مع جائحة كورونا التي ألقت بثقلها على صحّتنا الجسدية والنفسية، وعرقلت دورتنا الاقتصادية وشلّت علاقاتنا العاطفية، أصبح الإنسان الحديث يتخبط في عدم اليقين الذي يحيط به من كل جانب، ويشعر بالعجز عن السيطرة حتى على تفاصيل حياته اليومية.
ومن المعلوم أننا كبشر نتوق للشعور بالأمان والحصول على معلومات عن المستقبل بنفس الطريقة التي نشتهي بها الطعام والشراب والمكافآت الأساسية الأخرى. بمعنى آخر، إننا نرغب في السيطرة على حياتنا ورفاهيتنا، أما أدمغتنا فتنظر إلى عدم اليقين على أنه تهديد يستنزفنا عاطفياً، ويوقعنا في دوامة من السيناريوهات التي تدور حول سؤال واحد: ماذا لو؟ مع الانكباب على التفكير في أسوأ الاحتمالات التي يجلبها الغد لنا.
كيف يمكننا التعامل بشكل أفضل مع الحياة عندما يبدو أن كل شيء قد أصبح خارج نطاق السيطرة؟
القلق أداة لتجنب المفاجآت السيئة
في حين أننا قد لا نرغب بالاعتراف بذلك، فإن عدم اليقين هو جزء طبيعي لا مفرّ منه من الحياة، إذ إن القليل جداً عن حياتنا ثابت أو مؤكد تماماً، وبينما نلاحظ بأننا نسيطر على أشياء كثيرة، إلا أننا نجد أنفسنا عاجزين عن التحكم بكل ما يحدث لنا.
لقد أظهر تفشي فيروس كورونا أن الحياة قد تتغير بسرعة كبيرة وبطريقة غير متوقعة للغاية، بدءاً من احتمال الإصابة بالوباء، مروراً بفقدان لقمة العيش أو التعثر في العلاقات والروابط الاجتماعية... والأهم هو القلق الذي ينتابنا بشأن موعد انتهاء الوباء، أو ما إذا كانت الحياة ستعود إلى طبيعتها.
كيف يمكننا التعامل بشكل أفضل مع الحياة عندما يبدو أن كل شيء قد أصبح خارج نطاق السيطرة؟
والحقيقة أنه وبهدف التعامل مع كل حالة من حالات عدم اليقين، يستخدم الكثير منّا القلق كأداة لمحاولة التنبؤ بالمستقبل وتجنب المفاجآت السيئة.
يمكن للقلق أن يجعل الأمر يبدو وكأن لدينا بعض السيطرة على الظروف غير المؤكدة، بحيث أننا قد نعتقد بأنه سيساعدنا على إيجاد حل لمشاكلنا أو تحضيرنا للأسوأ، إلا أنه، ولسوء الحظ، لا شيء من هذا يحدث، فلا يمكن أن يمنحنا القلق المزمن مزيداً من التحكم في الأحداث التي لا يمكن السيطرة عليها، أنه فقط يسلبنا الاستمتاع في الحاضر، يستنزف طاقتنا ويبقينا مستيقظين في الليل.
استراتيجيات فعالة
"عدم اليقين هو اليقين الوحيد الموجود"، هذا ما كتبه عالم الرياضيات جون ألين بولوس.
لا شك أن العيش مع الكثير من عدم اليقين هو أمر صعب، لكن في بعض الأحيان يكون من الأفضل بالنسبة لنا هو ألا نحاول خلق اليقين ومعرفة ما سيأتي به المستقبل، بل الأجدر بنا أن نتعلم كيف نتعامل بحكمة مع هذا الغموض الذي يحيط بنا من كل حدب وصوب.
"عدم اليقين هو اليقين الوحيد الموجود"
بغض النظر عن مدى شعوركم/نّ بالعجز واليأس من فقدان السيطرة على حياتكم/نّ، هناك بعض الخطوات التي يمكن اتخاذها للتعامل بشكل أفضل مع الظروف المبهمة والخارجة عن السيطرة، بهدف تخفيف حدّة القلق ومواجهة المجهول بثقة أكبر.
فيما يلي 7 استراتيجيات ذكرتها د. كريستين كارتر، وهي كاتبة ومتحدثة وصاحبة كتب عديدة، من بينها The New Adolescence: Raising Happy and Successful Teens in an Age of Anxiety and Distraction:
عدم المقاومة: مما لا شك فيه أننا نعيش جميعاً أوقاتاً صعبة، إلا أن مقاومة هذا الواقع الحالي لن يساعدنا على التعافي، التعلم، النمو أو حتى الشعور بالتحسّن، ومن المفارقة أن المقاومة تطيل من آلامنا وصعوباتنا من خلال تضخيم حجم المشاعر الصعبة التي نشعر بها، إذ إن كل ما نقاومه يستمر ولا يتلاشى.
وبالتالي بدلاً من المقاومة، يمكننا أن ندرب أنفسنا على القبول. فقد أظهرت الأبحاث التي أجرتها عالمة النفس كريستين نيف، أن القبول، وخاصة تقبل الذات، هو سر غير متوقع للسعادة. والمقصود بالقبول هنا هو "مقابلة" الحياة حيث هي والمضي قدماً من هناك.
ونظراً لكون التقبل يسمح لنا برؤية حقيقة الموقف في الوقت الحاضر، فإنه يحررنا من أجل التقدم بدلاً من البقاء مشلولين أو جَعْلنا غير فعالين بسبب عدم اليقين أو الخوف أو الجدل.
على سبيل المثال، قد نجد أن زواجنا يمثل تحدياً خاصاً في الوقت الحالي، وعليه بدلاً من انتقاد أو إلقاء اللوم على الطرف الآخر (وهما تكتيكان يتعلقان بالمقاومة) فإنه يمكن بهدوء تقبّل العلاقة الزوجية في الوقت الحالي.
إلا أن هذا لا يعني أننا لن نشعر بالإحباط أو الحزن بسبب ما آلت إليه الأوضاع، إذ إن جزءاً من عملية القبول يعني تقبّل ما نشعر به تجاه الظروف الصعبة والأشخاص الصعبين في حياتنا. بمعنى آخر، إن القبول لا يعني الرضوخ للوضع الحالي والاستسلام لفكرة أن الأشياء لن تتحسن أبداً، فنحن في نهاية المطاف لن نقبل أن تبقى الأمور كما هي عليه إلى الأبد، بل نتقبّل فقط كل ما يحدث بالفعل في الوقت الحالي.
الاستثمار في الذات: أفضل مصدر لتقديم المساعدة للعالم في الوقت الراهن هو أنفسنا. بعبارة أخرى، عندما لا نستثمر في أجسادنا أو عقولنا أو أرواحنا، فإننا ندمر أدواتنا الأساسية لقيادة حياتنا بشكل أفضل.
كبشر لا نقوم بعمل جيد عندما نؤجل "صيانة" أنفسنا. نحن بحاجة للحفاظ على العلاقات التي تجلب لنا التواصل والمعنى، كما أنه يجب أن نحصل على قسط كاف من النوم والراحة عندما نتعب، ونحتاج إلى قضاء بعض الوقت المخصص للتسلية فقط.
وبخلاف ما يعتقد البعض، فإن الرعاية الذاتية، أي محافظة المرء على صحته الشخصية، لا تصب في خانة الأنانية، فالأشخاص الأنانيون يميلون للعودة الى أنفسهم ويسعون وراء أهداف غير جوهرية، وغالباً ما يتوقون للمزيد من المال والسلطة والحصول على قبول الآخرين. يرتبط هذا النوع من التركيز على الذات على التوتر والقلق والاكتئاب، وبعض المشاكل الصحية مثل أمراض القلب، لذا ليس الهدف هو التحلي بالأنانية بل الاعتناء بأنفسنا والنمو الشخصي.
البحث عن طرق صحية لتهدئة النفس: من أهم الطرق التي يمكننا من خلالها الاستثمار في أنفسنا هي أن نريح أنفسنا بطرق صحية. إذا أردنا التحلي بالمرونة، فنحن بحاجة للشعور بالأمان.
والواقع أنه عندما نشعر بعدم اليقين أو عدم الأمان، يحاول دماغنا إنقاذنا من خلال تنشيط أنظمة الدوبامين. يشجعنا اندفاع الدوبامين هذا على البحث عن المكافآت، ما يجعل بعض الأمور أكثر إغراءً: كأس إضافي من النبيذ بدلاً من وقت نوم معقول أو التهام صينية من الحلوى بأكملها...
ولكن بدلاً من اللجوء إلى الوجبات السريعة والدسمة، الإفراط في تناول الكحول أو الإنفاق الجنوني لتهدئة أعصابنا المهتزة، فأننا نفعل ما هو أفضل عندما نتمكن من إراحة أنفسنا بطرق صحية: لنحاول مثلاً أن نضع قائمة بالطرق الصحية لتهدئة أنفسنا، كالذهاب في نزهة أو المشي مع أحد الجيران، جدولة مكالمة مع صديق/ة، مشاهدة فيديو يوتيوب مضحك، أخذ قيلولة...
قد تبدو هذه الأشياء صغيرة، لكنها تمكننا من أن نكون الشخص الذين نريد أن نكون عليه.
عدم تصديق كل شيء: واحدة من الاستراتيجيات للحدّ من التوتر هو عدم تصديق كل شيء. ففي الأوقات الصعبة يكون من المهم بشكل خاص عدم تصديق الأفكار التي تذهب باتجاه السيناريوهات السيئة.
بالطبع، قد يكون من المفيد التفكير في أسوأ السيناريوهات حتى نتمكن من منع وقوع كارثة، لكن عندما نصدق تلك الأفكار المجهدة، فأننا نميل إلى الرد عاطفياً كما لو أن أسوأ الحالات تحدث بالفعل في الحياة الواقعية وليس فقط في رؤوسنا، بحيث نحزن على أشياء لم نخسرها في الواقع، ونتفاعل مع الأحداث التي لم تحدث بالفعل، وهذا يجعلنا نشعر بالتهديد والخوف وعدم الأمان.
الانتباه على أنفسنا: عكس عدم اليقين هو الوجود. بدلاً من تخيّل مستقبل مخيف وغير معروف، يمكننا أن نصب انتباهنا على أنفسنا وعلى المشاعر التي تنتابنا.
حتى عندما نشعر أن كل شيء بات خارجاً عن سيطرتنا، لا يزال بإمكاننا التحكم بما ننتبه إليه. يمكننا إيقاف تشغيل تنبيهاتنا لمنع الأخبار أو وسائل التواصل الاجتماعي من اختطاف وعينا. يمكننا التخلص من اجترار الأفكار والتخيلات السلبية من خلال الاهتمام بما يحدث بالفعل في عالمنا الداخلي، الأمر الذي يسمح لنا بتنمية الهدوء الداخلي والانفتاح.
التوقف عن البحث عن شخص لإنقاذنا: عندما نتصرف وكأننا "لا حول لنا ولا قوة"، فإننا نقع في فخ الروايات التي تجعلنا نشعر بالغضب والعجز والحصار، ونتأمل بأن ينقذنا الآخرون من بؤسنا.
على الرغم من أنه يمكن أن يكون شعوراً جيداً أن نجد يداً لتنقذنا، إلا أنه في حال بقينا عالقين في مكاننا، فإن "المنقذين" سيحتفظون بدورهم كأبطال أو يصرفون أنفسهم عنّا.
وبالتالي، للتعامل بشكل أفضل مع حالة عدم اليقين، نحتاج إلى التوقف عن التذمر. عندما نتخلى عن التركيز على المشكلة، يصبح بإمكاننا التركيز على النتائج التي نرغب فيها: كيف يمكننا الاستفادة القصوى من هذه الفوضى؟ ماذا يمكن أن نكسب في هذه الحالة؟
بمعنى آخر، عندما نتحمل المسؤولية عن حياتنا، فإن ذلك يتيح لنا استبدال القوة الزائفة للظلم بالقوة الحقيقية التي تأتي من خلق الحياة التي نريدها.
بعض الناس يستمتعون بالمخاطرة ويحبون عيش حياة غير متوقعة، بينما يجد البعض الآخر عشوائية الحياة مؤلمة للغاية
البحث عن معنى في الفوضى: يعرّف علماء النفس الاجتماعي المعنى على أنه "تقييم فكري وعاطفي للدرجة التي نشعر أن حياتنا لها هدف وقيمة وتأثير". أفضل ما يحفزنا نحن البشر هو أهميتنا للآخرين. سنعمل بجدية أكبر ولفترة أطول وأفضل، ونشعر بسعادة أكبر تجاه العمل الذي نقوم به، عندما نعلم أن شخصاً آخر يستفيد من جهودنا.
على سبيل المثال، يميل المراهقون/ات الذين يقدمون دعماً ملموساً للأشخاص في الأزمات للشعور بالارتباط الوثيق بمجتمعهم، هذا وتظهر الأبحاث أننا نشعر بالرضا عندما نتوقف عن التفكير في أنفسنا كثيراً وندعم الآخرين.
نحن جميعاً مختلفون في مقدار عدم اليقين الذي يمكننا تحمله في الحياة. يبدو أن بعض الناس يستمتعون بالمخاطرة ويحبون عيش حياة غير متوقعة، بينما يجد البعض الآخر عشوائية الحياة مؤلمة للغاية.
إذا كنتم من الأشخاص الذين يشعرون بالارتباك بسبب عدم اليقين، فمن المهم أن تعرفوا/ن أنكم/نّ لستم/نّ وحدكم/نّ، جميعنا في نفس "القارب" في هذا الوقت، وعليه، لا يجب أن ننتظر فقط حتى تنتهي هذه المحنة، ولا يجب أن نستسلم للبؤس بينما ننتظر لقاحاً أو أن يخفّ الوباء، بل يجب التفكير في كيفية صنع حياة حقيقية وآمنة خلال هذه الفترة الصعبة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت