شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
أن تتمرن على الرحيل... حياة الفنان/ـة وصورة الموت

أن تتمرن على الرحيل... حياة الفنان/ـة وصورة الموت

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 14 أبريل 202012:40 م

تحبس القُمرة المظلمة في الكاميرا لحظة التصوير "روح" من تحدّق به العدسة، أجزاء من الثانية، يتوقف فيها الزمن و"ينقلب" ثم يخزّن كيميائياً، هذا الوجود "الخفي، ولحظة "حبسه"، ينسحبان على كل ما لا نراه في الصورة، الحالة النفسية، ما يدور في عقل من يتم تصويره.

والأهم، "المرض" الذي لا نراه بدقة، بل نلتقط أعراضه التي ربما انتقل جزء منها إلى الحجرة المظلمة وبقي مع الصورة، يزداد الأمر حين نشاهد صور الكتاب والفنانين أثناء مرضهم، التي نعيد "قراءتها" بوصفها لحظات عما قبل الموت، لحظات تدور حولها حكايات تنصب في أسطورة الكاتب وتاريخه الشخصي، ويزداد الأمر إشكالية حين تتحول الصورة إلى دليل طبي، يشخص عبره المرض الذي أصاب الكاتب أو الفنان للتأكد لم مات، وكيف مات فعلاً؟ وهل يتطابق التشخيص السابق مع ذاك الحديث الذي تكشفه الصورة؟ وكأن القمرة المظلمة خزّان للحكايات والسحر والمرض والتاريخ تتداخل ضمنها وتخرج نهاية كـ"صورة"، تضاف إلى نتاج الكاتب أو الفنان.

سارة بيبرنهارت: مفارقة التزيّن للموت

كانت الممثلة الفرنسية سارة بيرنهارت (1844-1923) ذات عادات غريبة، فالنجمة، صديقة المشاهير ومحبوبة الجمهور، كانت تسافر مع حيوانات برية، تمساح اسمه علي غاغا، وقطة تشيتا وذئب، قَطَعَ الطبيب قدم بيبرنهارت حين كانت بعمر الـ 69، لكن ذلك لم يوقفها ذلك عن التمثيل، بل استمرت حتى نهاية حياتها.

كانت الممثلة الفرنسية سارة بيرنهارت (1844-1923) ذات عادات غريبة، فالنجمة، صديقة المشاهير ومحبوبة الجمهور، كانت تسافر مع حيوانات برية، تمساح اسمه علي غاغا، وقطة تشيتا وذئب وواحدة من عاداتها الغريبة كانت تنقلها مع تابوت، كانت تنام فيه محاطة بالزهور

واحدة من عاداتها الغريبة كانت تنقلها مع تابوت، كانت تنام فيه محاطة بالزهور، المثير للاهتمام أن الصورة المتداولة لها على أنها ميتة في التابوت، هي صورة لها وهي نائمة، قامت بضبط عناصرها كي تموت بألق، وتشغل عقول المشاهدين حتى بعد رحيلها، هي اختارت كيف تصوّر موتها قبل أن يحدث، وكأن يقينها حول الموت جعلها تستعد جمالياً لملاقاة وجهه، فإن كانت كل صورة تسرق جزءاً من روح من يظهر فيها، سارا قررت أن تتمرن على الرحيل، وأن تؤدي دور الميتة بلا روح، وأن تكون أسيرة مرئية الصورة بالشكل الذي تريد.


فريدريك نيتشه: المرض و"الذاكرة"

يقال إن الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه (1844-1900) انهار عقلياً عام 1889 بعد أن شاهد حصاناً في مدينة تورين الإيطالية يتعرض للتعنيف من صاحبه، تداعى لحظتها، وعاش بعدها لحوال عشر سنوات وقواه العقلية تتلاشى، عام 1899، قبل موت نيتشه بعام، زار المصور هانز أولد، الفيلسوف المريض في منزله، والتقط مجموعة من الصور لـ"دينوسيس" أو "المصلوب" حسب ما كان يوقع رسائله التي كان يرسلها لأصدقائه في تلك الفترة، أو ما يسمّى "رسائل الجنون"، والتي اكتُشف أنه لم يكتبها أبداً، بل قامت أخته بتأليفها.

قبل موت نيتشه بعام، زار المصور هانز أولد، الفيلسوف المريض في منزله، والتقط مجموعة من الصور لـ"دينوسيس" أو "المصلوب" حسب ما كان يوقع رسائله التي كان يرسلها لأصدقائه في تلك الفترة، أو ما يسمّى "رسائل الجنون"، والتي اكتُشف أنه لم يكتبها أبداً، بل قامت أخته بتأليفها

نيتشه الضعيف جسدياً في تلك الفترة، أشبه بالرضيع الذي تداريه أخته، كان يعاني من فقدان ذاكرة حاد، نيتشه الذي صرح مرة "أنا لست رجلاً، أنا ديناميت"، واهن، متعب، يُقال إنه نسي مؤلفاته، لكنه يعلم أنه كتب أشياء عظيمة، التشخيص حينها كان السيفليس النيورولوجي، لكن دراسات جديدة تقول إن السبب هو متلازمة كادسيل، الدراسة وظفت الصور التي التقطها أولد، والتي تظهر فيها يد نيتشه اليسرى متضخمة وشبه مشلولة، واحد من أعراض السكتة الدماغية في القسم الأيمن من الدماغ.


أنتونان أرتو: أن تعوي ككلب بوجه الألم

كان الفرنسي أرتو (1896-1948) مصاباً بالسيفلس الوراثي، وكان العلاج الذي يخضع له يجعله في حالة مزرية، كان دوماً يتألم ويدخل في نوبات اكتئاب حادة، عام 1927، دعاه المخرج آبل غانس، ليلعب دو الثوري الفرنسي جان بول مارات في فيلم "نابليون"، أرتو المتألم دوماً، ولحل واحد من النقاشات مع فريق العمل، بدأ بالنباح، ثم جلس على أربعة وبدأ يتصرف ككلب، كان سوريالياً حينها أو ربما كان يتألم، الأهم، أنه كان فقيراً، وكانت المشاركة في الفيلم تعني حلاً لبعض مشكلاته المادية.

أرتو كان مشابهاً لمارات، فالثوري الفرنسي الذي تعرض للاغتيال وهو في الحجر الصحي، كان مصاباً بداء جلدي جعله يتألم دوماً، يحك جلده بأظافره حد الإدماء، وقضى السنوات الثلاث الأخيرة من حياته في حوض الاستحمام الذي قتل فيه، مغموراً بالماء الذي تضاف له مواد طبيّة لتخفيف الألم، وكأن أرتو وجد في هذا الدور ضالته، كان يتصرف بانفعال أثناء التصوير ليحاكي حالة مارات.

تضيع حدود التمثيل والحقيقة في لحظات محددة، من يتألم، مارات أم أرتو؟ من يضرب المرض والألم في قحفه؟ أرتو الذي كان في الحوض المليء بالمياه كان يتألم ويؤدي دور من يتألم، الكاميرا هنا تلتقط حقيقتين، حقيقة اللعب وحقيقة جسد المؤدي، المرض هنا يختفي وراء اللعب أمام العدسة، بل ويجعله أشد "إقناعاً".

أنطوان تشيخوف: عبقري يشرب الشامبانيا بهدوء

قرر تشيخوف الاحتفال لحظة معرفته بموته، ثم عاد للنوم، تصف زوجته أولغا ما حدث بقولها إنه استيقظ في ساعات الليل الأولى، ولأول مرة في حياته طلب أن يحضر الطبيب، وحين وصل الطبيب الألماني، جلس تشيخوف وقال بصوت عال وواضح بالألمانية التي لا يجيدها: "أنا أموت"، ثم طلب الطبيب أن يحضروا زجاجة شمبانيا، تتابع أولغا: "تأمل أنطوان الكأس الممتلئ، ابتسم لي وقال: "لم أشرب الشامبانيا منذ وقت طويل"، ثم شرب الكأس بأكمله، استدار على جانبه الأيسر، ثم صمت للأبد.

رر تشيخوف الاحتفال لحظة معرفته بموته... تأمل أنطوان كأس الشامبانيا الممتلئ، وابتسم وقال لزوجته: "لم أشرب الشامبانيا منذ وقت طويل"، ثم شرب الكأس بأكمله، استدار على جانبه الأيسر، ثم صمت للأبد

لم يخبر تشيخوف أحداً بمرضه، الكاتب الطبيب كان يعلم أنه مصاب بالسلّ، صحته تتدهور بشكل متدرج، ومن حوله أدركوا ذلك لكنه لم يصرّح عن مرضه إلا في النهاية.

في واحدة من قصصه بعنوان "الراهب الأسود" يظهر شبح يخاطب كوفرين بطل القصة، يسأله كوفرين: "ما هي غاية الحياة الخالدة؟"، فيجيب الراهب الأسود: "كغاية كلّ حياة: المتعة. إن المتعة الحقيقة هي في المعرفة والحياة الخالدة ستقدم منابع عديدة لا تنفذ للمعرفة". يتزوج كوفرين ويعيش الفرح، ويصبح أستاذ جامعة، يوم المحاضرة الأولى ينزف دماً من حلقه، يلغي المحاضرة، ثم يلغي محاضراته القادمة، ثم يترك زوجته وينتقل إلى سيباستوبول، مات كوفرين والدم حول فمه، والراهب الأسود يهمس له بأنه عبقري، "وبأنه لا يموت إلا لأن جسده البشري الضعيف فقد توازنه ولم يعد قادراً على أن يكون غلافاً يحفظ العبقرية.. كوفرين فارق الحياة، وعلى وجهه ارتسمت ابتسامة عذبة".



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image