"يا محلا الفسحة يا عيني على راس البر.. والقمر نوّر عيني على مو على موج البحر"، إنه صوت المطربة السورية ميادة بسيليس، يصدح في غرفة جلوس العم أبو سليم، بعد أن رفع صوت التلفاز إلى أعلى درجة، وهو يتمايل ويغني معها، إلا أن ذلك لم يعجب أم سليم، التي سارعت لتخفض الصوت، وهي توجه نظرات لوم لزوجها، وتقول: "صار عمرك 72 سنة لسه ما نسيت هالحلم؟".
الوظيفة مثل الغول
لم يجب أبو سليم، كل ما فعله أنه تابع قراءة الرواية التي كان قد بدأها منذ يومين "الشراع والعاصفة" للكاتب السوري الراحل حنّا مينة، يقول أبو سليم لرصيف22: "قرأت الكثير عن البحر، إنها ليست الرواية الأولى، الياطر، البحر والسفينة، وهي حكاية بحّار، الشمس في يوم غائم، وغيرها، منذ كنت صغيراً حلمت أن أصبح بحاراً، لكن الوظيفة سرقت عمري وأحلامي".
43 عاماً قضاها أبو سليم موظفاً حكومياً في اللاذقية، كان عمله مع المتقاعدين، يرتب أوراقهم، ويُجهّزها، يتأكد من عدم نقصان أي ورقة، أصبح خبيراً بهموم المتقاعدين، يقول: "تظهر أحلامهم المكسورة، وأمنياتهم الدفينة في عيونهم، نعم أستطيع قراءة كل أحلامهم التي لم يحققوها مثلي تماماً".
"ما زاد الأمر صعوبة أنني تزوجت زميلتي في العمل، نستيقظ سويّاً نذهب إلى العمل سويّاً نعود إلى البيت سويّاً، حياتنا رتيبة محسوبة بالدقيقة وبالثانية، حتى طعامنا ملوخية، بامية، بطاطا، نكررها خلال الأسبوع ونعيدها مرة أخرى"
حلمَ أبو سليم أن يصبح بحاراً يجوب أعماق البحار، يعيش مغامرات البحارة، كما يقرأ في الروايات، لتأتي الوظيفة الحكومية، وتقضي على ما تبقى من حلمه. يقول: "43 عاماً من الروتين اليومي، الدخول عند الثامنة صباحاً والخروج عند الثانية ظهراً، وما زاد الأمر صعوبة أنني تزوجت زميلتي في العمل، نستيقظ سويّاً ونذهب إلى العمل سويّاً ونعود إلى البيت سويّاً، حياتنا رتيبة محسوبة بالدقيقة وبالثانية، حتى طعامنا ملوخية، بامية، بطاطا، نكرره خلال الأسبوع ونعيده مرة أخرى".
ماذا عن البحر والبحارة؟ يجيب أبو سليم: "أصبحوا من الماضي، أراهم في الأغاني والكتب الروايات، أو في أحلام اليقظة، الوظيفة تشبه الغول الكبير الذي يأخذ منك سنوات عمرك دون أن تشعر، ويهددك دائماً أنه سيقضي عليك في حال فكرت ولو لمرة واحدة بالتخلص منها".
بلغ أبو سليم سن التقاعد، وخرج من الوظيفة الحكومية قبل 12 عاماً، يحمل ذكرى واحدة فقط، محبة الزملاء والسمعة الطيبة، يقول: "دائماً ألوم نفسي لأنني لم أحارب من أجل حلمي، لم أومن به، ماذا قدمت لي الوظيفة؟ خبرة في الأوراق فقط".
"الوظيفة أقوى من الإبداع"
تجوب سالي سوق اللاذقية القديمة، تبحث عن محلات الصوف، تفكر أن تحيك سترة للشتاء الذي أضحى قريباً، ما زالت تذكر القليل من كلمات والدتها: "لفي الخيط حول أصبع السبابة والوسطى مرتين، اسحبي الحلقة الأولى من داخل الثانية لتشكلي حلقة معقودة من آخرها".
تحتفظ ساري بالسنارات، والمقص، والإبرة التي ورثتها عن والدتها، تضحك وهي تحكي قصتها لرصيف22: "الحقيقة إنها كل ما ورثته".
"الوظيفة قتلت كل حلم بداخلي".
تهوى سالي منذ صغرها حياكة الصوف (الكروشيه)، حلمت قبل أن تحصل على وظيفتها الحكومية أن تفتح محلاً لبيع المصنوعات اليدوية "هاند ميد"، تقول: "الوظيفة التهمت كل وقتي، قتلت كل حلم بداخلي، روتين الوظيفة أقوى بكثير من أي حس إبداعي، يمكن أن أحيكه بالصوف أو بالخشب أو على الورق".
تستيقظ سالي يومياً الساعة السابعة والنصف صباحاً، ترتدي ملابسها وتخرج مسرعة، لتصل قبل أن يفوتها الباص المخصص للموظفين، تجلس في المقعد الثاني من الطرف الأيمن، تتكئ على الزجاج، تحدق في الشوارع والأرصفة والمحلات. تقول: "حفظتها عن ظهر قلب، حتى العبارات المكتوبة على الجدران في الأزقة، أذكر الآن عبارة مكتوبة على جدار إحدى المدارس: أنت جميلة كهدف الفوز في الدقيقة الأخيرة من المباراة"، تضحك سالي.
"أرى الناس وجهاً واحداً"
تعمل سالي موظفة في دائرة حكومية في اللاذقية، تدخل بيانات العقارات القديمة والحديثة يومياً على الكمبيوتر، تقول: "منذ 13 عاماً أرتب الاستمارات وأبدأ بإدخال البيانات، لا يوجد أي تغيير، في البداية كان التغيير الوحيد هو وجوه المراجعين، الآن أصبحت أراهم كلهم وجهاً واحداً".
الروتين الوظيفي اليومي يسيطر على حياة سالي التي أصبح عمرها 33 عاماً، كل ما تجيد فعله هو إدخال الأرقام على الحاسب، لا تفكر بتطوير خبرتها في هذا المجال. تقول: "ليس لدي الوقت ولا الرغبة، كرهت الأرقام. إنها جامدة ومملة. أحتاج شيئاً يعيد الدفء والحرارة إلى عروقي".
"لا أملك ثمن رحلة إلى دمشق".
ماذا عن المخاطرة؟ تُجيب سالي: "المخاطرة بالوظيفة؟ كيف وهل النتائج محسومة؟ ومن سيشجعني على هذه الخطوة؟ وهل أستطيع أن أضمن أن استقالتي ممكن أن تكون بداية لحياتي حقاً؟ لا أملك رأس مال لأفتتح محلاً لبيع المصنوعات اليدوية هاند ميد، لا بل أكثر من ذلك لا أملك ثمن رحلة إلى دمشق حتى".
تصف سالي الوظيفة الحكومية بالاستقرار والضمان للمستقبل. تقول: "الراتب الشهري رغم شحه أفضل من بلا، أما الروتين فأصبح جزءاً من حياتي، ومن ثيابي لأنني لم أعد أحب تغيير الكثير من الملابس".
تضيف: "أيضاً طبيعة عملي ثابتة ليست متغيرة، لا تحتاج تحسين الخبرات أو مواكبة التطور، كل ما هنالك هو إدخال البيانات على الحاسب، سنوات من الأرقام والأسماء والشوارع والوجوه ذاتها".
جلسة نسائية
تفوح رائحة القهوة الصباحية من مكتب ميساء، إنها الجزء الأجمل من ساعات وظيفتها الطويلة، في إحدى الدوائر الحكومية في دمشق، يعلو صخب زميلاتها وهن يتحدثن عن أزواجهن، تضحك إحداهن تقول: "صرت حس أنو زوجي يشبه الكرسي لي بيقعد عليها"، يشعر أبو زاهر بالخجل وهو يقدم القهوة، يبتسم بارتباك، يتراجع ليخرج من المكتب. يقول: "القهوة متل ما بتحبيها أستاذة ميساء مع قشطة".
مراقبة فنية، هذا هو المسمى الوظيفي لميساء، تذكر سؤال إحدى صديقاتها ما معنى مراقبة فنية؟ تضحك ميساء وتقول لرصيف22: "سافرت صديقتي إلى بريطانيا وما زالت تسألني على الانترنت ما مليتي بعد 22 سنة من المراقبة؟ أجيبها: حفظت عن ظهر قلب رحلة المعاملة من مكتب إلى آخر".
تقول ميساء: "درست اقتصاد وإدارة أعمال في جامعة دمشق، أذكر اختصاصاً في السنة الرابعة متعلقاً بمشكلات الموظفين وابتكار حلول جديدة، أحب هذا النوع من العمل، لأنه يحفز العقل على الابداع، ويقضي على الروتين، كل أحلامي بعد الجامعة حُبست داخل أدراج مكتبي، لم أحقق منها شيئاً".
تقضي ميساء ساعات دوامها الطويلة بتصفح الانترنت، تسير في المكتب ذهاباً وإياباً في بعض الأحيان، وتعود لتصفح الانترنت، تقول: "مهامي لا تتطلب أكثر من ساعة عمل في اليوم، باقي الساعات أشرد بالماضي والحاضر وأراجع أحلامي وأمنياتي بما كنت أريد أن أفعله وما أنا عليه اليوم".
لا مكان للمغامرة
تعيش ميساء حياة روتينية رتيبة منذ 30 عاماً، وزوجها أكمل روتين حياتها بحلقة واحدة بين العمل والبيت، تقول عن زوجها: "إنه طبيب همّه الأول لقب دكتور، ونظرة الناس إليه، حياته تشوبها الجدية بشكل لا مكان فيه للمغامرة أو الإبداع أو حتى التغيير".
تضيف ميساء: "بعد عودته من السعودية، راودني حلم افتتاح مطعم أديره بنفسي، أملك شهادة تخولني، لدي الكثير من الأفكار المبدعة التي كنت سأنفذها، إلا أن زوجي رفض رفضاً قاطعاً، قال: شو بدن يقولوا الناس دكتور فاتح مطعم".
أما هند فتحاول قراءة بعض المقالات المكتوبة باللغة الانكليزية التي تظهر كلما تصفحت فيسبوك لكنها تعجز عن ذلك، يصيبها الإحباط كلما عادت بذاكرتها 15 عاماً إلى الخلف، كانت تتحدث الإنكليزية بسهولة بعد سلسلة من الدروس التي حصلت عليها لإتقان اللغة أملاً بالسفر، أما الآن انتهى بها المطاف كمراقبة تكليف في إحدى الدوائر الحكومية في جبلة.
روتين يكسوه الغبار
يبدو مكتب هند وكأنه قالب ثلج مربع الشكل، بداخله ثلاثة مكاتب حديدة رمادية اللون، ومئات المعاملات المتراصة، تجلس وخلفها مروحة تراكم عليها الغبار، وأوراق تحوّل لونها إلى الأصفر، تقول: "لا أهتم بترتيب المكتب للقضاء على الروتين، لا أدري لماذا؟ هل لأنني شخص روتيني بطبيعته أم لأن ساعات الوظيفة الطويلة جعلتني كذلك".
نسيت هند أحلامها، ولا تفكر بالمخاطرة بعد سن الـ40، تقول: "الأيام متشابهة فعلاً لكن عندما أفكر بالتغيير، يخرج الناس فكلهم في وجهي، يبذلون قصارى جهدهم ليقنعوني أن هذه الوظيفة نعمة، وأفضل ما يمكن أن أفعله في حياتي، وأكثر مما أستحق".
تغلق زوجة أبو سليم التلفزيون، وكان زوجها يتراقص وهو يستمع أغنية عن البحر، وتقول له متعجبة: "يا رجل صار لك 70 سنة وما نسيت ها الحلم؟"
تتابع هند: "الخيارات أصبحت ضيقة، المخاطرة أضحت مستحيلة، لأن الوظيفة توفر راتباً شهرياً لا يمكن الاستغناء عنه لأم مثلي لديها أطفال، الآن اتخذت أحلامي منحى آخر، أحلم يومياً أن تصلني رسالة بالذهاب لاستلام إسطوانة غاز، أو أن يختفي طابور السيارات التي تنتظر أمام محطات البنزين في الشوارع، أو أن أطبخ بطاطا مع دجاج مقلي لعائلتي، والآن مع قدوم الشتاء احلم بتوفر مازوت التدفئة لأن الشتاء الماضي كان قاسياً جداً، أحلم ألا أعيشه مرة أخرى".
أما التعرف على مدن جديدة، وتجريب أكلات مختلفة، ولقاء أناس جدد، وابتكار أفكار ابداعية في العمل، كل ما سبق أحلام لم تستطع هند تحقيقها، ولا تقوى على تغيير واقعها، لأن مجرد تغيير بسيط باقتراح رحلة الى الجبل مثلاً، يتطلب تقديم طلب إجازة، أو خصم من الراتب، أو تحمل تكاليف فوق طاقتها، بحسب رواية هند.
في سياق منفصل، تصدرت سوريا قائمة الدول الأكثر فقراً بحسب موقع word by map العالمي، وقد قدَّرت الأمم المتحدة نسبة السوريين تحت خط الفقر بـ83 في المئة بحسب تقريرها السنوي لعام 2019.
وكانت المتحدثة باسم برنامج الأغذية العالمي اليزابيث بايرز قالت في حزيران\يونيو الماضي إن أسعار السلعة الغذائية ارتفعت 200 في المئة في أقل من عام بسبب الانهيار الاقتصادي في لبنان المجاور، وإجراءات العزل العام لاحتواء مرض كوفيد-19.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون