهم ومدارسهم. أم أنهم اكتفوا بالنيل وتخلوا عن كل شيء؟مأوى ومصدر رزق
الحياة داخل النيل تختلف تماماً عن الحياة على ضفافه. فقارب صغير قد يكفي لحياة أسرة مكونة من أربعة أفراد، ويكون بمثابة منزلهم وأداتهم التي يسترزقون من خلالها نهاراً وينامون فيها ليلاً.يقول عادل الشيخ، 30 عاماً، إنه ولد في القارب الذي يعمل عليه الآن. لم يعرف الكثير عن اليابسة ولكنه عرف كل صغيرة وكبيرة عن البحر. يعرف عن أنواع السمك وأوقات تكاثره ونموه ومتى يكون النيل عامراً بالأسماك ومتى يكون شحيحاً. يقول: "أنا مثل السمك لا أعرف العيش خارج النيل وحلمي امتلاك قارب مرخص حتى يمكنني الزواج فيه نظراً لأن العروس تطلب أن يكون لها قارب خاص تبدأ حياتها فيه. كما أن قارب الأسرة لن يتسع للزواج". وروى أن والده تزوج في قارب الأسرة وكتبه باسم زوجته "على غرار الشقة التي تكون من حق الزوجة"، لافتاً إلى أن الزواج يحصل بين الأسر التي تعيش داخل النيل أيضاً لأن فتاة البر لن تقدر على الحياة داخل النيل حيث يقضون عمرهم بالكامل. وشرح أن بعض مَن يسعون للزواج من فتيات البر يتركون النيل ويعملون على البر ويعيشون حياتهم هناك.
النيل ورزقه
حين ضاق بهم البر قرروا البحث عن حياة أخرى داخل النيل. هكذا فكرت عشرات الأسر منذ أكثر من خمسين عاماً. تركوا قريتهم في محافظة المنوفية واستقروا في النيل الذي كان وقتها يجود بالخير الوفير.
كانوا يعتمدون على صيد الأسماك وبيعها. وكان الفرد يصطاد نحو 20 كيلوغراماً في اليوم، ولكن حجم الصيد انخفض بدرجة كبيرة خلال الأعوام الأخيرة.
يقول أحمد عبد الحميد إن مسقط رأسه يقع على يابسة المنوفية. كان بصحبة أسرته حين كان عمره خمس سنوات ولم يكن يعرف الكثير عن حياة النيل إلا أنه أحبها نظراً للخير الذي كان يجود به النيل عليهم. وتابع أنه تزوج في قارب صغير إحدى فتيات النيل أيضاً وأنجب وأصبح أولاده يأمنون البحر والعوم فيه ولا يعرفون شيئاً عن الأبراج الصاخبة ونادي القاهرة الرياضي المطل على قاربهم بمنطقة الأوبرا. يقول عادل إن حياة البحر أفضل من حياة البر. "مفيهاش زحمة وخناق"، على حد تعبيره. إلا أن قلة الأسماك في النيل في بعض الشهور وقسوة برد الشتاء، هما كل ما يؤرقهم، خاصة أن الأوضاع تغيّرت في الفترة الأخيرة. وكما حدث شح في البر حدث شح في البحر نظراً إلى درجات التلوث الكبيرة التي قتلت الأسماك وأدت إلى ندرة بعض الأنواع.عادل ولد في القارب الذي يعمل عليه الآن. لم يعرف الكثير عن اليابسة ولكنه يعرف كل صغيرة وكبيرة عن البحر
تزوج في قارب الأسرة وكتبه باسم زوجته "على غرار الشقة التي تكون من حق الزوجة"… عائلات تعيش في النيل
طقوس الحياة
لحياة أبناء النيل طقوسها الخاصة. تأقلموا عليها وتعايشوا معها إلا أنها تكون قاسية إلى درجة كبيرة في الشتاء. يقول عماد سيد البالغ من العمر نحو خمسين عاماً، ويعود موطنه إلى محافظة الفيوم، إن الحياة في النيل أقل قسوة من الحياة في الخارج، فرغم أن برودة الشتاء تعد قاسية إلا أنهم كالأسماك اعتادوها. يبدأون يومهم بعد أذان الفجر مباشرة حين يخرجون لرفع الشبك الموضوع منذ المساء، أو يفردون الشبك ويقومون بعملية الصيد مباشرة في الصباح الباكر قبل شروق الشمس، فهذا أنسب الأوقات لعمليات الصيد، ومن ثم يتوجهون لبيعه في نقاط تمركز على ضفاف النيل. يأتي المواطنون إليهم لشراء الأسماك الطازجة، ومع الظهيرة يعودون لتناول الغداء الذي يأتون به من اليابسة. يعتمد غذاؤهم بنسبة 50% على الأسماك. تبدأ عملية فرد الشباك بين العصر والمغرب. كل صياد أو أسرة لها منطقة محددة تضع فيها شباكها فلا أحد يتعدى على المنطقة المحددة لفرد آخر، فيما يترك وسط النيل أو المناطق البعيدة لمن أراد الصيد الحر فيها. ويتابع عماد سيد: قديماً كان الرزق وفيراً وكان العائد يكفي للإنفاق وتوفير جزء كبير من المال. إلا أن العمل أصبح في الوقت الراهن لا يكفى سوى للعيش يوماً بيوم.ابن البحر
"ابن البحر"، هو العنوان الذي يمكن أن يلخص ويختصر قصة الرجل الخمسيني محروس الميهي، الذي وضعته والدته داخل قارب لتستقبله الدنيا من باب البحر، فقرر ألا يغادره وكبر وتزوج في قارب آخر. غير أنه لم يسلم أيضاً مما أسماها "بلدية النيل"، قاصداً شرطة المسطحات، التي لم ترخص له قوارب جديدة لأبنائه المقبلين على الزواج، مؤكداً أن أحلامهم تقع داخل حدود النيل. ويتابع أنهم بعد أن كانوا يعيشون ويقتاتون في سلام وأمان أصبحوا مهددين في الوقت الراهن من قبل شرطة المسطحات المائية التي لا تسمح بترخيص قوارب لأبنائهم. وعلى الرغم من بلوغهم سن الثلاثين فما زالوا يمكثون في القارب نفسه الذي استقبلهم أثناء ولادتهم وهو الأمر الذي يشكل ضيقاً كبيراً للأسرة وللأبناء الذين لا يملكون شقة كي يعيشوا فيها. يتابع: "هناك أزمة أخرى تتمثل في عدم قيام الجهات المسؤولة بإلقاء "الزريعة" في النيل، فالأمر تحول إلى المزارع السمكية التي تنتج أسماكاً ليست بجودة الأسماك التي تربى في النيل على الحشائش".
