كان يوماً من أيام شهر فبراير الباردة، ارتدت غادة معطفها وحذاءها عالي الساق وانطلقت. لم يكن الجو بارداً فقط، بل كان الظلام يخيم على الحي الشعبي الذي تلتصق فيه البيوت بالقرب من بعضها في أزقة ضيقة، رغم ذلك لم تتوقع أن يأتي أحدهم ليمسك بخلفيتها وهو يقود دراجته النارية.
إنها القصة الأولى للمحامية غادة مع التحرش، تقول لرصيف22: "منذ تلك الحادثة التي وقعت بلمح البصر، ومرّ عليها أكثر من 10 سنوات، قررت أن أدخل السلك القانوني، التحقت بكلية الحقوق في جامعة تشرين".
تحرش داخل المحكمة
تعمل غادة اسم مستعار (29 عاماً)، في محكمة اللاذقية منذ خمس سنوات، لكن ذلك لم يمنع المتحرشين من إزعاجها. آخر حادثة تحرش تعرّضت لها كانت داخل المحكمة، من رجل يزيد عمره على الخمسين عاماً.
تحكي غادة: "كنت أنتظر محامياً خصماً أمام المحكمة لنحضّر المرافعة سوية، جاء ومعه رجل، بعد تعارفنا، شعرتُ أن نظرات الرجل موجهة إلى صدري مباشرة، حاولت استعجال المحامي لينتهي اللقاء، لكن هذا الرجل عاد ليتحرش بي مرة ثانية".
"ماذا يمكنني أن أفعل، إذا زملائي المحامون يتحرشون لفظياً بي، هل أقدم بلاغاً ضدهم؟ ستكون حجتهم الأولى أنت فهمتينا غلط، سيدبرون الأمر ويقلبونه ضدي"
حاولت غادة على مدار أسبوع التخلص من ملاحقة الرجل لها في المحكمة. كان يوقفها، يطلب منها أن تستلم إحدى القضايا المتورّط بها، عندما رفضت، لحقها إلى منزلها.
تضيف غادة: "شعرت أن خطاه اقتربت جداً من خطاي، استقليت أول سيارة أجرة ظهرت في وجهي، لكنه بدأ ينادي وسط الشارع: أستاذة غادة، أستاذة غادة، بكل وقاحة".
رسائل نابية بعد منتصف الليل
لم ينته الأمر هنا، أرسل رسائل تتضمن كلمات نابية إلى رقم جوال غادة، وكان قد حصل عليه من المحامي. أكثر من 20 رسالة وصلتها منه بعد منتصف الليل، عندها قررت أن تمارس "سلطتها" كمحامية، أخبرت محامي الخصم في اليوم التالي أنها قررت تقديم بلاغ بواقعة تحرش ضد ذلك الرجل، لكنه بدأ يرجوها ألا تفعل، ووعد بالعدول عن الأمر.
ولكن، هل كانت غادة فعلاً تنوي تقديم بلاغ تحرش؟ تقول المحامية: "التحرش بالنسبة لمحامية تعمل في المحكمة أمر حساس للغاية، بلاغ التحرش سيمر على رئيس الديوان والموظفين والموظفات، وأنا على احتكاك مباشر معهم يومياً، باختصار ستصبح قصتي على لسان الجميع في المحكمة، هذا هو السبب الرئيس الذي يمنع المحاميات من تقديم بلاغ ضد واقعة التحرش".
تعود غادة بذاكرتها إلى أيام المدرسة عندما كانت في الصف الثالث الإعدادي، أول ذكرى تعرضها للتحرش، تقول: "تعرضت للتحرش أثناء جلوسي في الباص، أحدهم وضع يده على فخذي وبدأ يحركها إلى الأمام والخلف، صُدمت وصرخت بأعلى صوتي وبكيت كثيراً".
وفي الجامعة أحد الأساتذة تحرش بغادة أيضاً، تقول: "عندما دخلت إلى مكتبه أغلق الباب، وحاول أن يقبلني على شفتيّ رغماً عني. أما التحرش اللفظي فأتعرض له يومياً، في المحكمة وخارجها".
ترى غادة أن سلطة قوانين المجتمع أقوى من سلطة القانون، كلام الناس والفضيحة والقيل والقال تجبر الكثير من المحاميات على السكوت، رغم أنهن يعرفن أن تقديم بلاغ بواقعة تحرش سيخيف المتحرش، ويدخله السجن في حال ثبوتها، لكن بعد أن ينتشر الخبر في المحكمة كلها أن المحامية فلانة تحرش بها الشخص فلان، لذلك يفضلن الصمت.
قمصان واسعة وألوان داكنة
أما لبنى فكانت تبحث عن قميصها الأبيض الواسع الذي ترتديه مع سروالها الجينز، بحيث يُخفي كافة معالمها الأنثوية، ويغطي خلفيتها بالكامل، لأنه الحل الوحيد لتفادي المتحرشين في المحكمة.
تقول لبنى اسم مستعار (25عاماً)، لرصيف22: "عندما بدأت العمل في المحكمة في دمشق منذ نحو ثلاث سنوات، قالت لي المحامية التي تدربت على يدها: ممنوع ارتداء الألوان الفاتحة أو القمصان المكشوفة، حافظي على اللباس الرسمي الواسع، لم أكن أعرف السبب الذي يدفعها للتدخل بطريقة لباسي، لكن بعد مرور أسبوع واحد أيقنت من السبب".
الوسط الذي تعمل به لبنى يجمعها بكافة شرائح المجتمع، كالمجرمين والسارقين والمحتالين وغيرهم، لذلك يفرض على المحاميات ارتداء لباس خاص للمحكمة، تقول لبنى: "إن طريقة اللباس المحتشمة، رغم أنها تقلل عدد المتحرشين إلا أنها لا تنهي جريمة التحرش بالكامل، أعرف الكثير من الزميلات المحجبات اللواتي تعرضن مثلي للتحرش أيضاً، المطلوب هو تعديل مادة القانون الخاصة بعقوبة المتحرش".
"شو بدك مني؟".
ذات مرة كان الدرج مظلماً، معظم المكاتب داخل البناء مغلقة، مكتب المحامية التي تدربت فيه بالطابق الخامس، تقول لبنى: "شعرت أن أحداً ما يلاحقني. صعدت الطابق الأول اقتربت خطاه أكثر، التفت خلفي رأيت شاباً ذا لحية طويلة يرتدي بيجامة رياضية، صرخت بأعلى صوتي: شو بدك مني، ونزلت السلالم مسرعة".
"قررت العودة، لأن الصعود إلى الأعلى سيجعله مستحكماً بي تماماً، كل ذلك حدث ببضع ثوان، لا أدري لماذا واقعة التحرش تحدث بسرعة، يختفي المتحرش بعدها"، تنهي لبنى حديثها.
"ليتنا مثل رياض"
"هل تذكرون رياض! نعم رياض المحامية ذات الشخصية القوية، التي لعبت دورها الفنانة سلاف فواخرجي في مسلسل "عصي الدمع"، أدخلت أحد المتحرشين السجن لأنه لحقها في الشارع، وقال لها: بست بست يا حلو، أتمنى أن تكون كل المحاميات مثلها"، هكذا بدأت ميرنا حديثها لرصيف22.
ميرنا اسم مستعار (28 عاماً)، محامية في محكمة حمص، طلبت إخفاء اسمها مثل غيرها لحساسية الحديث عن التحرش في أوساط المحامين في سوريا، تعرضت للعديد من أنواع التحرش اللفظي من معظم الرجال العاملين معها.
تقول ميرنا لرصيف22: "التلطيشة، إنها الكلمة المتعارف عليها في سوريا والتي تغطي جريمة التحرش: شو هالحلو، ياريت لو كنت محامي لشوفك كل يوم، ما يبلى وما يتخ... كلها عبارات نسمعها يومياً، لكن الكثيرات يفضلن السكوت".
في أحد الأيام استيقظت ميرنا على ألم في شفتيها، سارعت الى المرآة، وجدت حبة حمراء، تقول: "حاولت تغطيتها بالكريم والمكياج، لكنها بقيت ظاهرة قليلاً".
"شو أستاذة ميرنا مين عامل فيكي هيك"، كانت جملة أحد المحامين من زملاء ميرنا على الحبة في شفتيها، تقول: "أحرجت جداً، خجلت من سؤاله، كأنه يسألني من قبلك على شفتيك ليلة أمس، أمام جميع أصدقائي".
وفي واقعة أخرى، بعد غياب ميرنا عن المحكمة لمدة أسبوع لإصابتها بالبرد، عادت للعمل، ليستقبلها أحد المحامين بعبارة تحرش، تحت غطاء المجاملة والمزاح، وقال لها: "خير أستاذة ميرنا، نحفانة كتير بس بتبقي متل الفرس".
تقول ميرنا: "ماذا يمكنني أن أفعل، إذا زملائي المحامون يتحرشون لفظياً بي، هل أقدم بلاغاً ضدهم؟ ستكون حجتهم الأولى أنت فهمتينا غلط، سيدبرون الأمر ويقلبونه ضدي. لو أنهم ليسوا زملاء أو من خارج المحكمة لن أتردد بتقديم بلاغ أبداً".
"فوبيا لمس خلفيتي"
أما المحامية ساندرا، تعمل في محكمة اللاذقية، فتقول لرصيف22: "أصبح لدي فوبيا من السير في الشارع لوحدي، خاصة إذا سمعت أحداً ما يخطو خلفي، لأني تعرضت مرات عدة للتحرش في الشارع، جميعهم يريدون لمس خلفيتي، رغم أن وزني لا يتجاوز 45 كيلو، في كل مرة لا أعرف هوية المتحرش أو اسمه لأقدم بلاغاً ضده. إنهم يختفون بسرعة".
ترى ساندرا اسم مستعار (30 عاماً)، أن الخوف يبدأ مع بداية التدريب في المحكمة، تفكر المحامية بالمحامي الذي ستتدرب في مكتبه لمدة عامين. تخشى التحرش، لأن العمل سيفرض عليهما الاجتماع في المكتب لعدة ساعات، لذلك تحاول معظم المحاميات المتدربات أن يقضين سنوات التدريب لدى محام يتم ترشيحه من قبل العائلة أو الأصدقاء، وبعضهن يختصرن الطريق ويتدربن لدى محامية بدلاً من محام.
"التلطيشة، إنها الكلمة المتعارف عليها في سوريا والتي تغطي جريمة التحرش: شو هالحلو، ياريت لو كنت محامي لشوفك كل يوم، ما يبلى وما يتخ... كلها عبارات نسمعها يومياً، لكن الكثيرات يفضلن السكوت"
أيضاً تفكر المحامية بمكان المكتب الذي ستفتتحه، في أي طابق؟ وهل يوجد حوله مكاتب مفتوحة خوفاً من دخول أي متحرش عليها وهي تعمل في مكتبها؟ أو تتشارك محاميتان في مكتب واحد، هكذا تكون فرصة الوقوف في وجه المتحرش أكبر؟
أما الحالات الخاصة جداً وهي أن يقوم المحامي باستغلال المتدربة، كأن يرسلها إلى القاضي، خاصة إذا كانت منفتحة، ليستميله أو ليقرب له تاريخ الجلسة. كلها مواقف تعرضت لها ساندرا، لكن يبقى تقديم بلاغ ضد التحرش اللفظي أمراً غير مضمون، وقد يسبب متاعب للمحامية في عملها بدلاً من حلها.
"القانون يحتاج الى تعديل"
قانون العقوبات السوري لا يعرّف التحرش ولا يعاقب عليه، إنما يحدد مواد تتعلق بالأعمال المنافية للحشمة وخدش الحياء العام ويعاقب عليها، تكمل ساندرا.
المادة 506 من قانون العقوبات، تقول ساندرا، تنص على الآتي: "من عرض على قاصر لم يتم الخامسة عشرة من عمره، أو على فتاة أو امرأة لهما من العمر أكثر من خمس عشرة سنة، عملاً منافياً للحياء، أو وجه إلى أحدهم كلاماً مخلاً بالحشمة عوقب بالحبس التكديري من يوم إلى ثلاثة أيام، أو بغرامة لا تزيد على 75 ليرة أو بالعقوبتين معاً".
تختم ساندرا حديثها بالقول: "تسألون لماذا ينتشر التحرش؟ إذا كانت عقوبة المتحرش 75 ليرة فقط، والمجتمع يقف إلى جانبه ضد المرأة، ما الذي سيمنعه من التحرش حتى بالمحاميات؟".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...