ثمة عداوات لا تنشئها قواعد منطقية، ولا تبرّر بجملة أو اثنتين في كتب التاريخ، عداوات لا أحد يعلم متى بدأت ولا كيف ستنتهي، ونحن في العالم العربي خير من يرث الأحقاد والعداوات، وأكثر من ينساق خلف خلاصات تاريخية كافية بالنسبة للبعض لأن يشعل حرباً لا تبقي ولا تذر، ونتوارثها جيلاً بعد جيل كأنها قطعة من القماش المذهب أو كرسي أثري مزدان بالصدف والجواهر الثمينة.
ما قبل وما بعد
"إذا اتفقنا أن تاريخ السينما له ما قبل وما بعد (ذهب مع الريح)، فإن تاريخ كأس العالم له أيضاً ما قبل وما بعد ربع نهائي إنجلترا والأرجنتين في المكسيك 1986"، تعلق مارسيلا مورا لشبكة CNN، لكن الأمر أبعد من هذا التاريخ وتختلط فيه كرة القدم بالحرب العسكرية، النظام الديكتاتوري في الأرجنتين بالغطرسة الإنكليزية، الفقر اللاتيني بالترف الاستعماري الأوروبي، كل هذا في مباراة واحدة، كانت قد سبقتها مباريات وحروب، رغبة بالخلاص والخروج من "هزيمة" اليوميات.
المنافسات الشهيرة بين الأندية موجودة في كل الدوريات، الكبرى منها والصغرى، منافسات دموية، تستحضر تاريخاً من اللقاءات بين الناديين، وربما تاريخاً أيضاً من الصراعات الدينية والسياسية، وهو ما يطلق عليه تسمية "الكلاسيكو": باريس سان جرمان ومارسيليا، برشلونة وريال مدريد، بوكا جونيورز وريفر بليت، وربما تشرين وحطين في اللاذقية- سوريا، وأيضاً بين الدول كالأرجنتين وإنكلترا، فرنسا وإيطاليا، إذا كانت كرة القدم "مجاز العنف الحربي"، فإن لمباراة مماثلة طعم الأضلاع المكسرة والجيوش المكسورة والسفن الغارقة في قاع المحيط الأطلسي.
بدأ الأمر في عام 1966، ربع نهائي كأس العالم في ويمبلي بإنكلترا، في واحدة من أسوأ المباريات في كرة القدم. عنف إنكليزي تفرضه "قوة" التاج البريطاني على مستعمرات موصومة بالتخلف والفقر. طُرد قائد الأرجنتين أنطونيو روتين وخرجت الأرجنتين من المسابقة، ورفض حينها أنطونيو قرار الحكم واتهمه بالتحيّز للدولة الأوروبية والخضوع للملكية البريطانية، فردّ مدرب الفريق الإنكليزي ألف رامزي، بكلمات يمكن أن يعاقب عليها القانون حالياً تحت بند العنصرية، لكن في عام 1966 كانت "مجرّد وجهة نظر فحسب". قال: إن لاعبي الأرجنتين "حيوانات" غير متحضرة.
في عام 1982 كانت جزر الفوكلاند، جنوب المحيط الأطلسي، على وشك أن تصبح مسرحاً للحرب، وهذا الأرخبيل الصغير كان قد تم إعلانه من الأمم المتحدة بأنه "أرض متنازع عليها"، لكن هذا لم يمنع الدكتاتورية الأرجنتينية بقيادة ليوبولدو فورتوناتو جالتيري، وتحت دعوى أن جزر الفوكلاند أرض أرجنتينية حصلت عليها الأرجنتين عند موافقة إسبانيا على استقلالها، فنزل الجيش الأرجنتيني على الجزر، واستتبع ذلك حرباً كانت الأحدث بين دولة أميركية جنوبية ودولة أوربية، وهزم فيها الجيش الأرجنتيني شرّ هزيمة، وأغرقت العديد من سفنه وقتل 650 جندياً أرجنتينياً، وأدى ذلك في الجانب الآخر لإعادة انتخاب مارجريت تاتشر الحديدية، "بطلة الحرب" في عام 1983 والتي تقاتل "مثل الرجال".
"شكرا لله على الفوتبول، شكرا لله على مارادونا"...
يد الله الخجولة
كان إرث الألم الأرجنتيني واضحاً في يوم المباراة، كانت المستشفيات تتلقى كل ساعة عدداً من المصابين جرّاء المشاجرات التي حصلت في الشوارع، تمت سرقة العديد من الأعلام الأرجنتينية وحرقها علناً، الحرارة لاهبة في مدينة مكسيكو في 22 حزيران 1986، لكن الشوط الأول انتهى بسلام، 0-0. سيطرت الأرجنتين إلى حد كبير لكن الفرص الأخطر كانت من نصيب الإنكليز، كانت الشوط الأول هدوء ما قبل العاصفة، مجرّد بروفة لما سيكون لاحقاً "مباراة القرن" حين سيتدخل الله شخصياً لنصرة الأرجنتينيين في الملعب، حين عجز عن نصرتهم في أرخبيلهم.
في الدقيقة 51 تلقى مارادونا الكرة على بعد 40 متراً من مرمى الخصم، يتجاوز مدافعين قبل أن يرسل الكرة لرفيقه لكن المدافع الإنكليزي يصدها في محاولة لإرجاعها لحارسه، وهنا يخرج مارادونا، رقم 10، "الذي يحوي وقود صواريخ بدل دمه" حسب تعبير محمود درويش، يقفز أعلى من الحارس العملاق ويسدد الكرة بيده اليسرى مع حركة رأس توحي بأنه المستخدم لتسديد الكرة. بينما يحتفل الأرجنتينيون بالهدف الأعجوبة، يضغط المنتخب الإنكليزي بأكمله على الحكم، مطالبين بإعادة اللقطة بطيئاً، لكن الأمر انتهى ... أعلن الحكم التونسي علي بن ناصر أنه هدف صحيح.
بعد خمس دقائق أخرى وخلال أحد عشر ثانية فحسب، يتلقى مارادونا الكرة مرة أخرى ويغربل خمسة... سبعة مدافعين إنكليز، "يترك كل واحد منهم ليموت" كما قال المعلق الإنكليزي، ويسجّل الهدف الثاني، هذه المرة بقدمه، في ما سمّي بـ "هدف القرن"، يقول المعلّق الأورغوياني، فيكتور هوغو موراليس: "أريد أن أبكي، تحيا كرة القدم، سباق لا ينسى في أفضل لعبة على الإطلاق. مذنّب صغير، من أي كوكب جئت لتترك الإنكليز يبكون أمام الأرجنتينيين"، مزيج من الرعب والإحساس بيوم القيامة على وجوه الجميع، وصفها المخرج الهولندي وكاتب كرة القدم، جو دي بوتر، بأنها المعجزة الوحيدة في القرن العشرين، ولم يكن مازحاً البتة: كان الوجوم على وجوه الإنكليز، لاعبين ومشجعين، مخيّماً، كان انكساراً رمزياً للغطرسة البيضاء وانتقاماً لقتلى حرب الفوكلاند، في لعبة يعتزّ البريطانيون بأنهم من اخترعوها.
يقول مارادونا عن النصر التاريخي ضد بريطانيا: "بالنسبة لنا لم يكن الأمر يتعلق بالفوز، كان الأمر يتعلق بإقصاء الإنكليز، أردنا تكريم ذكرى الموتى"، وعندما سُئل: هل استخدمت يدك، قال: "سجلت الهدف قليلاً بالرأس وقليلاً بيد الله"
"أردنا تكريم ذكرى الموتى"
يعترف مارادونا لاحقاً: "بالنسبة لنا لم يكن الأمر يتعلق بالفوز، كان الأمر يتعلق بإقصاء الإنكليز، أردنا تكريم ذكرى الموتى"، وعندما سُئل: هل استخدمت يدك، قال: "سجلت الهدف قليلاً بالرأس وقليلاً بيد الله"، عندما سجلت الهدف بيدي شعرت وكأنني سرقت محفظة من رجل إنكليزي، يقول المراهق المشاغب والحامل على كتفيه رغبة الأرجنتينيين بالحرية والتوق للخلاص.
نعم، إنها يد الله التي قامت بلمس الكرة، إنها يد الله التي لم تستطع حرف طوربيد الطراد الإنكليزي "بيلجرانو" عن الوصول لسفينة أرجنتينية وإغراق 300 من البحّارة الأرجنتينيين، والتي لم تستطع أن تحمي 30 ألف مفقود و1.5 مليون منفي، جرّاء سنوات الديكتاتورية في الأرجنتين، لكنها استطاعت حرف كرة منفوخة بالهواء، لتستقرّ في صميم الكبرياء البريطاني. إنها يد الله، إنها يده التي لم تستطع منع الديكتاتوريات من التعاقب على الأرجنتين ولم تجرؤ على صدّ الغطرسة الإنكليزية وقناعها الميت تاتشر، لكنها منحت سعادة صغيرة لشعب ضاجّ بالحياة، عبر رسوله قصير القامة، مارادونا، الذي مسته يد الله في وقتها، وأخذت منه صوابه بعد أن منح السعادة القصوى للملايين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون