كانت "العصفورية" في جبل لبنان واحدة من أولى المؤسسات الطبية التي اهتمت بالصحّة النفسية وجعلتها محور عملها، منذ بداية القرن العشرين (الدولة العثمانية) حتى السبعينيات (بعد الاستقلال). عكست هذه المؤسسة تطور مفاهيم الصحة النفسية والعلاج النفسي، وأيضاً الصراعات التي مر بها الشرق الأوسط بشكل عام، ولبنان لشكل خاص. نقرأ عن هذ المكان وتاريخه في الكتاب الصادر هذا العام بعنوان "العصفورية: تاريخ للجنون والحداثة والحرب في الشرق الأوسط"، للباحثة جويل أبي راشد.
يُقدّم الكتاب قراءة معمقة للعصفورية التي تأسست عام 1896، على يد البعثات التبشيرية، وتحولت لاحقاً إلى مساحة للصراع على النفوذ بين الاستعمار الفرنسي، البريطاني والأمريكي، في ذات الوقت ساهمت هذه المؤسسة بإعادة النظر بمفهوم الطب النفسي والطبيعة البشرية، خصوصاً أن "التشخيص" الطبي حينها كان يستخدم كأداة لممارسة العنف السياسي والديني والاجتماعي، إذ نقرأ في الكتاب عن زيارة مي زيادة لـ "العصفورية"، كما نقرأ عن محنة أسعد الشدياق، الذي وُظِّف "التشخيص الطبي" ضدّه بسبب آرائه الدينية.
كان "التشخيص" الطبي يستخدم كأداة لممارسة العنف السياسي والديني والاجتماعي، إذ نقرأ في الكتاب عن زيارة مي زيادة لـ "العصفورية"، كما نقرأ عن محنة أسعد الشدياق، الذي وُظِّف "التشخيص الطبي" ضدّه بسبب آرائه الدينية... عن كتاب العصفورية للباحثة جويل أبي راشد
لن نقدم الكتاب أو نشرح فصوله والصراعات التي شهدتها العصفورية، بل سنستعيد اثنين من "الأمراض النفسية" التي أشارت لها أبي راشد، وكيفية ظهورها، خصوصاً تلك المتعلقة بـ"الرجال" بشكل خاص، لذا نقتبس بداية من مؤسس العصفورية، ثيوبليس فلاديمير، الذي قال بأنها "ملجأ لأولئك الذين أسيئت معاملتهم، أولئك الموتى الذين لا يمكن دفنهم".
أولئك "الموتى" اتهمت فئة قليلة منهم بـ"الجنون" و"المرض"، نتيجة عنف سياسي طُبق عليهم أو كانت حالاتهم نتاجاً له، ما خلق مجموعة من الأعراض و"الاضطرابات النفسيّة"، منها "الجنون" الذي كان سلاحاً بيد السلطة الدينية المهيمنة في لبنان حينها، وأشهر الحالات عن التوظيف السياسي للجنون هي حادثة "أسعد الشدياق" الذي انتقل من المارونية إلى البروتستانتية، واتهم حينها بالهرطقة ولاحقته السلطة المارونية، وتم إعلانه "مجنوناً" وتعذيبه وتكبيله وسجنه في كهف في وادي قاديشا.
أشهر الحالات عن التوظيف السياسي للجنون هي حادثة "أسعد الشدياق" الذي انتقل من المارونية إلى البروتستانتية، واتهم حينها بالهرطقة ولاحقته السلطة المارونية، وتم إعلانه "مجنوناً" وتعذيبه وتكبيله وسجنه في كهف في وادي قاديشا
"متلازمة السفر برلك"
ظهر أيضاً ما يمكن تسميته "متلازمة السفر برلك"، فالمرسوم الذي ألزم عبره، السلطان العثماني محمد رشاد، الرجال في الدولة العثمانية بالمشاركة في الحرب العالمية الأولى، شكّل هاجساً لدى الشبان والرجال، وشبحاً يحوم فوق "الذكور"، يعدهم بسفر برّي طويل، حيث الجوع والقهر وصدمة الانتقال، لكن الصورة الأقسى نراها لدى من عادوا واستقبلت العصفورية الكثيرين منهم، بعضهم وصلوا نصف عراة، يعانون من التجفاف و"أمراض الفقراء" والحرمان من الطعام، وثيابهم مليئة بالبق والجرب، وبعضهم كان مصاباً بحالة تسمى "صدمة القنابل"، وهو مصطلح يشير إلى حالة أصابت الجنود، أعراضها الإرهاق العصبي، و"جراح خفيّة على الدماغ والجهاز العصبي" نتيجة ما شهدوه من ويلات.
هذه الأعراض تشابه "اضطراب ما بعد الصدمة"، المرض الذي انتشر بين الجنود الأمريكيين بعد حرب الخليج، والذي مازال إلى الآن محط الدراسات، المثير للاهتمام أن هذا الاضطراب ظهر مرة أخرى، حسب أبي راشد، بين عامي 1975 و1982، أي خلال الحرب الأهلية اللبنانية. الاختلاف أنه يصيب المدنيين الآن وليس الجنود فقط، خصوصاً أن الحرب حينها كانت أشبه بحرب العصابات، مساحة المعركة تتطابق مع مساحة الحياة في الكثير من الأحيان.
مدن الموت المُقيم
كيف يمكن أن نرصد "الجروح الخفية في العقل"، التي أصابت سكان مدن كبغداد ودمشق، تلك التي من فيها "أحياء" ضمن مساحة الحرب/ المدينة، تلك التي سكّانها يبدون كـ "الممسوسين" حين الحديث معهم أو قراءة ما يقدّمونه
هل يمكن القول إن "المتلازمة" السابقة و"القتل الديني" تكررا في سوريا والعراق واليمن، خصوصاً أن المدن نفسها منذ عام 2011 أصبحت ساحات للمعارك؟ لكن، كيف يمكن أن نرصد "الجروح الخفية في العقل"، التي أصابت سكان مدن كبغداد ودمشق، تلك التي من فيها "أحياء" ضمن مساحة الحرب/ المدينة، تلك التي سكّانها يبدون كـ "الممسوسين" حين الحديث معهم أو قراءة ما يقدّمونه.
في تقرير لمنظمة العفو الدولية الصادر العام الماضي عن "ضحايا القمع المخفيّين" نقرأ في التقرير عن أثر العنف على النشطاء والمراسلين، أي الذين يتعرضون لصور ومشاهد العنف بصورة دائمة، أظن، أنه يمكن تعميم ذلك على سكان مدن الحرب/الحياة. وهنا نستعير إحدى النصائح في التقرير وهي: "صور العنف والموت مقلقة ومؤذية، ولكن إحدى طرق تخفيف ذلك الأذى تتمثل في الاعتراف اللفظي بالمهمة التي تضطلع بها، وعدم اللجوء إلى الطريق الأقصر بإخفاء مشاعرك"، وبل ويشير لاحقاً: "ربما لا تكون الصور الأشد إزعاجاً هي تلك التي تصور حالات الموت مباشرة، بل يمكن أن تكون صوراً تتعلق بأمور أخرى..."، وكأننا لا نعرف بدقة ما هي الصورة التي تفعل القلق والاضطراب والرعب خصوصاً، أنه حسب التقرير "إن أدمغتنا بطبيعتها قادرة على اتخاذ خطوات تهدف إلى حمايتنا من الأخطار المتصوّرة على سلامتنا. فعندما نرى شيئاً غير متوقع، يقيِّم الدماغ ما يراه، كي يقرر ما إذا كنا سالمين وآمنين أم نحتاج إلى رد فعل سريع".
ما يمكن فهمه أننا لا نمتلك الإرادة الكاملة في تحديد ما هو مثير للعواطف أو لا، الأهم، الدماغ نفسه يمتلك قدرة على تصنيف ما نراه، هو المسؤول عن ذلك قبلنا، وكأنه كيان منفصل لا سيطرة لنا عليه كليّاً، وما نستطيع القيام به هو "الاعتراف اللفظي"، النطق علناً بضمير الأنا عما نراه ونشعر به، عبر هذه الألفاظ، يمكن ربما، أن نرصد "جروح الدماغ"، تلك الصور التي تترك أثراً فيه لا يمحى، ويمكن أن يهدد كيفية "تلفظنا" بما نشعر.
"الشعر" علامة على خراب العالم والذات
نحاول هنا أن نقدم قراءة ملتوية لمنتج أدبي، هو كتاب للعراقي كاظم خنجر، بعنوان "نتقاتل للتسلية" صدر هذا العام، في محاولة لرصد "جروح العقل" ضمن النص بوصفه يتجاوز وصف المُتخيل، كونه كلاماً ينطقه أحدهم بضمير المتكلم. نستند في هذه القراءة على فرضيتين، الأولى مفادها أن كتاب خنجر لا يحوي علامة تجنيس، فقط العنوان واسم الكاتب على الغلاف.
الفرضية الثانية أساسها أن ما نقرأه ليس بـ "متخيل"، وذلك عبر اقتباس سريع من كتاب "هل ما نقوله ذو معنى حقيقة؟" لستانلي كافيل، الذي يناقش فيه بعض المعضلات والقضايا اللغوية التي طرحها لودفيك فيغنشتان، ونستخلص منه الفرضية التالية، ماذا لو كان ما نقرأه ليس بمجاز، أي لا يوجد مسافة بين المعنى الحرفي والشعري؟ إذ يشير كافيل إلى أن المجاز أو الكناية أو التشبيه ليست إلا تصريحات وعبارات "صحيحة" عن "معان خاطئة"، لكن ماذا لو كانت المعاني حقيقة، ماذا لو كان يقصد خنجر ما يقوله، مع ذلك لا نصدق، لأنه يقول ما لا يمكن تصديقه. يضرب كافيل مثالاً: "إن تحدث أسد ولم نفهمه؟ فهل هذا سوء تأويل أو سوء قراءة منا، أم عجز في الإدراك؟".
أتعرف الوقت الذي يفصل بين سيارتين مفخختين في مكان واحد؟ "هل هي "شعر" و"معان خاطئة" أم هلوسات كتلك التي تسببها "جروح الدماغ"
تهدد جروح الدماغ أسلوب تكوين المعنى، ونحن حين نقرأ في إطار التفسير اللاجدّي المسمى أدباً أو شعراً، نميل نحو الصورة البيانية والمجازيّة بوصفها "معاني خاطئة"، لأنه لا يمكن تصديقها أو لا تتطابق مع أدمغتنا التي ندّعي أنها خالية من الجروح، لكن لو افترضنا العكس، لو افترضنا أن خنجر وبكل بساطة يتحدث أمامنا قائلاً التالي: "ربما قتل أبي (فهد) مع عائلة/ أو نجا (فهد) دون عائلة/ أو يعيش (فهد) مع عائلته اليوم دون ساقين". المرعب هو صيغة الاتهام في مدينة يأكلها الموت، اتهام من ولد لوالد أحضر له دراجة هوائية، ذات الأمر حين نقرأ عبارة: "هل تعثّرتَ في الظلمة يوماً بجثة وقلت في نفسك: هذه حفرة ماء؟ لا تفتح جثتين متلاصقتين لأخوين ذابا في طريقهما من المدرسة إلى البيت. أتعرف الوقت الذي يفصل بين سيارتين مفخختين في مكان واحد؟ "هل هي "شعر" و"معان خاطئة" أم هلوسات كتلك التي تسببها "جروح الدماغ".
هذه الأسئلة أو الظنون نفترض عدم جديتها كونها في كتاب يمتلك شكل "الشعر"، لكن أليس الوصف الطبي الذي يعود لأكثر من مئة عام مشابه لـ "جراح خفيّة على الدماغ والجهاز العصبي". ندرك بدقة سذاجة المقارنة، لكن لننظر مرة أخرى إلى هدف العصفورية حسب كلام مؤسسها: "أولئك الموتى الذين لا يمكن دفنهم." الصيغة الشعرية والإنجيلية لا تنفي أننا أمام وضعية سياسية إن قرأنا حالة "المجانين" أو "المضطربين"، أولئك الذين يحرمون من كل شيء كـ "الموتى"، لكن لا يمكن أن يواروا التراب.
ماذا لو أن "جروح الدماغ" تهدد التكوين الرمزي للكلام، فيفقد منطقيته، فخنجر مثلاً يخبر فرنسياً أنهم في العراق يزرعون ويأكلون الجثث، حتى أنه أخبره بأن الجثث من الفواكه! بالإمكان قراءة هذه العبارات ضمن تاريخ الشعر ومقارنتها مع نصوص شعرية وأدبية أخرى، أيضاً، يمكن قراءتها كـ "حقيقة"، يمكن مقارنتها مع تاريخ العنف السياسي، ألا يوجد مقابر جماعية تحت حقول في حماة في سوريا؟ ألا يوجد محاصرون وجياع على حافة الموت لا يدفنون، ليس فقط لأنهم لم يموتوا بعد، بل لأن موتهم لن يسمع به أحد.
نقرأ لدى خنجر: "المقبرة كلمة، وكل هذه المدن شرحها المستفيض"، في تلك المدن/ مساحات الاشتباك، يظهر القاطنون كموتى وإن تغيرت أحوالهم، "صدمة القنابل" فعّالة في رؤوسهم ربما، الهذيان والتوتر والخوف يظهر حتى في الكلام اليوميّ العابر، لا ذاك الطبي أو الأدبي المنمق، أليس هذا واحداً من أعراض الخوف والصدمة، أليس هذا بالضبط المقصود بـ "عبارات صحيحة عن معان خاطئة"، ماذا لو أن خنجر يتلفظ ببساطة بما يشعر به، أو أبسط: بما يراه، هل يعتبر موضوعة للتشخيص أم شاعر يتخيّل؟
يخبرنا ثيوبولوس فلاديمير في مذكراته أن الشدياق عُرض عدة مرات على جاهات المارونية وطلبوا منه تغيير رأيه، والاعتراف بولائه للكنيسة المارونيّة، واستخدموا كل تقنيات الترهيب والتخوف قبل سجنه وتركه للموت من سوء المعاملة، المثير للاهتمام أن الأسئلة التي طرحت سابقاً قبل مئة عام، نقرأها في كتاب خنجر بصورة مختلفة في القسم المعنون بـ "يوميات طائفيّة":
أوقفونا في الشوارع الفارغة
وقالوا " هل أنتم شيعة؟"
أوقفناهم في الشوارع الفارغة
وقلنا "هل أنتم سنّة؟"
وها هي الشوارع الفارغة الآن
تقف وحيدة على بحر من الدم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه