من الطبيعي أن نلهث وراء سعادتنا، بخاصة في فضاءين من المفترض أن يجلبا لنا الكثير من الرضا: العلاقات الاجتماعية والوظائف.
لذلك يبدو من الغريب أن نلاحظ عدد المرات التي نتصرّف فيها بطريقة مؤذية لأنفسنا، ضاربين عرض الحائط بكل الفرص التي يمكنها إعلاء شأننا وإسعادنا، بسبب تصرفات غريبة وغير مسؤولة، لا تندرج في خانة سوء الحظ بل تستحق مصطلحاً أقوى: التدمير الذاتي.
الصوت الداخلي
قد تبدو عبارة "أنتم/نّ ألدّ أعدائكم/نّ" صحيحة بالنسبة لمعظمنا، ففي الكثير من المرات نعمل ضد مصلحتنا الذاتية، ثم نعود ونسأل أنفسنا: لماذا نجلد ذاتنا؟ لماذا قلنا ذلك الكلام القاسي لأحبائنا؟ لماذا نماطل في إنجاز مهامنا وأعمالنا؟ لماذا توقفنا عن فعل الأمر الوحيد الذي كان يجعلنا نشعر بالارتياح؟
والحقيقة أن أفكار وسلوكيات التخريب الذاتي هي وليدة ناقد داخلي نمتلكه جميعاً، يسميه عالم النفس والمؤلف روبرت فايرستون، "الصوت الداخلي النقدي".
من الغريب أن نلاحظ عدد المرات التي نتصرّف فيها بطريقة مؤذية لأنفسنا، ضاربين عرض الحائط بكل الفرص التي يمكنها إعلاء شأننا وإسعادنا، بسبب تصرفات غريبة وغير مسؤولة، لا تندرج في خانة سوء الحظ بل تستحق مصطلحاً أقوى: التدمير الذاتي
لا يمثل الصوت الداخلي الناقد إحساساً إيجابياً بأنفسنا، بل يلخّص "المعاناة الذاتية" التي تلقي بظلال الشك على قدراتنا، تقوّض رغبتنا وتقنعنا بأن نتصرف بريبة تجاه أنفسنا والمقرّبين منا، هذا ويملأ هذا الجزء أذهاننا بالتحليل الذاتي النقدي والأفكار التخريبية التي تقودنا للتراجع أو الابتعاد عن أهدافنا الحقيقية.
والواقع أن صوتنا الداخلي الناقد يتشكل من تجارب حياتية مبكرة، فمن دون أن ندري، نميل لاستيعاب المواقف التي كانت موجهة نحونا من قبل الأهل طوال فترة تطورنا.
على سبيل المثال، إذا تربينا منذ الصغر على فكرة أننا أولاد كسالى، فقد نشعر بعدم الجدوى أو عدم الفعالية حين نكبر، وقد ننخرط بعد ذلك في أفكار تخريب الذات التي تنخر في رأسنا أفكاراً محبطة، الأمر الذي يجعلنا نشعر بأنه ليس لدينا الطاقة لإنجاز أي شيء.
بطريقة مماثلة، يمكن للأطفال استيعاب الأفكار والمشاعر السلبية التي يكنّها الأهل تجاه أنفسهم، فإذا كان أحد الوالدين مثلاً ممتعضاً من مظهره الخارجي ويميل دوماً لانتقاد شكله، فقد نتعامل مع مخاوف مماثلة دون أن ندرك ذلك، وقد نشعر بثقة أقل بأنفسنا في المواقف الاجتماعية أو العامة.
كيف يطال التدمير الذاتي النساء تحديداً؟
في حديثها مع موقع رصيف22، أوضحت الأخصائية في علم النفس لولوا كالويروس، أنه في مجال العمل يأخذ موضوع التدمير الذاتي حيّزاً كبيراً من الدراسات، لأن هناك نمطاً عالمياً في التقصير من امتلاكنا لمساحات مهمة، بحيث يغيب عن بال المرأة أحياناً أنها نصف المجتمع، وأن لديها حقوقاً إنسانية، ولا يجب أن يكون هناك عوائق تحول دون إنجاز المهام وتحقيق الأحلام.
من هنا أشارت لولوا إلى وجود عدد كبير من النساء اللواتي يعانين من قلة الثقة بالنفس، نابعة من مجتمع ذكوري يضع المرأة في علبة، ويوهمها بأنه ليس لديها أي دور في ظل وجود الرجل: "في بعض المجتمعات تترعرع المرأة على فكرة أنها أقل شأناً من الرجل، فنراها تركز على أشياء صغيرة، وتخاف أن تحلم أو أن يكون لديها مشاريع كبيرة تطمح لها، وعندما تتحدى الأنماط السائدة يتم نعتها بأبشع الصفات".
وتحدثت كالويروس عن العقبات التي تحول دون تغلب المرأة على التدمير الذاتي: "في البداية، هناك شعور دائم بالقلق، وهي صفة تجعل المرء يشكك بقدراته. صحيح أن التحدي بشكل عام يحتاج إلى جرعة قلق لكونه ينطوي على مخاطرة، الا أنه في هذه الحالة يصبح القلق عائقاً ويقيّد المرأة، كما يجعلها تركز على نقاط ضعفها وتتجاهل نقاط القوة، فتشعر بأنها ناقصة، ولا تنظر لنفسها ككيان مستقل"، وتابعت بالقول: "لا يجب أن ننسى أنه عبر الأجيال، لم يكن تحدي المرأة في مجال العمل سهلاً على الإطلاق، واليوم نحن بحاجة إلى خلق ثقافة الثقة وثقافة المساواة وثقافة المحاولة".
واعتبرت لولوا أن "النساء يمكن أن يتخطين مسألة تدمير الذات عندما يقتنعن بأن الفشل فرصة والتجربة طريق، وليس بالضرورة أن يعملن على مقارنة أنفسهن بالآخرين لكسب الرضا عن ذواتهن".
أما بالنسبة للعلاقات العاطفية، فموضوع النقد الذاتي أصعب، لأنه يكون أحياناً مخفياً، بحسب كالويروس: "في مجال العمل، شكّل العلم سلاحاً فتاكاً لكسر حاجز الخوف، بالإضافة إلى قيام مبادرات نسوية واجتماعية لتكريس نمط جديد من التعاطي مع مخاوف النساء، إذ يتم التركيز على خلق مجتمع آمن للنساء ليتحدين أنفسهن ويكسرن الحواجز النفسية المدمرة. أما على صعيد العلاقات الشخصية والعاطفية، فنمط تدمير الذات خطير، لأنه ينعكس سلباً على ثقة المرأة بنفسها وعلى إنتاجيتها، وعلى قدرتها على فهم الوضع التي هي عليه".
هذا وتحدثت لولوا عن أبرز المؤشرات التي تدل على أن المرأة وقعت بالفعل في فخّ التدمير الذاتي في العلاقة العاطفية:
-بسبب الخشية من الوحدة، قد تنخرط المرأة في علاقة عاطفية لا تكون على قدر طموحاتها.
-تخلق صورة وهمية عن نفسها وتعيش في كذبة.
-تحاول تفادي الخلافات مع الشريك بحجة المحافظة على العلاقة، ولكن ذلك يكون على حساب مشاعرها وأعصابها، الأمر الذي يؤدي إلى إصابتها بالكآبة وجَلْد الذات.
-فقدان الثقة بنفسها وعدم الشعور بأنها قيمة مضافة في العلاقة.
من هنا، اعتبرت لولوا أنه يجب مساعدة النساء اللواتي يقعن في فخّ جَلْد الذات على إعادة النظر إلى أنفسهن وتحدي المعتقدات والمفاهيم المغلوطة، بالإضافة إلى إعادة بناء القيمة الذاتية والثقة بالنفس، من خلال المعرفة والتدريب والإحاطة النفسية.
وفي السياق نفسه، ركّزت لولوا على ضرورة أن تنظر المرأة إلى نفسها ككائن مستقل، فتضع حدّاً للعلاقات السامة التي لا تفسح المجال أمام الاستقلالية الاجتماعية والمادية: "أي علاقة ما عم تعطيني قيمة مضافة على سعادتي يعني استثمار فاشل"، وختمت بالقول: "من المهم أن تسأل المرأة نفسها دوماً: أنا مين؟ شو بدي؟ وهل حقيقة مقتنعة بشو عم خبر حالي؟".
كيف نتوقف عن جلد أنفسنا؟
بمجرد أن نعرف من أين تأتي أفكار التخريب الذاتي، يمكننا البدء في تمييز الهوية السلبية التي وضعناها على أنفسنا، من خلال التعرف على صوتنا الداخلي الناقد، وملاحظة متى يبدأ في الانخراط في عملية تفكيرنا.
أثناء قيامنا بذلك، يمكننا البدء في التعرف على الطرق التي نتصرف بها والتي لا نحبها أو نحترمها، إذ إن التفريق بين هذه السلوكيات هو أمر ضروري لعيش حياة سعيدة.
في كتابهمThe Self under Siege: A Therapeutic Model for Differentiation، يصف كل من د.روبرت فايرستون، د.ليزا فايرستون وجويس كاتليت، الخطوات الأربع التي ينطوي عليها التمايز: تتضمن الخطوة الأولى الانفصال عن المواقف المدمرة (الأصوات الداخلية الحرجة) التي استوعبناها بناءً على تجارب الحياة المؤلمة، أما الخطوة الثانية فتتطلب منّا أن ننفصل عن السمات السلبية لدى أهلنا، تشمل الخطوة الثالثة تحدي التكيّفات التي تؤذينا كبالغين/بالغات، فمثلاً إذا كنا معتادين على الرفض أو الشعور بالإحباط كأطفال، فأننا قد نكون شكلنا دفاعاً يمنعنا من توقع الكثير من الآخرين، أما الخطوة الرابعة فتتطلب تطوير إحساسنا الخاص بقيمنا ومثلنا ومعتقداتنا الفريدة.
بمجرد الانفصال عن التراكمات السلبية من ماضينا، يمكننا اكتشاف من نحن حقاً، وإيقاف سلوكيات التخريب الذاتي، واختيار الشخص الذي نريد أن نكون عليه، مع العلم بأن تغيير هذه السلوكيات التخريبية للذات سيجعلنا في البداية نشعر بالقلق، لأن ذلك يعني تحدي المواقف الراسخة بعمق والقديمة والمألوفة التي لطالما حملناها تجاه أنفسنا.
"النساء يمكن أن يتخطين مسألة تدمير الذات عندما يقتنعن بأن الفشل فرصة والتجربة طريق، وليس بالضرورة أن يعملن على مقارنة أنفسهن بالآخرين لكسب الرضا عن ذواتهن"
صحيح أنه ليس بإمكاننا تغيير الماضي ومع ذلك يمكننا تحديد الأفكار التخريبية التي استوعبناها واخترنا بوعي التصرف ضدها، فعندما نقع ضحية لصوتنا الداخلي الناقد ونستمع إلى توجيهاته، فأننا غالباً ما ننخرط في سلوكيات التخريب الذاتي التي تؤذينا في حياتنا اليومية.
وفي الختام، يبقى الأهم تدريب العقل على كيفية السيطرة على الأفكار السامة والتي تصب في خانة جلد الذات، كما قالت الكاتبة إليزابيث جيلبرت: "عليكم أن تتعلموا كيف تختارون أفكاركم بنفس الطريقة التي تختارون بها ملابسكم كل يوم... إذا كنتم تريدون السيطرة على الأشياء في حياتكم السيئة للغاية، فاعملوا على عقلكم. هذا هو الشيء الوحيد الذي يجب أن تحاولوا السيطرة عليه".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين