"سخّني الماء جيداً لأن العجينة اختمرت"، أوصت أمي أختي الكبرى بفعل ذلك فجراً، قبل أن تدخل مسرعة إلى غرفة "الفرن" لتشعل النار في "البسوال"- الروث الجاف للبهائم- في فوهة الفرن استعداداً لخبز "بتاو عيد الميلاد".
نصيحة أمي (63 عاماً) هي بعينها الحكمة التي نصحها الحكيم الخباز الفرعوني لولده بمقبرة "وب أم نفرت" منذ 5 آلاف عام، مضيفاً ضمن نصائحه عن الخبز: " كن قنوعاً بطعامك.. إذا كان يكفيك ثلاثة أرغفة وشرب قدحين من الجعة.. فإذا لم يكن بطنك قد اكتفى فحاربه".
الحقيقة أنه بين نصيحة أمي لأختي، ونصيحة جدها الخباز الفرعوني لولده، عرف المصريون عشرات الأنواع من المخبوزات طوال تاريخ الحضارة المصرية، تنوعت أشكالها وأحجامها، كذلك اختلفت أنواع الدقيق المستخدم، ما بين القمح، الشعير والذرة، والإضافات التي تمنح مذاقاً خاصاً لكل منها على حدة، بعضها "يحب الزبد"، وآخر تحسّنه الحلبة أو "الحياقة" باللهجة الصعيدية.
ربما تضيف مع الخميرة كوب لبن جاموسي كامل الدسم أو حتى سكراً، لكن يظل "البتاو" أو "طعام الآلهة" هو الأكثر انتشاراً في قرى الصعيد، بأنواعه وأشكاله المختلفة، سواء كان "المرحرح" أو "المنطط" أو "الطباقي" وغيرها من الأشكال، لكن المرادف واحد.. "بتاو مصري" بنفس النطق، حيث كانت كلمة خبز تكتب على شكل رغيف، وتنطق مقطعين، الأول هو "با"، وهي إحدى معاني "الروح"، و"تا" أو "تي" تعني الخبز، حسب موسوعة "مصر القديمة"، وربما لفظة "عيش" لا تطلق في أي لغة على الخبز إلا في مصر، فهو مرتبط في الأساس بالحياة والعيش، ويصف الموروث الشعبي المصري الساعي إلى الرزق أنه "رايح ياكل عيش".
"أكل العيش" هو الذي جعل أم ميخائيل (52 عاماً) تعمل لأكثر من 25 عاماً في مهنة "خبازة" لـ"البتاو"، في قرية البرشا الواقعة في محافظة المنيا جنوب مصر، فهي أرملة كافحت لتربية أبنائها الثلاثة لمدة ربع قرن أمام الفرن، بين يديها "مطرحة" تتراقص فوقها قطعة العجين الصغيرة، لتتحوَّل بسرعة إلى "بتاوة"، اليوم تساعد أمي، كما العادة، وتقول لرصيف22 عن مهنتها : "شغلانة تهدّ الحيل، طول النهار بالمطرحة لما إيديا بتتخدل، والصحة ما عادتش زي زمان".
حكاية "العيش أبو شلن"
أيضاً لم يعد "البتاو" هو الخبز الرئيسي في أغلب قرى الصعيد، ويتم عمله في المناسبات فقط، تتلقف أمي الحديث من طرف لسان جارتها أم ميخائيل، وتسرد بألم التغيرات التي أصابت المصريين بسبب الظروف الاقتصادية، وانعكاسها على صناعة الخبز: "كنا بنخبز على الأقل 4 مرات في السنة بتاو، ده غير العيش الشمسي، والضلي، والمنطط، والفايش، دلوقتي ما حدش معاه فلوس لأكل البتاو، والناس اتعودت على العيش أبو شلن".
لم يعد "البتاو" هو الخبز الرئيسي في أغلب قرى الصعيد، ويتم عمله في المناسبات فقط، تقول إحدى الصعيديات: "ما حدش معاه فلوس لأكل البتاو"
"الرغيف أبو شلن" هو الاسم الشائع بين المصريين، الذي يطلقونه على الرغيف المدعَّم من قبل الحكومة، وتوفّره وزارة التموين المصرية، عبر المخابز المصرية التي تنتج 270 مليون رغيف خبز مدعم يومياً، بمعدل 100 مليار رغيف سنوياً، حسب ما نشرته مواقع محلية عن المركز الإعلامي لرئاسة الوزراء المصرية، الذي جاء فيه أيضاً أن رغيف الخبز يكلف الدولة 55 قرشاً ويباع بـ 5 قروش وتتحمل الدولة فرق السعر، حيث تستهلك مصر نحو 9.7 مليون طن من القمح سنوياً، توفر الدولة 3.7 إلى 4 ملايين طن قمح لرغيف الخبز، وتستورد 6 ملايين طن من الخارج سنوياً، كما يبلغ متوسط الاستهلاك السنوي للفرد 889 رغيفاً، وهو أعلى معدل استهلاك على مستوى العالم، وفق دراسة للجهاز المركزي للإحصاء.
رغم ذلك تُعد مصر ضمن 36 بلداً يتركز فيها 90% من عبء سوء التغذية العالمي، وفق التقرير الصادر من يونيسيف.
"كان زمان من العار على الناس أكل العيش أبو شلن، ولا يأكله غير الفقراء المعدومين"، تقول أمي.
في المواسم فقط
تحصل أم ميخائيل على أجر يومي 150 جنيهاً و30 بتاوة، بالإضافة إلى قطعة صابون، وتبدأ يومها من السادسة صباحاً وحتى الخامسة مساء، ترى العائد المادي "يا دوب يكفوا العيال"، فيما ترى أمي أن أجر الخبازة- وإن كان مرضياً لها مقارنة بالمجهود الذي تبذله- إلا أنه يعد عبئاً آخر يضاف على أي فلاح يفكر في خبز "البتاو" باستمرار، لاسيما وأن "البتاو" لا يمكن خبزه بواسطة شخص واحد، فعلى الأقل ثلاث نساء يشتركن في عملية الخبز، بمشاركة أطفال العائلة، ما يجعل يوم الخبيز في بيوت الصعيد يشبه الكرنفال الخاص.
هذا الكرنفال بقيادة أمي و بمساعدة أم ميخائيل أنتج اليوم 500 بتاوة، كلَّف صنعها خمس "كيلات" من الذرة الشامية، و"كيلتين" ونصف من القمح المصري (الكيلة تساوي 12 ونصف كيلوجرامات وسعر الكيلة 65 جنيها للذرة و75 جنيهاً للقمح) ما يعني أن التكلفة الإجمالية تخطت الألف جنيه مصري، أي ما يقارب سبعون دولاراً، وهو ما جعل حتى الصعايدة يستغنون مؤخراً عن "البتاو" مقابل "رغيف التموين" المتوفر والأرخص، حتى لو كانت قيمته الغذائية أقل.
فيما يقوم سكان الصعيد بعمل باقي الأنواع من الخبز في عدة مواسم أخرى، فمثلاً "القرص و"العيش الشمسي" تجده في مواسم زيارة الموتى، وفي الأفراح والطهور يخبز "الضلي"، ويوزع على الأقارب والجيران، وفي الشتاء يحلو أكل "المنطط" مع "الكشك" الصعيدي.
خبز يقاوم الاندثار
تذكر أمي بمساعدة أم ميخائيل، قبل رحيلها في نهاية النهار، بعض أنواع الخبز المصري الذي مازال يصنع بالكامل على الفرن الطيني، مثلما كان يفعل الأجداد منذ آلاف السنين، على نفس الفرن المصنوع من الطين المخلوط بروث الحيوانات، وتوارثته الأمهات عن الجدات جيلاً بعد جيل.
"كان زمان من العار على الناس أكل العيش أبو شلن، ولا يأكله غير الفقراء المعدومين" تقول أمي
تقول أمي وهي تعد على أصابعها: "عندك العيش الطباقي والملدن والملتوت وعيش الصاج أو الرقاق والقيضي والمدرن والبكوم والخامر والمجردق". وتصمت قليلاً قبل أن تلعن ذاكرتها التي تخونها مؤخراً وتختم: "يمكن فيه أنواع تاني وأنا ناسياها.. وبتوع بحري كمان عندهم عيش وحاجات مانعرفهاش".
عشرات الأنواع من الخبز، المتوارث منذ آلاف السنين، لايزال يقاوم الاندثار، لكن من يصدق أن خميرة الأجداد من الممكن أن تبث فيها الروح مرة أخرى وتعود لصنع رغيف خبز حقيقي؟
هذا ما فعله العالم الأمريكي شيموس بلاكلي، الذي استطاع صنع خميرة، استخرجها من الفخار المصري الذي يبلغ عمره 4500 سنة، تعود إلى أيام مصر القديمة، وشاركته عالمة المصريات سيرينا لوف، وعالم الأحياء المجهرية ريتشارد بومان، وذلك ليخبز رغيفاً أكثر وألذ طعماً من العجين المخمر العادي، في نتيجة إيجابية للغاية، بحسب تقرير نشره موقع "بي بي سي".
وقد وثَّق بلاكلي التجربة بتفاصيلها على حسابه الشخصي في موقع التدوينات القصيرة، تويتر.
Two weeks ago, with the help of Egyptologist @drserenalove and Microbiologist @rbowman1234, I went to Boston’s MFA and @Harvard’s @peabodymuseum to attempt collecting 4,500 year old yeast from Ancient Egyptian pottery. Today, I baked with some of it... pic.twitter.com/143aKe6M3b
— Seamus Blackley (@SeamusBlackley) August 5, 2019
لكن أثريين مصريين رؤوا، في تصريحات نشرتها صحيفة الأهرام آنذاك، أنّ ما قام به الباحث الأمريكي يحتاج لإثباتات تؤكد صلاحية عودة خميرة فرعونية عمرها 4500 سنة، واستخدامها، وقال الأثري محمد محي، مثمّناً الطريقة التي يخبز بها المصريون في القرى: "كافة الدراسات الأثرية تؤكد أن العجينة الفرعونية كانت تصب في قوالب، يتم تسخينها مسبقاً، حيث كان يتم تشكيل الأرغفة من خلال لوح، وهو الأمر المعمول به حتى الوقت الحاضر في النجوع والقرى المصرية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...