زي السمك
على غرار المثل القائل "السمك ما يعيش إلا في المية"، يعيش الحاج عاطف محمد البالغ من العمر 60 عاماً في البحر منذ طفولته مع أسرته. ويقول: "لو خرجت برا البحر بتوه ولا بعرف أروح شمال ولا يمين... بس عارف النيل حتة حتة". وتابع أن الحياة داخل النيل لا تكلفهم سوى القارب المفروش بالبطاطين وبعض البلاستيك ليقيهم برودة الشتاء والأمطار وبعض الأقمشة التي تفرش صيفاً على المركب اتقاءً لحرارة الشمس. وفي ما يتعلق بطقوس الزواج، يقول إن الزواج لا يكلف سوى قارب وبعض الثياب الجديدة ومهر يكتب في قسيمة الزواج وقارب يكتب باسم الزوجة أو يعوض عنه بهدية من الذهب. يتم إحياء ليلة الزفاف عبر تجمع مراكب الصيد بشكل كبير في حفلة غناء ورقص ليلية. ويقام العرس على مركب يتسع لخمسين فرداً، ويصطف الأهل والقارب وأصدقاء النيل في قواربهم حول المركب، يتناولون أنواع الأسماك المختلفة، وتزف العروس إلى قاربها المزين والمغطى بالفراش الجديد والمحاط بالزهور، ويمكث العريس في القارب أسبوعاً لا يخرج خلاله للصيد.
"أحلام في النيل"
أحلام البعض على اليابسة وفي النيل تبدو مشتركة في بعض النقاط وهي أن تعود "أيام زمان". هكذا عبّرت السيدة الأربعينية فاطمة علي عن حزنها على حال النيل وتراجع الأسماك فيه. أصبحت تخشى على مصدر رزقها، خاصة أن زوجها وأبناءها الأربعة يعملون بمهنة الصيد ويعيشون منذ ثلاثين عاماً في النيل لا تطأ أقدامهم البر إلا إذا ذهبوا للطبيب أو إلى مناسبة عائلية. تحلم "الحاجة فاطمة" بتزويج بناتها بعيداً عن النيل. وتشرح أن الأبناء عادة لا يذهبون إلى المدارس إلا في الفترة الأخيرة، بعد أن خشي الأهل على مصدر رزق أبنائهم الذي يقل يوماً بعد يوم، فراحوا يلحقون الأطفال الجدد بالمدارس حتى ينتقلوا إلى العيش على البر. الحاج أحمد عبد الفتاح يعيش في النيل ويعمل بالصيد مع أبنائه الثلاثة. يقول: "هنا في النيل لا صراع ولا قتل ولا وجود لأية مصائب مماثلة لما يحدث في الخارج، فلا أحد ينظر إلى ابنة جاره ولا أحد يتعدى على أحد ولا يسرق أحد وقانون أهل النيل الذي وضعه الآباء لا أحد يخترقه وأية أزمات تحل في بدايتها دون اللجوء إلى الشرطة". إلا أن الظروف الحالية باتت تهدد البقاء في النيل خاصة أن الاسعار في اليابسة باتت مرتفعة بشكل كبير بالمقارنة مع ما يحصلون عليه من بيع الأسماك التي يصطادونها والتي لا تتخطى الـ5 كيلوغرامات في اليوم وتباع بمتوسط 100 جنيه في اليوم. أسماء فتاة ولدت وعاشت مع أسرتها داخل قارب صغير. لا تعرف شيئاً عن العالم الآخر أو كما تسميه بـ"سكان البر". تمتلك أسماء الكثير من الأحلام التي لم تتمكن من تحقيقها، فكانت تحلم بأن تذهب إلى المدرسة وتلتحق بالجامعة، إلا أنها أصبحت الآن تتقن السباحة والصيد، وتعرف أنواع الأسماك ومواسم تزاوجها وإنجابها أكثر مما تعرف عن حياة البشر.أما في ما يتعلق بعلاجهم، فهم كآلاف البشر لا يخضعون للتأمين الصحي ويذهبون إلى الأطباء والمستشفيات الخاصة إذا مرضوا، غير أنهم يعتمدون على الطب البديل والأعشاب أكثر من اعتمادهم على الأدوية. على الرغم من أن أحلامهم بسيطة فإن عالمهم أبسط. بمجرد أن تجلس وسطهم تسعد بالفطرة والطبيعة الإنسانية التي اكتسبت من الأسماك حب الحرية ومن النيل طبع الوفاء ومن المياه وهب الحياة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون