"أَتأمَّل النبيذ في الكأس قبل أَن أتذوقه، أتْركُهُ يتنفَّس الهواء الذي حُرم منه سنين، اختنق ليحمي الخصائص وتخمَّر في سُبَاته، وادَّخَر الصيفَ لي، وذاكرةَ العنب". هكذا قال الشاعر الفلسطيني محمود درويش في أحد دواوينه الشعرية مديحاً للخمر، وكثيراً ما تغني ووصف الشعراء شرب الخمور على مر العصور، رغم ذلك مازال تناولها مثار جدل في كثير من المجتمعات العربية ذات الطابع المحافظ، فما بالنا لو تحدثنا عن أكثرها محافظة في بقعة كقطاع غزة؟
شبان وفتيات سافروا خارج أسوار قطاع غزة لغرض الدراسة والعمل، وكانت أول تجربة لهم في تذوق الخمور.
"لا تخافي"
حالة فكرية مليئة بالتناقضات اختبرتها لينا، اسم مستعار (33 عاماً)، بعد أن عاشت واقعاً مغايراً تماماً في مدينة إسطنبول.
لامست الكثير من الفروقات بين المجتمعات سواء العربية، الغربية أو التركية، كونها خالطت أناساً من مختلف الجنسيات، دمجت بين عادات متنوعة مختلفة تماماً عن طبيعة الثقافة المجتمعية التي عاشتها في مدينة غزة.
انتقلت لينا للعيش في إسطنبول، بعد أن حصلت على منحة دراسية لاستكمال دراسة الماجستير بتخصص هندسة معمارية، فكانت فرصة عظيمة بالنسبة لها، كونها لم تعش خارج أسوار غزة قبل ذلك قط.
تذكر لينا أنها شعرت بتوتر شديد عندما تناولت أول كأس عرق، ولاحظت عليها صديقتها، حتى همست بأذنها ضاحكة: "ما راح تسكري ما تخافي الأمر أبسط من هيك بكثير"
"الحياة بين المدينتين مختلفة تماماً، ردة فعلي تجاه هذه الفروقات لم تكوّن لدي مشوشات عقائدية أو فكرية أو دينية، بقدر ما كانت رغبة في كسر قيود مجتمعية، متشبعة في ذهني عن الكثير العادات والتقاليد الماضية، التي تربيت عليها، أبسطها: ممنوع الضحك بصوت مرتفع للفتاة، تحت مبرر ثقافة العيب".
تجلس لينا مع نفسها كثيراً وتتساءل: كيف لفتاة عاشت في بيئة منغلقة جداً ألا تندهش في مدينة صاخبة وحيوية جداً كإسطنبول؟ أثارت المدينة فضول لينا لاكتشاف كل ما هو جديد، ومعايشة مغامرات وتجارب غير التي اعتادت عليها، وكان أجرأها بالنسبة لها تناول "العرق"، و"هو معروف عنو مصنوع محلياً في تركيا"، تقول لينا.
عن تجربتها مع شرب "العرق"، تقول لينا لرصيف22: "أذكر أني في إحدى إجازاتي الدراسية خرجت لحضور احتفال مع إحدى صديقاتي، وشعرت بدهشة عند رؤيتي كؤوس العرق تملأ الطاولات وغالبية الحضور يقرعون الكؤوس، حتى صديقتي، لا أنكر أن المشهد أغراني ودفعني لعيش التجربة، بعيداً عن آراء وفتاوى مدى حرمانية تناول هذا المشروب، التي طالما سمعتها من مجتمعي السابق ورجال الدين".
عن ردة فعلها، تذكر لينا أنها شعرت بتوتر شديد عندما تناولت أول كأس عرق، ولاحظت عليها صديقتها، حتى همست بأذنها ضاحكة: "ما راح تسكري، ما تخافي، الأمر أبسط من هيك بكثير".
وما بث نوعاً من الطمأنينة في قلب لينا، أن صديقتها شربت أكثر من كأس أمامها، ولم يحدث معها أي نتائج، مثلا كفقدان الوعي، لكن لينا شعرت بعد تناول كأسها بحرقة شديدة في المعدة، ثم بدأت تجبر نفسها على اعتيادها طالما أن غالبية السكان والعائلات في مدينة تعيش فيها يتناولون العرق بشكل طبيعي، ولديهم فكرة تقبل الاختلاف.
بحسب لينا، أنها لو كانت في غزة لم تكن لتجرؤ حتى على شرب سيجارة، ليس بدافع شخصي منها، بل بسبب الرقيب المجتمعي والتغول الديني المسيطر، فهي ترى أن الفتيات وحتى الشباب محرومون من ممارسة حريتهم الشخصية بشكل مبالغ فيه، ربما هذا ما يدفع البعض لعيش تجارب مختلفة بعد خروجهم من غزة، وهذا أمر تعده لينا "طبيعياً".
وعن بعض التحديات التي واجهتا، أشارت لينا أن بعض الصديقات الغزيات لم يحترمن رغبتها في تناول مشروب العرق، وقطعن تواصلهن المباشر، فوفق رأيهن أنها ترتكب محرمات دينية ومجتمعية، تقول: "انحصرت علاقتي بمرور الوقت مع صديقات تركيات وتونسيات".
"البيرة صديقتي في الغربة"
وفي تجربة أخرى للشاب الغزي قصي نورس (28 عاماً)، ويعمل في إحدى شركات البرمجة في موسكو، حيث لم يكن مشهد الحانات وزجاجات الكحول المعروضة على واجهات المتاجر وأرصفة الشوارع في المدينة مألوفاً لديه، بل كان منظرها يثير دهشته، وربما رغبته.
يصف قصي نفسه أنه شاب ذو طبع محافظ، قليل العلاقات، غالباً منطوٍ على نفسه، يغلب على نمط حياته روتين مكرر، هذا ما جعله يتطلع للتغيير بشكل فجائي، وكان أول خطوة له قبول أحد اقتراحات أصدقائه للخروج إلى ملهى ليلي في سهرة رأس السنة.
في البداية كان قصي مذهولاً، فهو يذكر أنه عندما كان في غزة لم يكن يخرج سوى لأحد الكافيهات على البحر وشرب فنجان قهوة، ولكن الآن تتبدل أصوات أمواج البحر إلى موسيقى صاخبة، وصوت قرع كؤوس البيرة.
"بعد ثالث كأس بدا لي الطعم مختلفاً".
يقول قصي لرصيف22: "عندما تناولت البيرة لأول مرة تخيلت نفسي في أحد الأفلام السينمائية، ربما أردت تقليد أحد الأبطال وهو يخرج من ملهى ليلي في حالة سكر وهذيان، لكني لم أشعر بهذه الحالة، قد يكون لأني لم أطل الشرب أو هنالك حالة مبالغ فيها في الشرب وصفتها لنا السينما، لم يعجبني طعم البيرة، لكني حاولت تجرعه، وبعد ثالث كأس بدا لي الطعم مختلفاً، تصور لي أن ما يحدث أفكار شيطانية".
يضيف قصي: "لفترة ستة شهور بالضبط كان كأس البيرة صديقي المقرب في الغربة، سد وقت فراغي وعاش معي حزني وفرحي، كآبتي، جنوني، حالتي العاطفية، بعد تناول الكأس كنت أشعر أني في حالة سكون تام لفترة معينة، لكن سرعان ما تعود لي الحالة المزاجية في اليوم التالي، ما يدفعني لشرب المزيد، أحياناً أشرب ما يعادل زجاجة واحدة في اليوم، يبلغ ثمنها دولار واحد أي 3 شواقل اسرائيلي، كنت أظن أن ثمنها زهيد مقارنة بثمن علبة سجاير".
"عندما تناولت البيرة لأول مرة تخيلت نفسي في أحد الأفلام السينمائية، ربما أردت تقليد أحد الأبطال وهو يخرج من ملهى ليلي في حالة سكر وهذيان"
يشعر قصي بالذنب كونه يشرب الكحول، لكنه في ذات الوقت يحاول قدر المستطاع تخفيفه، وهذا يعود للحالة المزاجية التي يعيشها، ويكتفي الآن بالشرب فقط في جلسات "وناسة" مع أصدقائه.
ويحرص قصي أن يبقى ذلك بالخفاء حتى لا يعلم والداه بغزة، ولا يلاحق بالشائعات، ويشير أنه لو عرف عنه شربه للخمر في حال عودته: "ستبقى وصمة تلاحقني كأنها عار لأني كنت أشرب يوماً ما كحولاً".
"مغامرة شرب النبيذ"
ياسر حليم (30 عاماً)، يعمل طبيب نفسي في بكين، يصف شرب النبيذ أو الكحول بأنواعها في قطاع غزة بالمغامرة الكبيرة جداً، نظراً لعدم توافره ومنع استيراده، لذلك يلجأ البعض لتصنيعه في منازلهم، وآخرون قد يأتون به من الخارج بسرية تامة حتى لا تتم مصادرته.
عن شعوره عند تناوله مشروبه المفضل "فودكا"، يقول لرصيف22 أنه لم يلمس أي تغيير، مثلما كان في مخيلته، مثلاً لم يصل لمرحلة السكر، ووفق رأيه أن الحالة النفسية للشخص تلعب دوراً كبيراً في التأثير عليه، فإذا أراد نفسياً وذهنياً الوصول لحالة السكر يعيش الحالة حتى وإن شرب كأساً واحدة، وإن رفض الوصول شعورياً لمثل هذه الحالة فهو لن يسكر طالما لم يهيئ نفسه لذلك.
"الكحول مثل بقية المشروبات الغازية أو حتى الكافيين".
ويجد حليم أن الكحول مثله كباقي المشروبات، سواء الغازية أو الكافيين، تتبع للحالة المزاجية للشخص، فهو يعتاد شربها أحياناً في الصباح أو المساء، و"الويك إند".
ويقول علي، اسم مستعار، كان أحد أصحاب الفنادق قبل مجيء حماس إلى السلطة في غزة، أنه قبل سيطرة حركة حماس على قطاع غزة عام 2006، كان شرب الخمور في متناول من يرغب به، لأن القطاع لم يكن محاصراً.
"كانت هناك حركة سياحية نشطة، وكانت الفنادق والمطاعم على شاطئ القطاع تمتلئ في مناسبات عديدة، كأعياد الميلاد، حفلات رأس السنة والحفلات الغنائية"، يضيف علي لرصيف22، متذكراً الماضي القريب بحنين.
وينهي علي حديثه، متحسرا: "بعد سيطرة حكومة حماس، أغلقت العديد من الفنادق أبوابها، وتوقفت عن العمل بسبب الحصار، وكذلك فرضت الحكومة عقوبات مشددة لكل من يتناول الخمور أو يتاجر بها أو يستوردها للقطاع".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...