شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"بأي حق يسرق الوباء ذاكرتي؟"... عن تأثير كورونا على أدمغتنا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 26 نوفمبر 202005:37 م

لا نحتاج أحداً ليؤكد لنا حقيقة أننا لا نعيش اليوم أفضل أيام حياتنا، فالعالم أجمع في حالة من الترقّب لما ستؤول إليه الأوضاع المعيشية والطبية، بانتظار توافر اللقاح المنتظر الذي تعلق عليه الآمال للقضاء على جائحة كورونا المستمرة في حصد المزيد من الأرواح.

يتسبب فيروس كورونا بمشاكل جسدية ونفسية حتى بالنسبة للأشخاص الذين لم يطرق بابهم حتى يومنا هذا، فإلى جانب القلق والاكتئاب الذي يسيطر علينا، يمكن للعزلة الاجتماعية أن تغير كيمياء الدماغ وأن تسبب ضعفاً في الذاكرة.

من هنا يتساءل البعض منّا: بأي حق يسرق الوباء ذاكرتنا، ويجعلنا نغرق في دوامة من النسيان؟

ارتباط الوقت والذاكرة

منذ أن بدأ الإغلاق ودخلت إجراءات التباعد الاجتماعي حيّز التنفيذ، وجد الكثير من الناس أن الوقت والذاكرة فقدا كل معنى لهما، إذ بدت الأيام طويلة بشكل لا يصدق.

في إحدى لوحاته، يرسم الفنان الشهير سلفادور دالي، ذوبان ساعات فضية اللون، ملفوفة مثل قميص معلّق فوق فرع شجرة ميت، وتبدو الساعة ناعمة ومرنة كالجبنة، وتمثل ما أشار إليه دالي "كاممبر الزمن".

وفي محاول لتحدي الإحساس بالواقع، أطلق الفنان السوريالي على هذه اللوحة اسم "إصرار الذاكرة"، لتذكيرنا بأن الوقت والذاكرة مرتبطان ببعضهما البعض، وأنهما ليسا جامدين كما نعتقد.

هذا بالضبط ما يحدث للبشرية في هذه الفترة الصعبة، حيث ألقى وباء كورونا بثقله على ذاكرتنا، وبات الكثير منّا يجد صعوبة في تذكر إرسال بريد إلكتروني إلى شخص ما أو شراء الحاجات الأساسية.

يتسبب فيروس كورونا بمشاكل جسدية ونفسية حتى بالنسبة للأشخاص الذين لم يطرق بابهم حتى يومنا هذا، فإلى جانب القلق والاكتئاب الذي يسيطر علينا، يمكن للعزلة الاجتماعية أن تغير كيمياء الدماغ وأن تسبب ضعفاً في الذاكرة

وبالرغم من أنه من السابق لأوانه أن تقوم الأبحاث بمقارنة مهارات الذاكرة لدينا قبل وبعد جائحة كورونا، إلا أنه في دراسة استقصائية أجرتها جمعية الزهايمر، أبلغ نصف الأقارب أن ذكريات أحبائهم ساءت، بعد أن بدأوا يعيشون حياة تتسم بالعزلة.

فقد تبيّن أن القيود المفروضة على التواصل داخل دور الرعاية والحظر على الزيارات، كلها أمور أثّرت سلباً على حالة المرضى، بحيث لوحظ أن البعض فقد بسرعة ذاكرته، ووجد الكثيرون أنفسهم عاجزين عن ارتداء الملابس وإطعام أنفسهم.

وبمعزل عن هؤلاء المرضى، فإن جائحة كورونا أثرت سلباً على ذاكرة الجميع بطريقة أو بأخرى، وحتى بالنسبة لأولئك الذين لطالما تباهوا بأنهم ينعمون بذاكرة قوية "كالفيل"، فقد وجدوا أنفسهم اليوم عاجزين عن تذكر أبسط التفاصيل، وفق ما ذكرته كلوديا هاموند، في مقالها الوارد في موقع بي بي سي.

في هذا الصدد، بدأ البحث في جامعة كاليفورنيا إيرفين، في كيفية تأثير الإغلاق على ذكريات الناس، وقد تبيّن أنه حتى الأشخاص الذين يتذكرون عادة الأحداث بأدق تفاصيلها، مثل شراء تذكرة سينما قبل 20 عاماً، باتوا ينسون العديد من الأمور.

ما هي الأسباب الكامنة وراء النسيان المتكرر؟

هناك أنواع مختلفة من الذاكرة، فنسيان ما كنّا ننوي شراءه يختلف عن نسيان اسم شخص ما، أو عن تذكر ما فعلناه الأسبوع الماضي، ولكن البحث في كيفية عمل الذاكرة يشير إلى عدة طرق يمكن أن يكون لبيئتنا الحالية تأثير سلبي عليها.

العزلة الاجتماعية: هناك عدة أمور من شأنها أن تؤثر سلباً على الذاكرة، لعل أهمها العزلة الاجتماعية، إذ إن ضعف الاتصال الاجتماعي يمكن أن يؤثر سلباً على الدماغ.

يجب أن تستحق قصتنا أن تُروى، وأن تكون مثيرة للاهتمام بدرجة كافية، وإلا سنمر عليها مرور الكرام

بالطبع لا يشعر الجميع بالوحدة بنفس الطريقة، ولكن أصبحنا جميعاً نرى عدداً أقلّ من الناس مقارنة بالسابق، بحيث بتنا نشتاق مثلاً للمحادثات السريعة التي كنّا نجريها في المكتب أو في الحفلات، حيث نلتقي مع عشرات الأشخاص ونتبادل القصص مع بعضنا البعض.

والحقيقة أن تكرار القصص يساعدنا على ترسيخ الذكريات المتعلقة بما حدث لنا، وهي تُعرف بالذكريات العرضية. أما اليوم، ومع تأجيل الحفلات الاجتماعية على أنواعها، بات لدينا القليل للحديث عنه، خاصة وأنه يجب أن تستحق قصتنا أن تُروى، وأن تكون مثيرة للاهتمام بدرجة كافية، وإلا سنمر عليها مرور الكرام.

وعليه، في ظل عدم التواصل مع الآخرين بنفس القدر، فإنه ليس من المستغرب ألا تبدو تلك الذكريات واضحة تماماً كما في العادة.

القلق والغرق في عدم اليقين: هناك ما هو أكثر من مسألة النقص في التواصل البشري والاجتماعي، بحيث أعرب الكثير من الناس عن قلقهم مما تحمله الأيام لنا، كما أنه من الصعب عليهم التخلص من الإحساس بالشك وعدم اليقين، وبأن العالم أصبح يتخبط في المجهول.

في هذا الصدد، أجرت عالمة الأحياء النفسية ديزي فانكورت وفريقها، أبحاثاً في المملكة المتحدة حول مشاعر الناس خلال فترة الوباء.

على الرغم من أن مستويات القلق بلغت ذروتها عندما بدأ الإغلاق وانخفضت تدريجياً، إلا أن المتوسط بقي أعلى من المعتاد، لاسيما بالنسبة للشباب الذين يعيشون بمفردهم أو مع أطفال، أو يعيشون مع دخل منخفض، أو في المناطق الحضرية.

في غضون ذلك، وجد مكتب الإحصاء الوطني في المملكة المتحدة أن معدلات الاكتئاب قد تضاعفت، ومن المعروف أن الاكتئاب والقلق لهما تأثير سلبي على الذاكرة، بحيث أن المخاوف ترهق ذكرياتنا، ما يجعلنا أقل قدرة على تذكر قوائم التسوق أو ما نحتاج القيام به للعمل.

نقص في الإشارات: في زمن التباعد الاجتماعي، بات هناك نقص كبير في الإشارات لمساعدة ذاكرتنا.

على سبيل المثال، إذا خرجنا إلى العمل، فإن رحلتنا وتغيير المناظر الطبيعية وفترات الراحة التي نأخذها في اليوم، تمنحنا نقاطاً زمنية لترسيخ ذكرياتنا، ولكن عندما نعمل من المنزل، فإن كل اجتماع عبر الإنترنت يشبه إلى حد كبير أي اجتماع آخر، لأننا نميل إلى الجلوس في نفس المكان أمام الشاشة نفسها.

تعليقاً على هذه النقطة، قالت كاثرين لوفداي، أستاذة علم الأعصاب الإدراكي في جامعة ويستمنستر: "إن محاولة تذكر ما حدث لكم عندما يكون هناك القليل من التمييز بين الأيام المختلفة، يشبه محاولة العزف على البيانو عندما لا تكون هناك مفاتيح سوداء لمساعدتكم".

بالإضافة إلى ذلك، فإن كسر النمط الروتيني يؤثر سلباً على ذاكرتنا، ففي المكتب قد نمر عبر غرفة كان لدينا فيها اجتماع معين، ما يذكرنا أننا بحاجة إلى إرسال بريد إلكتروني لشخص ما، كما نتذكر بالضبط المكان الذي أجرينا فيه محادثة- بالقرب من المصاعد أو في مطبخ المكتب- وهذا يساعدنا على عدم نسيانها، أما في المنزل فلا توجد إشارات لمساعدتنا على تذكر الأجزاء المختلفة من عملنا.

تدريب الدماغ

بشكل عام، هناك حالة إرهاق لا تساعد على ترسيخ الأحداث في ذاكرتنا، فالاجتماعات التي نجريها، عبر منصة زوم مثلاً، مرهقة، وإجراء بعض الأعمال يكون أصعب من المنزل، كما أن الافتقار إلى الروتين والقلق بشأن الوباء يمكن أن يقلق مواعيد النوم.

مع وجود عوامل عديدة مثل التعب، القلق ونقص الإشارات والتفاعلات الاجتماعية، لا عجب من أن يشعر البعض بأن الذاكرة تخذله، غير أن النبأ السار أن الدماغ يتمتع بمرونة عالية، وبالتالي هناك أشياء يمكننا القيام بها حيال مشكلة ضعف الذاكرة، كتحريك الجسم والذهاب في نزهة مثلاً، بالإضافة إلى التدرب على تمارين اليقظة، أي التقنيات التي تساعدنا على البقاء في الوقت الحاضر، وضرورة التمييز بين أيام الأسبوع وعطلات نهاية الأسبوع، للتغلب على التشوهات التي قد تحدثها حياتنا الجديدة في تصورنا للوقت.

"إن محاولة تذكر ما حدث لكم عندما يكون هناك القليل من التمييز بين الأيام المختلفة، يشبه محاولة العزف على البيانو عندما لا تكون هناك مفاتيح سوداء لمساعدتكم"

في حديثها مع موقع رصيف22، أوضحت الأخصائية في علم النفس، لانا قصقص، أنه خلال فترة الحجر المنزلي يختبر معظم الأفراد حالات من القلق والضغط النفسي، بالإضافة إلى ضعف التواصل البشري، ناهيك عن غياب الروتين الذي لطالما اعتادوا عليه، ما يؤثر سلباً على وظائف الدماغ، وتحديداً على الشق المتعلق بالذاكرة: "لقد تغير الروتين، ولم يعد الدماغ يعمل بنفس الطريقة التي كان يعمل بها في السابق"، على حدّ قولها.

وأشارت قصقص إلى أن استخدام الهاتف الذكي بشكل مفرط خلال فترة الحجر يؤثر سلباً على وظائف الدماغ: "قد لا نجد في الوقت الحالي الكثير من الخيارات المتاحة لنا، ولكن من الأفضل استثمار الوقت بأمور مفيدة".

من هنا شددت لانا على إمكانية تقوية الذاكرة من خلال وضع جدول زمني لتنظيم المهام اليومية، المطالعة، ممارسة الرياضة، الانكباب على تطبيقات وألعاب تعمل على تحسين الذاكرة، الانتباه على النظام الغذائي وكتابة المذكرات.

في الختام قد يبدو من المهم إضفاء المزيد من التنوع على حياتنا، ويمكن أن يساعدنا التفكير المتعمّد في يومنا كل مساء على ترسيخ ذكرياتنا، وبإمكاننا حتى كتابة يومياتنا. صحيح أن هناك القليل من الأمور التي تحدث، وهذا أمر جدير بالملاحظة هذه الأيام، ولكن قد يكون من المثير للاهتمام أن ننظر إلى الوراء في يوم ما ونرى ما قمنا بكتابته، إذ يمكن أن تساعد الكتابة في تقوية ذاكرتنا.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image