"أتمنى أن يزول هذا الوباء بأسرع وقت. أودّ أيضاً أن يحلّ السلام في كلّ مكان، وخاصة في البلاد الفقيرة، حيث لا تملك الشعوب وخاصة الأطفال القدرة على الدفاع عن أنفسهم. في الأرجنتين، كما في أجزاء كثيرة من هذا العالم، يجب أن يتم القضاء على فيروس الجوع والبطالة الذي يلتهم كرامة الشعوب".
كانت هذه الرسالة الأخيرة التي وجّهها أسطورة كرة القدم دييغو مارادونا لعشاقه ومحبيه، عبر صحيفة كورييري ديلي سبور الإيطالية، قبل أقلّ من شهر، بمناسبة بلوغه عامه الستين.
أراد الفتى الذهبي أن يودّع جمهوره بالطريقة التي عرفوه بها دائماً: اللاعب الذي ينتمي إلى الناس وإلى الناس فقط، اللاعب الذي يرى في كرة القدم مساحة وفسحة للشعوب المستضعَفة للتعبير عن نفسها وإيصال صوتها.
بالنسبة إليه، كلّ هدف يسجله هو رسالة وهو قضية بحد ذاته. إدخال الفرح إلى نفوس أطفال الأرجنتين الفقراء الذين لا يملكون شيئاً سوى الأمل بأن يصبحوا بدورهم "مارادونا" يوماً ما، كان أكثر ما يحفّزه على تقديم الأفضل.
في الـ25 تشرين الثاني/ نوفمبر، رحل الـBarillete Cosmico، أي الطائرة الورقية الكونية، وهو اللقب الذي أطلقه عليه المعلق الشهير هيوغو موراليس، بعد تسجيله هدفه الأسطوري ضد إنكلترا في مونديال 1986. وسائل الإعلام الأرجنتينية ذكرت أنه تعرض لسكتة قلبية أنهت حياته.
بالرغم من اعتزاله اللعب قبل 23 سنة، فإن خبر رحيل مارادونا أشعل النار في صدور الملايين من محبيه حول العالم. استفاقت ذكريات طفولتهم ومراهقتهم. بطلهم الذي كان لا يُهزم، الملك رقم 10 الذي شكل تجسيداً حياً لشخصية الكابتن ماجد (Captain Tsubasa)، اللاعب القادر على تخطّي كل المدافعين وتسجيل الأهداف، رحل.
أولئك الذين تشكّل وعيهم الكروي في الثمانينيات من القرن الماضي كانوا محظوظين أكثر من غيرهم. شاهدوا بأم عينهم منتخب البرازيل الذهبي لعام 1982 بكرته الجميلة والفريدة من نوعها، ومنتخب ألمانيا الذي بلغ نهائي المونديال في ثلاث نسخ متتالية، وشهدوا على الصعيد الفردي أساطير من طينة زيكو، سقراط، بلاتيني، فان باستن ولوثار ماتيوس. ومع ذلك، فإن أبناء هذا الجيل يعتبرون أنهم أبناء مارادونا، وأن موته تسبب لهم اليوم باليتم الكروي، فهو اللاعب الذي أحب معظمهم كرة القدم لأجله، لأجله هو فقط.
كان مارادونا يرى في كلّ هدف يسجله رسالة وقضية بحد ذاته. إدخال الفرح إلى نفوس أطفال الأرجنتين الفقراء الذين لا يملكون شيئاً سوى الأمل بأن يصبحوا بدورهم "مارادونا" يوماً ما، كان أكثر ما يحفّزه على تقديم الأفضل
لم يكتفِ ماردونا بجذب الأنظار إليه داخل المستطيل الأخضر. لاحقته عدسات الصحافيين أينما ذهب. تصريحاته ومواقفه أثارت الجدل على الدوام. كان يسارياً على طريقته. أُعجب بالقادة المناهضين للولايات المتحدة. ربطته علاقة جيدة بكل من الرئيسين الراحلين الفنزويلي هوغو تشافيز والكوبي فيديل كاسترو، فيما رأى في ابن بلده أرنستو تشي غيفارا القدوة والمثال المحتذى. وقد خلّد مارادونا هذه العلاقة بوسم صورة غيفارا على كتفه الأيمن.
شغل مارادونا العالم على الدوام، وانقسمت حوله الآراء. يرى البعض أنه أفضل لاعب في تاريخ كرة القدم. كان البرازيليون يظنّون أن ظاهرة بيليه لن تتكرر، وأن الكرة بدأت تصبح جماعية أكثر مع الوقت، أي ابتداءً من منتصف السبعينيات، مع تزايد دور المدربين وظهور الخطط التكتيكية، على حساب دور اللاعبين المنوط بهم تنفيذ خطط المدرب.
ولكن مارادونا ظهر وشكّل ندّاً حقيقياً له. لم يلتقِ اللاعبان في الملاعب، لكن حرب التصريحات بينهما لم تتوقف يوماً. عام 2000، توّجت الفيفا بيليه بلقب لاعب القرن بناءً على تصويت المحللين، الصحافيين والمدربين، فيما تفوّق مارادونا في التصويت الذي جرى يومها عبر الإنترنت واستهدف جمهور كرة القدم. مارادونا الأفضل في عيون الجمهور إذاً، هو لاعب الجمهور في الأساس، هو بطلهم.
الحديث عن إنجازات مارادونا، أهدافه ومهاراته يحتاج إلى كتب. المواقع الإلكترونية مليئة بمقاطع الفيديو التي تثبت موهبته، فرادته واستثنائيته. الإحاطة بمسيرته وتلخيصها في نص واحد أمر غير ممكن، لكن عدداً من المحطات الرئيسية طبعت مسيرته، وساهمت في حياكة أسطوريته وتحويله إلى رمز داخل الملعب وخارجه.
لم يكتفِ ماردونا بجذب الأنظار إليه داخل المستطيل الأخضر. تصريحاته ومواقفه أثارت الجدل على الدوام. كان يسارياً على طريقته. أُعجب بالقادة المناهضين للولايات المتحدة، ورأى في ابن بلده أرنستو تشي غيفارا القدوة والمثال المحتذى
ـ عام 1979، تُوّج منتخب الأرجنتين ببطولة كأس العالم للشباب التي أقيمت في اليابان، بعد الفوز على منتخب الاتحاد السوفياتي في النهائي 3-1. قدّم مارادونا مستوى مذهلاً في البطولة وحصل على جائزة أفضل لاعب. وأصبح ابن الـ19 سنة يومها هدفاً لعدد كبير من الأندية الكبرى التي تهافتت للاستفادة من موهبته الاستثنائية. المقرّبون منه نصحوه يومها بالاستمرار مع ناديه أرجونتينوس ليبقى بعيداً عن الضغوطات في مرحلة صقل موهبته. استمر مع النادي حتى عام 1981، عندما انتقل إلى بوكا جونيورز ومنه إلى العالمية.
ـ الخامس من تموز/ يوليو، سنة 1984، هو يوم لا يُنسى في تاريخ مدينة نابولي. شهد نادي المدينة لكرة القدم واحداً من أهم التعاقدات في تاريخ هذه الرياضة. وصل مارادونا إلى نابولي، وقاد الفريق إلى تحقيق لقبي دوري تاريخيين، إضافة إلى كأس الاتحاد الأوروبي. قضى مارادونا ست سنوات مع نابولي، وصار خلالها أسطورة النادي الوحيدة، وكُرّم بوضع تمثال له في المدينة.
ـ في 22 حزيران/ يونيو 1986، وفي واحدة من أشهر مباريات كأس العالم على الإطلاق، قاد مارادونا منتخب بلاده للفوز على إنكلترا 2-1 في ربع نهائي مونديال المكسيك من خلال تسجيله هدفين تاريخين خُلّدا في الذاكرة: الأول سجّله بيده وقال بعد المباراة أنها كانت "يد الله"، والثاني سجّله بعد عمل فردي رائع، فباتت الأهداف التي تأتي بعد سلسلة مراوغات تُسمّى لاحقاً "أهدافاً مارادونية". سئل مارادونا بعد سنوات طويلة إذا كان يشعر بالندم بسبب احتياله على الحكم للتسجيل فأجاب: "لو كان يمكنني إعادة الزمن إلى الوراء لربما فعلت، لكن الهدف سيبقى هدفاً، والأرجنتين هي بطلة العالم، ومارادونا هو الأفضل".
ـ في مونديال 1994، في الولايات المتحدة الأمريكية، أظهر فحص دوري أجري لمارادونا وجود مادة إيفيردين المنشطة في جسمه، فاستُبعد من البطولة، ومنع من ممارسة كرة القدم لمدة 15 شهراً. ابن الـ33 حينذاك أنهى مسيرته الدولية، وخرج من الباب الضيّق. وكان اللاعب قد واجه مشاكل متعلقة بإدمان المخدرات في مطلع التسعينيات، وخضع لجلسات علاج طويلة بدون أن ينجح في التخلص من المشكلة.
ـ عاد مارادونا إلى كأس العالم مجدّداً عام 2010، من بوابة تدريب منتخب الأرجنتين. لم تتكلل تجربته هذه بالنجاح، ومنح منتخب بلاده خسارة قاسية أمام ألمانيا 4-0 في ربع النهائي، خسارة أجهضت مسيرة مارادونا التدريبية في مهدها، وباتت المثال التطبيقي الأبرز اليوم للنظرية القائلة إن اللاعب الأسطوري لن يكون مدرباً ناجحاً بالضرورة.
بعد نهاية مونديال 1986، كتب الشاعر الفلسطيني محمود درويش نصّاً جميلاً، أشاد فيه بعظمة مارادونا. مما قاله عنه: "يدخل إلى الملعب كأنه داخل إلى كنيسة. يغربل الدفاع ويهدّف. لن يجد الأطباء دماً في عروقه، سيجدون وقود الصواريخ".
درويش الخائف من الفراغ الذي سيعيشه، كما كل عشاق كرة القدم، بعد نهاية كل مونديال، توجّه بالسؤال إلى مارادونا: أين سنذهب هذا المساء؟، وهو السؤال الذي يدور اليوم على لسان عشاق اللاعب المفجوعين برحيله.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...