يقترح لودفيج فيغنشتاين في كتابه "تحقيقات فلسفية" ضمن القضية رقم 262 التالي: "إن من يقدم لنفسه تفسيراً شخصياً للفظة ما يجب عليه أيضاً أن يتعهد في سرّه باستعمال هذه اللفظة بطريقة كذا وكذا، فكيف يتعهد بفعل ذلك؟"، ويشير لاحقاً إلى جدول ذاتي يمتلكه واحدنا، يصنعه بينه وبين نفسه، يحوي تعريفات مختلفة للمصطلحات، تلتمع في رؤوسنا بوعي وغير وعي، حين نصف شيئاً ما أو نحاول نقله إلى شخص آخر.
حذلقة عن سوء الفهم
ليس من السهل الخوض في سؤال التعهد وكيفية إنتاجه أو تبنّيه، لكن ما يهمنا هو الجدول ذاته، القائمة التي نضبط فيها الكلمات ومعانيها ونعرفها ونصرف نحوها وتحولاتها، كل منا على هواه من جهة، وبما يتفق مع جداول "الآخرين" التي لا نعرفها بدقة، من جهة ثانية. لإيضاح هذه الفكرة، يمكن الاطلاع على كتاب ميلان كونديرا "فن الرواية"، وفيه يقدم جدولاً للمصطلحات التي يستخدمها في رواياته مع تعريفاتها، وذلك ليتحكم بدقة بمعاني ما يريد قوله، دون أن نتدخل نحن بجداولنا وتعريفاتها ونسيء الفهم الذي لا بد منه. فالقراءة، أي العلاقة بين النص والقارئ، تعاضدية، النص هو المسافة الوسيطة بين جدولنا وجدول الكاتب، ويقترح النص سلسلة من الألعاب التي يتوقع أننا نجيدها أو لا، وذلك لمخاطبتنا أو تعديل هذا الجدول.
الألم إن اشتد ينفي اللغة ويستبدلها بالصراخ
يختار لاحقاً فيغنشاتين من هذه الجدول كلمة "ألم" التي يستحيل اتفاق شخصين على معناها، خصوصاً أن الألم ظاهرة صوتية، أي تتحرك بين اللغة وبين الأصوات الخالية من المعنى، ولنقله أو وصفه للآخر لابد من الكلمات، لأن الألم إن اشتد ينفي اللغة ويستبدلها بالصراخ. فَهْم هذا الألم يعني حسب القضية 287 من ذات الكتاب، يتجلى في التعرف على الشيء بالذات الذي أفهمه كوني امتلكه، بالتالي "هو محل شفقتي"، ويعرف الشفقة بقوله "الشفقة نوع من الاقتناع بأن شخصاً آخر يتألم".
انتحار جماعي أم سوء تقدير؟
ضلَّ في الأسابيع الماضية حوالي 500 حوت طريقهم في المحيط الهادي، وانتهى بهم الأمر على شواطئ تازمانيا الأسترالية. هذه ليست المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك، لكن العدد الحالي أكبر بكثير من الحالات السابقة. فرق الإنقاذ ما زالت محتارة: كيف يمكن زحزحة أطنان الحيتان؟ هل ننتظر المد، أم نحاول نقلها؟ المثير للاهتمام أن البشر ليسوا السبب فيما حدث، إذ يقول علماء البحار أن الحيتان ربما ضلت طريقها، أو "أخطأت بالملاحة" وانتهى بها الأمر مرمية على الشاطئ الرملي. "الشفقة" هائلة عالمياً، حزن وتعاطف وكلمات من قبل فرق الإنقاذ ووزيرة البيئة الأسترالية عن حجم المأساة التي يشهدها الشاطئ، وتشير الأخبار أيضاً إلى أن القروش البيضاء تدور حول الحيتان، تنظر وتترقب اللحظة المناسبة لتنهش كتل اللحم التي تلفظ الحياة، وتنتظر معجزة لإنقاذها.
تستخدم وسائل الإعلام لوصف الحيتان مصطلحات إنسانية، فهي "تتألم" و"تعاني" لكن حقيقة، هل نتعاطف مع هذه الحيتان لأننا نعرف ألمها؟ أم أن هناك تعريف للألم الموجود خارجاً، تطابقه الحيتان و"نفهمه"؟
هل تتألم الحيتان؟
تستخدم وسائل الإعلام لوصف الحيتان مصطلحات إنسانية، فهي "تتألم" و"تعاني"، مع الأخذ بعين الاعتبار أن ما حصل سوء فهم، وهي الآن تدفع ضريبته. لكن حقيقة، هل نتعاطف مع هذه الحيتان لأننا نعرف ألمها؟ أم أن هناك تعريف للألم الموجود خارجاً، تطابقه الحيتان و"نفهمه"؟ خصوصاً أن لا دور للبشر فيما حصل، أي لا ذنب يتحمله أي واحد منا بخصوص الحيتان التي تفقد حياتها، لا البلاستيك، لا التلوث ولا كل ما يرميه الناس في البحر كان السبب في هذه "المأساة". الأهم، هناك من يخبرنا بما يحدث لهذه الحيتان: "هي تتألم"، "هي تعاني"، لكن هل نستطيع أن نطابق ألمنا الجسدي مع ألمها؟ الأمر أشبه بمن يقول لنا: هذه الجملة مضحكة؟ لا نعلم سبب الضحك، لكن المفترض أنها مضحكة ونحن نعجز عن فهمها، لذا "نضحك" مجاملة دون أن نطور جدولنا الداخلي لمعاني الكلمات التي تستهدفها النكتة. ذات الأمر مع ألم الحيتان، يشفق البعض "خارجياً" دون تطوير للجدول الداخليّ الخاص بذاكرة الألم وتعريفاته، والأهم كلماته.
جدول معاني الألم
تمتلك المؤسسة الطبية جدولاً للألم، لا يعتمد على اللغة، بل على تراكم كمي للأرقام، مرتب من 1 إلى 10. 1 هو ذاك الألم المزعج فقط و10 هو الألم الذي يعيقنا عن الأداء. الألم هنا يوصف بمقدار أثره الجسدي، أي تهديده للوعي والوظائف العلنية، المؤسسة القضائية تمتلك جدولاً مشابهاً، الألم لابد له من تعريف، حصوله فقط لا يكفي، لابد من وصف مكانه ومن أنزله ومدته، كلها معلومات ترتبط بالجريمة أو الإصابة، لكنها لا تصف الألم نفسه. لكن كيف نقيس ألم الحيتان؟
تشير إحدى الدراسات أن الحيتان حين تتألم ينخفض معدل الأصوات التي تطلقها، الدراسة المذكورة تمت على حوتين في الأسر يسبحان في الأعماق، أي بعيداً عما هو مرئي، وكأن الحيتان تتألم بدون لغة وبدون صوت حتى. يبقى السؤال، كيف نشفق على من يتألم دون أن "نفهم" هذا الألم، خصوصاً أن هناك استحالة في "فهم" الألم أو قياسه بدقة لا متناهية؟
ميوعة الألم
بالعودة لسؤال فيغنشتان في البداية، يظهر أمامنا مرة أخرى مفهوم "التعهد"، الذي يمتد من جدولنا الشخصي إلى جدول الآخر. هناك كلمات "أتوجع، أتقطع، أتألم...الخ"، وأشكال أداء "البكاء، الصراخ، النحيب…" تنقل لنا الألم، أو تفعّل جدولنا الخاص بالألم، في سعي لإقناعنا أن الآخر مهما كان، يتألم مثلنا، ولا نتحدث هنا عن السياقات المؤلمة، بل عن نقل الألم أو "تمثيله" بصورة مفهومة، وذلك كي نتعاطف مع صاحبه. هذا الميثاق أو التعهد يأتي من كوننا نؤنسن كل ما هو مختلف عنا، وأقصد كل ما يختلف عن أجسادنا، بصورة أدق، نؤنسن كل من يعي ذاته، بالتالي يعي ألمه الشخصي.
نحن نشفق/ نقتنع بألم الآخر إن خاطب ألمنا، إن فعّل خانات معينة من الجدول السابق، نتمكن إثرها من "الاقتناع" بألمه، والاقتناع هنا تحمل صيغة الشك، أي هناك احتمال ألا يتم الإقناع، أو ألا يتطابق الألمان: الأول الذي نمتلك ذاكرة عنه وذاك الذي يخاطبنا. هناك شك دائم فيما يخص الألم يعطل الشفقة، وقد يحوّلها إلى كذبة نمارسها فقط أمام الآخر، أي يتعطل التعهد والخطاب، ونتحول إلى ساخرين نؤدي فقط التعاطف دون "الاقتناع" به.
لا يمكن "تصديق" الألم إلا حين تطبيقه على ذات من لم يصدقه، ونقصد هنا ضمن التجارب العلمية أو تدخل الأدوات، والتي عبرها تولد الأعراض الفيزيائية للألم، كحالة الآلة التي تنتج آلام الولادة أو الدورة الشهرية للرجال، يبدو الحل هنا ساذجاً، وكأن الألم لا يمكن فهمه إلا بصورة فردية، ولا بد من تكراره وتطبيقه مرة أخرى من أجل نقله، أو حسب ما افترضنا، "إقناع" الآخر به.
هل "نقتنع" بألم الحيتان؟
تتم الآن محاولات إنقاذ الحيتان، لا يضمن فريق الإنقاذ نجاتها جميعها، ويُمنع الفضوليون والمتطوعون من الاقتراب، كون الأمر في غاية الحساسية، بل وقد يؤدي الارتجال الفردي إلى أذية الحيتان. الحوامات تطير أعلى الشاطئ وتنقل لنا الصور، هي تتألم بصمت، مرميّة أمام أعين المنقذين، يصبون المياه عليها ويزيحون الرمال، هناك ألم غير مرئي يفترض من هم هناك أن الحيتان تشعر به، فيتصرفون إزاءه، هناك قناعة لا تتزحزح لديهم بأن الحيتان تتألم ولا بد من التخفيف من ألمها.
هناك شك دائم فيما يخص الألم يعطّل الشفقة، وقد يحوّلها إلى كذبة نمارسها فقط أمام الآخر، أي يتعطل التعهد (بمفهوم فيغنشتان) والخطاب، ونتحول إلى ساخرين نؤدي فقط التعاطف دون "الاقتناع" به
هناك دوماً حكاية محيطة بالألم تهدد الاقتناع به، سواء كان الاقتناع عملية في ذهن الشخص نفسه أو مجموعة أشخاص. أضحك حين أضرب رأسي بالشباك بشكل أخرق، ألمي هنا لا معنى له، ولن يصدقه كلياً من أخبرهم بهذه الحكاية، خصوصاً إن لم يكن هناك دماء. ذات الأمر بالنسبة لمجموعة المصابين بالشقيقة لا يمكن فهم الألم إلا للمصابين بذات الحالة، أما نحن من ندّعي الصحة، نشفق دون أن نقتنع كلياً، خصوصاً أن مقدار الألم على المقياس الطبي بيننا وبينهم هائل.
يصنف المصاب بالسايكوباتية بأنه لا يتعاطف أو يشفق على الآخر، أي لا يشعر بألمه، جدول المعاني لديه مختلف عن جدولنا المتعارف عليه. بالتالي، هل عدم التعاطف مع 500 حوت مرمية على الشاطئ يجعل منا سايكوباتيين؟ والأهم، هل تعاطفنا هذا يولد لنا شعوراً بالألم أو الانطباع به، قادر على تعطيلنا عن الحركة؟ أي أن يكون تعاطفنا على مقياس الألم الطبي بمقدار 10؟
الأسئلة المتعلقة بالاقتناع تجعل الجميع في محط الاتهام، والسؤال في ذاته معطوب، لكن يمكن طرحه من وجهة نظر أخرى، هل نمتلك الاستعداد الكافي، أو على الأقل الانفتاح اللغوي، للاستماع إلى ألم الآخر والاعتراف بـ "حقيقة" وجعه، خصوصاً أن الألم في كل مرة يمثل تجربة جديدة تحمل داخلها معرفة ما وإدراك مختلفاً للذات؟ إن كنا ساخرين، لننظر إلى الألم كفاتحة على الدهشة والرعب، حينها لا يهم الاقتناع" بالألم لغوياً، لكن التصديق بوجوده.
صورة المقال "A dead whale in Sea Bright, NJ" من تصوير Ryan Loughlin على موقع Unsplash.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 19 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.