شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
تأملات في

تأملات في "اللوح 16"... أن تحلم على ظهر حوت يبحر نحو اللامكان

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 30 نوفمبر 202003:55 م

"في أحد الأيام، حلمنا بحوت يحملنا على ظهره خارج السجن"، بهذه الكلمات تتذكر الفنانة السورية عزّة أبو ربيعة، أحد أيام اعتقالها في سوريا عام 2015. هناك، في زنزانة في سجن عدرا المركزي، "حلمت" مع ثلاثين امرأة أخرى يشغلن معها ذات الزنزانة، بهذا الحوت الذين طاف بهنّ وأسرتهنّ المعدنية على ظهره إلى الخارج. ربما ما جمع أولئك النسوة كان حلماً جماعياً أو اتفاقاً على الأمل بالخلاص، أما الحوت والأسرّة فنراهم في لوحة بحجم "50X35 سم" باسم "اللوح 16" يتهادى بين أزرقين، حاملاً الأسرّة المعدنية التي حاولت أبو ربيعة، حسب تعبيرها، أن تحسب إمكانية تكديسها أو ترتيبها على ظهره لكي تتسع للجميع.

علّمت أبو ربيعة سجينة أمّية الرسم، فقامت الأخيرة برسم منزلها وتعليق "اللوحة" على جدر الزنزانة، ثم قالت لأبو ربيعة بأنها "تشعر كأنها في بيتها"، مبتهجةً لقدرتها على التعبير دون أن تجيد الكتابة أو القراءة. هذه المساحة/ الزنزانة الأشد انتهاكاً للفرد، تحولت إلى ما يشبه المنزل، ولو بصورة ساخرة، منزل يحمله الحوت على ظهره دون أن نعلم وِجهته، ربما إلى المفر، الفردوس أو ظلام القاع.

الحلم السابق بالخلاص شديد الهشاشة، إذ لا استقرار على ظهر الحوت، الأمر أشبه برحلة مؤقتة، فظهره "أرض" لا ثبات عليها، مجرد سطح يداري الحلم المؤقت بالنجاة، وهذا ما يشابه عائلياً حكاية "نون"، الحوت الذي "بُسطت الأرض على ظهره" فاهتز وماد، فأتت الجبال لتثبت الأرض، ما يميز "نون" أنه تحت الأرض السابعة، تلك الأشد عمقاً وظلاماً، وربما عذاباً، حيث ماء اسودّ ظلاماً، لا صوت فيه ولا نور.

"في أحد الأيام، حلمنا بحوت يحملنا على ظهره خارج السجن"، بهذه الكلمات تتذكر الفنانة السورية عزّة أبو ربيعة، أحد أيام اعتقالها في سوريا عام 2015... "حلمت" مع ثلاثين امرأة أخرى يشغلن معها ذات الزنزانة، بهذا الحوت الذين طاف بهنّ وأسرتهنّ المعدنية على ظهره إلى الخارج

الحوت لا يبحر إلا بعيداً، لا يقترب من "أرضنا"، وتدجينه دوماً مأساوي. أن نهرب على ظهر حوت يعني أن نختار اللامكان وأن نبتعد عن كل شيء. ركوبه علامة على فقدان الذات التي لم يعد لها مساحة في هذا العالم لشدّة ما تعرضت له، لأن الحوت نفسه، إن اعتبرناه أرضاً، لا يصلح إلا للرحيل، وأي محاولة لأسره، كالحلم، تنتهي بفناء ما، موتنا أو موت الحوت.

استضاف قصر طوكيو العام الماضي ضمن معرض City Prince/sses، عملاً فنياً بعنوان "دعه يعمل، دعه يمر!". تجهيز ضخم يحاكي الهيكل العظمي للحوت "كيكو" الذي لعب بطولة الفيلم الشهير "فري ويلي" عام 1993. نقف أمام عمل التجهيز محدقين بالهيكل العظمي العملاق مُحاطاً بالألعاب ورموز الثقافة الشعبية والتسلية، علامات الاستهلاك تملأ جوفه الفارغ لمتعتنا.


التجهيز تعليق على استغلال هذا الحوت والعنف الذي تعرض له في حياته ضمن الأحواض، ثم نهايته المأساوية، إذ وُجد ميتاً عام 2004 بعد أن أطلق سراحه قرب سواحل أيسلندا، ويقال إن سبب موته، للمفارقة، كان اختناقاً، جيوب هواء ملأت رئتيه.

المثير للاهتمام أن التجهيز اعتمد على الهيكل العظمي للحوت، لم يكسه لحماً، فلا ظهر له لتُبسط أرض ما، وكأنه لم يستطع النجاة، لا بنفسه ولا بمن يمكن أن يحملهم، وكأن "الأسر" يضرب حياة من يختبره وينفي وسيلة نجاته.

كالحوت، لا يمكن تدجين الحلم، فلا جنّة ولو على ظهر "نون"، هناك فقط رحيل نحو نجاة ما، وركوبه يعني التخلي عن كل شيء والهرب بعيداً، وهذا ما يزيد الحساسية والقسوة في لوحة أبو ربيعة، فالمهرب في الحلم مهدد، سواء كان الحوت ثابتاً أو سابحاً نحو حريته الثانية، تلك التي وُعد بها بعد الأسر.

يرىJason Bahbak Mohaghegh ، في كتابه "فناء" أن الـ Mania أو الهوس، يمثل النزعة البشرية نحو الفناء الكليّ، أي أن الهوس بغرض أو فكرة واحدة يتدفق الوجود عبرها ينتهي بفناء العالم، العقل المهووس في أشد حالته يبحث عن موته في موضوع تحديقته، يستبيح ويضحي بالعالم بأكمله ليبقى هو بمواجهة غرضه، ما يقوده ربما لفنائه وحيداً أمام اللاشيء.

لكن ماذا لو أصيبت الحيتان بالهوس؟ ألم يرم 400 حوت الشهر الماضي أنفسهم للهلاك؟ ما هي الفكرة أو الغرض الذي أسر تفكيرهم جميعاً حد فنائهم؟ ربما البحث عن مهرب، خراب العالم لم يعد صالحاً لنجاتهم، فانهوسوا بالرحيل حد رمي أنفسهم على الشاطئ، ربما "غنّى" أحدهم نشيداً آسراً ووعد من معه بالخلاص، فأفنى أصحابه ونفسه، وأصبحوا كـ "كيكو"، علامات على الخراب الكلي وبشارات بفناء في الأرض والماء.

"مملكة الرب" و"حديقة عدن" و"الفردوس"

يشير الإيطالي جورجيو أغيمبين، في كتابه الصادر هذا العام بعنوان "المملكة والحديقة"، إلى الاختلافات التأويلية والثيولوجية بين "مملكة الرب" و"حديقة عدن" و"الفردوس"، ينوه بداية أن الفردوس كلمة مشتركة بين جميع اللغات، وتعني "الحديقة المزروعة والمحاطة بالجدران"، ويشير إلى لبس نقرأه عدة مرات حين قراءة العهد القديم، إذ ورد مثلاً في سفر التكوين 2:8: "غَرَسَ الرَّبُّ الإِلهُ جَنَّةً فِي عَدْنٍ شَرْقاً، وَوَضَعَ هُنَاكَ آدَمَ الَّذِي جَبَلَهُ". هذه الحديقة الصالحة للزراعة موجودة قبل الجنّة، هي مساحة لتسلية الإله، وضع آدم فيها ليحدق في الرب في مخلوقاته، تزرع، تحصد وتصطاد داخل السياج.

تعمّد القديس أوغطسين، حسب أغيمبين، التلاعب بالترجمة اللاتينية، ليؤسس لمفهوم الخطيئة الأولى، وأن كل بشري خطّاء، بل وشرير بسبب ما فعله أسلافه، أو سلفه الأول آدم بصورة أدق، فالإنسان حتى وهو في الحديقة المزروعة بعد خلقه مباشرة، وقبل أن يهبط الأرض، يختزن أصل الشر.

هذه القسوة في التأويل في سبيل الخلاص وإحلال مملكة الرب، ربما تجعل الإنسان، إن سلّمنا بتأويل أوغسطين، مهووساً بنجاته بعد طرده من الجنة، والأهم، هوسه هذا أفنى الحديقة، إذ لا يوجد من يزرعها ويصيد فيها، ما يترك الإنسان محكوماً بفناء يسعى إليه هو وكل سلالاته.

يتحول المكان في ظل الديكتاتورية، أي مكان، إلى جزيرة على ظهر حوت، تبحر نحو اللايقين، جزيرة لا خصوصية فيها، يتكدس فيها الأفراد والأحلام في ظلام دامس، لا يدركون ما حولهم ومن حولهم، ولا مساحة شخصيّة فيها سوى في السرير، بصورة أدق، الحلم، حيث لا جدران أبداً

بالعودة إلى الحوت، والأرضين السبع فوقه، نكتشف أن الحديقة لا يمكن لها أن تكون على ظهره، إذ لا زراعة أو صيد هناك، بل أرض مهددة بالغرق وأسرّة زنزانة تطفوا بعيداً، أشباه منازل تداري الألم والأمل، والأهم لا جنة ولا مملكة للرب في هذا الخراب الذي نعيشه، بل جدران تكدّس الأجساد ضمنها، وحوت مهووس بموته. لكن ربما ذاك الحلم الذي راود النسوة في زنزانة في سجن عدرا، ليس إلا رحلة نحو الخلاص، مفرّاً مؤقتاً نحو أرض غير معروفة، لا جنة فيها ولا فردوس و لا حديقة، حلماً بالخلاص من شرور هذا العالم، وكل خطاياه الأصيلة.

ففي أعلى اللوحة بقعة من سماء فيها طير، نورس ربما، يشير إلى أرض جديدة، يموت الحوت عليها و ينجو من على سطحه، أو ربما، الخلاص كان حاضراً طوال الوقت، وهذا ما يمكن تلمسه في "اللوح 26" لعزة أبو ربيعة، إذ نشاهد امرأة نائمة، لا نعلم بما تحلم، لكن أبو ربيعة تعلق على صفحتها الرسميّة واصفةً اللوحة بقولها: " أصبح السرير والمخدة البيضاء هما الوطن بالنسبة لي"، وكأن رحلة الحوت انتهت، ولم يبق سوى الحلم، ذاك الذي يفعّله السرير/ المنزل المحمول من الزنزانة إلى أرض المنفى.

نقرأ في كتاب "الحلم في ظل الرايخ الثالث-كوابيس أمّة 1933-1939" لشارلوت بيردت، عن حلم باسم "الحياة بدون جدران"، والمقصود به حسب تعليقات بيردت الانسحاب التام من الفضاء العام، وتقول صاحبة الحلم: "لا منزل خصوصي بعد الآن، أنا أعيش في قاع البحر"، صاحبة الحلم مثقفة بالثلاثينيات حسب الكتاب، لا تعمل، وتزور طبيباً نفسياً تخبره بأحلامها دوماً.

المثير للاهتمام في الوصف السابق هو قاع البحر، ذاك المكان الذي لا أحد فيه، أو ربما الجميع هناك. لا حديقة ولا مكان خاص للتكتّل، كحالة اللوح 16، إذ يتحول المكان في ظل الديكتاتورية، أي مكان، إلى جزيرة على ظهر حوت، تبحر نحو اللايقين، جزيرة لا خصوصية فيها، يتكدس فيها الأفراد والأحلام في ظلام دامس، لا يدركون ما حولهم ومن حولهم، ولا مساحة شخصيّة فيها سوى في السرير، بصورة أدق، الحلم، حيث لا جدران أبداً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard