شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"رايق" "مثير للاهتمام" و "رائع"... ألفاظ الشغف الغامضة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

السبت 24 أكتوبر 202006:27 م

نعتت أركادينا، الممثلة المتقاعدة، مطلع مسرحية ابنها كونستنين بـ "الـهراء المنحطّ"، هكذا تخيل تشيخوف رد فعلها في "النورس". هناك صفة أخرى ألحقت بمسرحية كونستنين وهي "غاضبة" وكان الوصف على لسان الطبيب دورن. هذه الأحكام الآنيّة، والملفوظة تتكرر أيضاً في كتب علم الجمال ونظرية الذوق، إذ يصف فريدريك جايمسون فيلم رومان بولانسكي "China Town" بأنه "مثير للاهتمام"، ذات الأمر في الحياة اليومية، ننعت بعض ما نراه بـ"لطيف"، "بشع"، "مشين" أو "رايق"، كلمات ننطقها علناً حين نشاهد ما يستدعي رأينا وحكمنا الجمالي الآني.



وسواء كانت مقصودة، أي تعبر حقيقة عما نشعر به، أو مجاملة كـ "لطيف" و"رايق" و"مثير للاهتمام"، التي نقولها لنخصم الحديث، دون إبداء رأي أو تقييم حاسم، نستفيد من غموض هذه النعوت للتهرب من دعوة طرح تقييم ما، وهي خدعة تمارس أحياناً حين نشاهد أعمال أصدقائنا الفنية والأدبية، نكتفي بكلمات من هذا النوع لنخفي حقيقة ما نشعر به أو الحكم العقلاني الذي نمتلكه.

قد نستخدم كلمات "بشع" و"مشين" أو "لطيف" و"رايق" للتعبير عن حقيقة شعورنا تجاه شيء أو لنخصم الحديث بمجاملة متهربة، لكن هذه النعوت لا تمتلك أثراً على منتج الآخر وتتأرجح بين احتمالات الصدق والكذب في موقفنا منه

هذا النوع من الأحكام والتقييمات يطلق عليه الباحث الأمريكي ستانلي كافل اسم "ألفاظ الشغف"، ترجمة غير دقيقة أو حرفية من قبلي لتعبير "passionate utterance"، والتي يرى أنها ردود أفعال آنية، تنطق علناً لأن الجمال، بمعناه الواسع، يستدعي منا رأياً أو كلاماً، هو دعوة للحوار وفرصة لتبادل الآراء.

ما "يثير الاهتمام" في هذه الألفاظ، أنها لا تمتلك أثراً على منتج الآخر ولا موقفه ذاته، هي تحتمل الصدق والكذب. أشبه بعلامات على عدم التوازن الاتصالي لدى من ينطقها، ورغبة بمعرفة أكثر أو على العكس أقل، هي ذاتية أكثر منها موضوعية، أي أنها لا تمتلك أثراً على الواقع أو الموضع الذي حفّز نطقها، كما أنها تحوي غموضاً ما، يتحرك بين الجدّ والهزل، بين الفهم وعدمه، بين العاطفي والعقلاني، وقد سبق لنا أن ناقشنا صفة الـ "كربوج- cute" والـ "غيميك- gimmick"، ونضيف إلى هذه القائمة صفات "مثير للاهتمام- interesting" و"رايق" و"رائع"، تلك التي لا إجماع على معانيها. هي ليست قياسية بل ذاتية، تختلف من شخص لآخر في مدى أثرها.

المثير للاهتمام: إشكالية المعرفة والجمال

لفظة "المثير للاهتمام" واحدة من أكثر الألفاظ تكراراً، سواء في السياقات الجدية أو المازحة، النقدية أو الصحفية، لاحظت مثلاً أني استخدمها بشدّة في كل ما أكتب، في ذات الوقت استخدمها لنفي الرغبة بإبداء رأي واضح، تعبير ساخر يختزل وراءه عاطفة وحكماً مسبقاً هو "لا أريد الحديث عن هذا، فلم يستفزّ بي ما هو جديد".

هذا الغموض والتناقض في المعنى يختف في السياق الجدّي، فما هو "مثير للاهتمام" يرتبط أولاً بالمعرفة، بصورة أدق، بالحدود المعرفية والجمالية التي يستفزّها عمل أو غرض ما، وكأنه يطرح سؤالاً على ما نعرفه، معيداً ترتيب العلاقات بينها. هو وصف لمعرفة جديدة تم اكتسابها عبر الوسيط الفنّي والأدبي. هذه المعرفة قادرة حين التمعن بها على تغيير هذه الحدود، مثلاً قراءة كتاب "الأدب والغرابة- دراسات بنيوية في الأدب العربي" لعبد الفتاح كيليطو، مثيرة للاهتمام، كونها تختبر معارفنا عن الحكاية العربية التراثية وأسلوب قراءتها.

قد نطلق صيغة "مثير للاهتمام" لندلل على فضولنا ورغبتنا بالمعرفة والنظر في عمق الأعمال أو النصوص أكثر من إطلاق حكم جمالي، فهي تفتح حواراً مع الآخر وتدفعنا إلى تقصي ما يشبهه في مجاله

في ذات الوقت، صيغة" مثير للاهتمام" تحمل داخلها وعداً، خصوصاً أنها تعني التأمل في الذات ومعارفها، والوعد هنا يرتبط بالزمن، ما هو مثير للاهتمام يستدعي منا أن نعود إليه لاحقاً، لنسائل أنفسنا وما نعرفه عبره، ويتم ذلك خلال مقارنته مع أقرانه وما يشابهه من أغراض أو أفراد. وهنا تكمن الصيغة الحوارية فيما هو مثير للاهتمام، فحين نطلق هذه الصفة، نكتشف أن خصائص هذا الغرض أو النص أو العمل، تحاور "الآخر"، وتدفعنا نحو اكتشاف ما يشبهه في ذات القطاع. المثير للاهتمام يفعّل الفضول، الغرابة، الرغبة بالمعرفة. هو حكم أولي على ما يستحق النظر به لاحقاً.

"المثير للاهتمام" أن هذه الصفة لا تنتمي للحكم الجمالي في بعض الأحيان، أي هي صفة غير جمالية تطلق على عمل فني أحياناً، بسبب ما يقدمه من معلومات وقدرته على اختبار معلوماتنا، وهذا ما حصل مثلاً حين كتبت عن فيديو بول كوس "منحدر". التسجيل البسيط الذي يمكن أن يراه البعض "تافهاً" حفّز عدة مقاربات نقدية لا تنتمي لعلم الجمال، بل الأدب والفلسفة والممارسة اليومية.

الرايق: ذاك الصفاء العصي على التفسير

نصف بعض الأعمال بأنها "رايقة"، أي هناك نوع من التوازن الداخلي الذي تخلقه لدى المتلقي، هي لا تستفزه للأقصى ولا تتلاشى بدون أثر، بل تخلق رد فعل عقلي وجسدي يدعو للتأمل، ذاك الخالي من المحاكمات الآنية التي نحاول عبرها تفسير ما نراه و"فهمه".

الرايق ذو أثر سحري، يخلق توازناً داخلياً، لا يطالبنا بالتفسير بل بالانصياع لإيقاعه. لا حدود داخلية له، هو منفتح بقدر الزمن الذي نقضيه في تأمله أو تلقيه. يركز على عاطفة واحدة أحياناً أو عواطف مجرّدة يمكن تتبعها، كتأمل كانفس كبير لأزرق إيف كلاين، هناك حسّ بالسكينة يخلقه طغيان هذا اللون، "رواق" يمتد مهما امتد اللون، إيقاع واحد مضبوط نستمع له وننصت.

هذا "الرواق" بصيغته الجدية أشبه بتحديد لحواف التلقي الرمزية، يأسرنا الإطار طواعية، يدعونا أيضاً لأن نتتبعه، كما نلاحظ في لوحات الفنان السوري محمود داوود، هناك دعوة للتأمل والإنصات لإيقاع الألوان. الكلمات ذاتها التي نستخدمها هنا تبدو غامضة، لأن "الرايق" لا يطالب بالحكم أو التقييم، بل بمتابعة ذاك التدفق العاطفي الداخلي.

يحفّزنا الرايق على دعوة الآخرين لدخول هذه المساحة من السكينة، أشبه بنداء خافت لكن علني، للإنصات. لا استفزاز أو تحفيز، بل دفق لطيف ينساب دون حاجة للتسمية، إذ هناك لبس ما يحركه الرايق دون أن يهدد عاطفتنا نحوه. ويمكن إقحام الجذر العربي "راق" وتصريفاته لشدّ المعنى: "صفا، سكن غضبه، أعجبه وسرّه"، كما نتلمس أيضاً سكينة مع فرح بالبذل في سبيل "الرايق"، كما في أحد المعاني "جاد بنفسه عند الموت"، فلا تردد في الانسياب مع ما هو رايق/ رائق، وهنا يمكن أيضاً إقحام مثال آخر للإشارة إلى اللبس اللاإشكالي الذي يخلقه ما صرّف من جذر رقّ بمعنى صفا، إذ نقرأ:

رقّت الكاس ورقّت الخمر... وتشابها وتشاكل الأمل

فكأنما الخمر في كأس... وكأنما الكأس خمر

هذان البيتان المختلف على صاحبهما، يشيران إلى اللبس الذي يخلقه ما راق، لكن هذا التعدد وعدم اليقين و"الإشكال" لا ينفي الصفاء والسكينة، بل يعمقها ويبيح لمن رصدها أن يستمر في تأمله و"ينطق" بما رآه، خصوصاً أن الشكل الذي يوصف به الكأس والخمر دليل على عدم حركتهما، وكأنهما في كأس ثابتة يتأمل فيها الشارب ويترنم شعراً.

الرائع: غياب الأنا على حساب الموضوع

نكرر كلمة رائع دوماً، وفي أحد معانيها المعجمية نقرأ تناقضاً بين الإعجاب وشد الانتباه، وبين الخوف والفزع. وفي مكان آخر يقال الرائع، هو ما يذهب الروع، أي العقل، وهي حالة نادرة الحصول، أي أن نقول عن شيء إنه رائع حد ذهاب العقل. وهنا يمكن تلمس تناقض في المعنى، إن كان الروع يذهب بمجرد أن يقع البصر على الغرض/ العمل/ الشخص، متى تُنطق هذه اللفظة، هل قبل أن يغشى على أحدهم حين يرى محبوبته كما نقرأ في ألف ليلة وليلة؟

لفظة "رائع" تدل على تجربة حسية وعقلية متفاوتة في قدرها على ترك الأثر، إذ لا نعلم إن كان سيعود الفرد لاحقاً لمشاهدة ما هو رائع، فإما أن يدعه ليعود إليه ويتفكر بعد أن أذهب العقل، أو أن يحصل أثره لمرة واحدة دون أن يتكرر

الرائع إذن يهدد تماسك الأنا ووعيها، أشبه بصفعة آنية ومفاجئة لا يمكن العودة منها أو إليها، كون الجسد فقد قدرته والأنا لم تعد قادرة على التماسك، وكأن هناك سحراً دفيناً موجود من حولنا، إن رُتبت عناصر العالم بأسلوب ما فسنتمكن من تحريره بشكل قادر على أن يضرب الروع. هناك شيء من التصوف مرتبط بهذا الغياب الآني والمفاجئ، خصوصاً أن الرائع يقترح رحلة مفاجئة، غير مخطط لها، تسلب اللبّ وتنفي الآن. انخطاف يفعّله ما هو خارج اللحم وموجود في العالم.

هذه الحالة من غياب الروع التي تتفعل حين تلقى عملاً فنياً ما، نقرأ عنها في مذكرات آنا غريغوريغنا، زوجة الكاتب الروسي فيودور ديستويفسكي، إذ نقرأ أنه "في بازل كانت له وقفة طويلة مؤثرة أمام لوحة هانز هولبن (يسوع ميتاً)"، ثم نقرأ في الحاشية أن الزوجين توقفا في مدينة بازل عام 1867، لمشاهدة معرض يحوي اللوحة المذكورة التي "تركت في نفس ديستويفسكي شعوراً بالانسحاق الفظيع".

هذا التلاشي لحظة المشاهدة تصفه غريغوريغنا بالتالي: "تركت اللوحة انطباعاً هائلاً على زوجي، توقف أمامها كما لو أنه مصعوق... بعد أن عدت إليه بعدما يقارب الخمس عشرة إلى عشرين دقيقة، وجدت زوجي لا يزال واقفاً أمام اللوحة كما لو أنه مربوط بها، بدت على وجهه المهتاج تلك الملامح المفزوعة التي اعتدت أن أراها في اللحظات الأولى السابقة لنوبات الصرع التي تداهمه"، و تشير لاحقاً إلى كونه كان سيسقط على الأرض.

ما شاهده صاحب رواية الأبله كان "رائعاً"، ضرب عقله وأخرس فمه. فجأة حصل ذلك دون سابق إنذار، حتى هو لم يتوقع رد الفعل هذا. الأهم أن ما حصل خلق على وجهه الفزع والخوف مما رآه ولم يره أحد، وهنا نعود للأثر الذاتي لهذه الكلمات، هي علامات على تجربة حسية وعقلية متفاوتة في الشدة وفي قدرتها على ترك الأثر، إذ لا نعلم إن كان سيعود الفرد لاحقاً لمشاهدة ما هو رائع، فهل ما هو رائع يدعونا لنعود إليه لنتفكر بعد أن أذهب العقل، أم أن أثره يحصل لمرة واحدة دون أن يتكرر؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image