تُحدث الحرب تغيّراً جذرياً في بنية الدولة والمجتمع وفي الأفراد على كافة الأصعدة. وبما أنني فرد في مجتمع محكوم من دولة نشبت فيها حرب، فقد طالني هذا التغيّر في بنيتي العقلية والنفسية.
جرّبت أنواعاً عديدة من القلق الوجودي والدادائي والسريالي والقلق "الشتوصيفي"، وهو قلق خاص بالسوريين ولا يوجد له تعريف أو شرح حتى الآن في كتب التحليل النفسي، ولكن حين تُصاب به تشعر بأن نفسيتك مزدحمة بـ"الشتوصيفي"، وقد تظهر أحياناً على وجهك كتابات بالخط المسماري!
وجرّبت أيضاً القلق المالي وانعدام فرص العمل، ولا زلت حتى هذه اللحظة محاطاً بهذا القلق بسبب سوء الوضع الاقتصادي في سوريا. وللتخفيف من حدته وآثاره النفسية قررت أكثر من مرة البحث عن عمل ثالث إضافي. وفي إحدى نوبات القلق "الشتوصيفي" كتبت على صفحتي على فيسبوك: بما أنني كائن ليلي يسهر حتى الصباح قررت أن أعمل كمنبّه، وكل ما أحتاجه هو أن ترسلوا لي أرقام هواتفكم، وأنا سأتكفل بإيجاد أسلوب لطيف ومريح أوقظكم به في الوقت الذي تحددونه. فعلى سبيل المثال: الفتاة التي تريد الاستيقاظ في الثامنة صباحاً سأقوم بالاتصال بها، وبمجرد أن تقول: ألو... سأهمس لها: "الصبح حردان وما بدو يمشي بالسما... ناطرك لتفيقي". وبعد عشر دقائق سأعيد الاتصال بها لأنها بالتأكيد لن تستيقظ من أول مرة، وأقول لها: "عرفت أنك رجعتي نمتي لأن الصبح بعدو حردان". وأعيد الاتصال عدة مرات إلى أن تؤكد لي أنها استيقظت. أما الشاب الذي يريد أن أوقظه صباحاً سأتصل به وأقول بلهجة مؤنبة: "بعدك نايم ولك دب قوم فيق أحسن ما تتأخر على شغلك"، وأغلق الخط في وجهه، وبالتأكيد سيعود للنوم ولكنّي لن أعاود الاتصال به مرة ثانية، فالمساواة بالنسبة لي هي أن تحظى الأنثى باهتمام أكثر من الرجل.
وبالطبع، ستكون هذه الخدمة مقابل دفع مبلغ مالي بسيط، وفي حال كان هنالك عدد كبير من المشتركين سأفتح شركة باسم "عم تنسى مواعيدك نحنا منفيدك". وسأوظف فيها عشرات الأشخاص، وأروّج لها عن طريق الإذاعات والإعلانات الطرقية بعبارات مثل: "نحن الأفضل لأننا الوحيدون"، "نلفّ ساقاً على ساق ونبتسم لمواعيدكم"، "عم تنسى عيد زواجك الحل عنّا والهدية عليك!".
وبالطبع، سيكون العمل على مدار الأربع والعشرين ساعة، وستتسع دائرة الخدمات التي سأقدمها، مثل تذكير المشتركين بمواعيدهم اليومية والأسبوعية والشهرية والسنوية التي يزودوننا بها. ويستطيع كل زبون اختيار الطريقة التي يريد التواصل بها: إما عن طريق الاتصال المباشر أو من خلال الرسائل عبر الموبايل. وسيتم استخدام عبارات شعرية أو داعمة نفسياً أو مضحكة للمشتركين، مثل "الحب هو ألّا نكون آسفين"، "اليوم عيد زواجك نتمنى لك عاماً أقل حزناً".
بالطبع لم أنفّذ هذا العمل على أرض الواقع، لأسباب كثيرة تتعلق بالوقت والجهد والتنظيم والدقة إضافة إلى قلقي "الشتوصيفي".
فكرت بعمل أملك الوقت لتنفيذه ولا يحتاج إلى جهد، ولم أجد شيئاً مناسباً لي أكثر من سحب أوراق اليانصيب. وبالطبع، لم أربح ليرةً سوريةً واحدةً خلال عام كامل، فقدّمت استقالتي وقررت أن أجد عملاً يجعلني ثرياً. وبعد تفكير طويل توصلت إلى فكرة رائعة، ألا وهي بناء فندق في منطقة صحراوية، وتأمينه ضد الغرق بمياه البحر بمبلغ يعادل عشرة أضعاف التكلفة، وجلب مياه البحر إلى المنطقة الصحراوية، وإغراق الفندق للحصول على مبلغ التأمين...
المشكلة الوحيدة والصعبة في هذا المشروع كانت اختيار اسم للفندق! أما ما تبقى فكان مجرد تفاصيل لا أهمية لها، وبعد عدة أيام من السهر والتفكير المضني اخترت اسماً سريالياً: "فندق يطفو على الرمال كزورق يغرق في قناة السويس".
"بما أنني كائن ليلي يسهر حتى الصباح قررت أن أعمل كمنبّه، وكل ما أحتاجه هو أن ترسلوا لي أرقام هواتفكم، وأنا سأتكفل بإيجاد أسلوب لطيف ومريح أوقظكم به في الوقت الذي تحددونه"
شعرت بالراحة لأنني أنجزت الجزء الأصعب. بعدها درست التكلفة المالية لبناء وتجهيز الفندق، وشق قناة مائية ضخمة لإغراقه، وتبيّن أني أحتاج إلى نصف مليون دولار، وبما أني لا أملك هذا المبلغ كان عليّ البحث عن شخص يقرضني إياه، ولم أجد سوى صديقتي العزيزة أوبرا ونفري.
وعلى الفور، كتبت لها رسالة طويلة أرسلتها إلى أحد مواقعها وهذا بعض ما جاء فيها: عزيزتي أوبرا وينفري، "يجب ألّا نكتفي بالنجاة، بل علينا أن نسعى إلى حياةٍ أفضل". أنا رامي من سوريا، مواليد 1978، موظّف، وراتبي الشهري حتى هذه اللحظة التي أكتب لك فيها خمسون دولاراً تقريباً... منذ كنت مراهقاً وأنا أحلم بأن يتحسن وضعي الاقتصادي. ألا يحق للفقراء أن يحلموا؟ ومن أجل تحقيق هذا الحلم قررت بناء فندق، وأحتاج أن تقرضيني مبلغاً من المال، قدرُه نصف مليون دولار أمريكي فقط لا غير، وسأعيدُه إليكِ بعد ثلاث سنوات وبدون فوائد. ما رأيكِ؟ وكي لا أغشّك، فأنا لا أملك أيّةَ ضماناتٍ أقدّمها لكِ. عندي فستان بسيط وجميل لأمّي العجوز، اشترته منذ عشرات السنين ولم ترتدِه، وقد أوصتني بأن أُلبّسها إيّاه حين تموت. اعذريني فأنا لا أستطيع أن أقدّمَه ضماناً مقابل المال. ولأكون صادقاً معك أنا لا أملك ضمانات سوى كلمتي "ومَن يملك الكلمةَ يملك روما" أتقبلين بروما كضمان؟
"عزيزتي أوبرا وينفري، أنا رامي من سوريا، منذ كنت مراهقاً وأنا أحلم بأن يتحسن وضعي الاقتصادي. ألا يحق للفقراء أن يحلموا؟ أحتاج أن تقرضيني نصف مليون دولار. ولأكون صادقاً معك أنا لا أملك ضمانات سوى كلمتي ‘ومَن يملك الكلمةَ يملك روما’. أتقبلين بروما كضمان؟"
وفي الختام طلبت منها ألا تتجاهل رسالتي: أرجو منكِ الردَّ على رسالتي ولو لم تكن لديكِ الرغبة في إقراضي المال. وبغضّ النظر عن ردّك، فإنّني أودّ أن أشكركِ لأنّكِ وهبتِني حلماً جميلاً، وكنتِ السبب في كتابة هذه الرسالة التي حين أقرأها لأصدقائي سيضحكون كثيراً. فكما تعلمين لا يمكن شراءُ الضحك بالمال. وبالطبع أرسلت لها بريدي الإلكتروني ورقم هاتفي ومكان إقامتي ولأنني أسكن في قرية صغيرة تابعة لإحدى البلدات أخبرتها أنّي معروف من قبل مختار تلك البلدة.
وللأمانة التاريخية جاء الرد بعد يومين من أحد المسؤلين عن صفحتها:
Dear Rami
Thank you so much for writing us and sharing your story. Unfortunately, we receive so many requests that we cannot even begin to help all of those in need. Please accept our sincere regrets. While we are sorry we cannot offer you personal assistance, we hope that you will continue to find comfort in O, and we wish you the best of luck in the future
,Sincerely
The Editors
بعد هذا الرد، فكرت أكثر من مرة أن أرسل رسالة إلى أخ أوبرا وأخبره أن أخته مارست الجنس بدون زواج شرعي، ولكني عدلتُ فأنا أعرف "آل ونفري". هم متعصبون وقد أتسبّب بفعل عنيف ومؤذٍ لها.
وفي اليوم التالي، سامحت أوبرا من كل قلبي، إلا أن الأفكار بالحصول على مصدر دخل إضافي بدون تعب بقيت تدور وتدور في رأسي، وحين قرأت ما كتبه رفائيل ألبرتي، "أنتَ في وحدتك بلد مزدحم"، أحسست بالفعل بأني بلد مزدحم بالأفكار. وبناءً على هذا الإحساس قررت إرسال طلب إلى "صندوق النقد الدولي" لإقراضي المال، لكنّني في اليوم التالي تراجعت عن الفكرة لأنّ صندوق النقد الدولي سيرسل جيوشاً ويحتلني إنْ تأخرت في السداد له! وهذا سيحزن أمي ويجعل حبيبتي تعلن الكفاح المسلح لتحررني.
انضم/ي إلى المناقشة
jessika valentine -
منذ أسبوعSo sad that a mom has no say in her children's lives. Your children aren't your own, they are their father's, regardless of what maltreatment he exposed then to. And this is Algeria that is supposed to be better than most Arab countries!
jessika valentine -
منذ شهرحتى قبل إنهاء المقال من الواضح أن خطة تركيا هي إقامة دولة داخل دولة لقضم الاولى. بدأوا في الإرث واللغة والثقافة ثم المؤسسات والقرار. هذا موضوع خطير جدا جدا
Samia Allam -
منذ شهرمن لا يعرف وسام لا يعرف معنى الغرابة والأشياء البسيطة جداً، الصدق، الشجاعة، فيها يكمن كل الصدق، كما كانت تقول لي دائماً: "الصدق هو لبّ الشجاعة، ضلك صادقة مع نفسك أهم شي".
العمر الطويل والحرية والسعادة لوسام الطويل وكل وسام في بلادنا
Abdulrahman Mahmoud -
منذ شهراعتقد ان اغلب الرجال والنساء على حد سواء يقولون بأنهم يبحثون عن رجل او امرة عصرية ولكن مع مرور الوقت تتكشف ما احتفظ به العقل الياطن من رواسب فكرية تمنعه من تطبيق ما كان يعتقد انه يريده, واحيانا قليلة يكون ما يقوله حقيقيا عند الارتباط. عن تجربة لم يناسبني الزواج سابقا من امرأة شرقية الطباع
محمد الراوي -
منذ شهرفلسطين قضية كُل إنسان حقيقي، فمن يمارس حياته اليومية دون ان يحمل فلسطين بداخله وينشر الوعي بقضية شعبها، بينما هنالك طفل يموت كل يوم وعائلة تشرد كل ساعة في طرف من اطراف العالم عامة وفي فلسطين خاصة، هذا ليس إنسان حقيقي..
للاسف بسبب تطبيع حكامنا و أدلجة شبيبتنا، اصبحت فلسطين قضية تستفز ضمائرنا فقط في وقت احداث القصف والاقتحام.. واصبحت للشارع العربي قضية ترف لا ضرورة له بسبب المصائب التي اثقلت بلاد العرب بشكل عام، فيقول غالبيتهم “اللهم نفسي”.. في ضل كل هذه الانتهاكات تُسلخ الشرعية من جميع حكام العرب لسكوتهم عن الدم الفلسطيني المسفوك والحرمه المستباحه للأراضي الفلسطينية، في ضل هذه الانتهاكات تسقط شرعية ميثاق الامم المتحدة، وتصبح معاهدات جنيف ارخص من ورق الحمامات، وتكون محكمة لاهاي للجنايات الدولية ترف لا ضرورة لوجوده، الخزي والعار يلطخ انسانيتنا في كل لحضة يموت فيها طفل فلسطيني..
علينا ان نحمل فلسطين كوسام إنسانية على صدورنا و ككلمة حق اخيرة على ألسنتنا، لعل هذا العالم يستعيد وعيه وإنسانيته شيءٍ فشيء، لعل كلماتنا تستفز وجودهم الإنساني!.
وأخيرا اقول، ان توقف شعب فلسطين المقاوم عن النضال و حاشاهم فتلك ليست من شيمهم، سيكون جيش الاحتلال الصهيوني ثاني يوم في عواصمنا العربية، استكمالًا لمشروعه الخسيس. شعب فلسطين يقف وحيدا في وجه عدونا جميعًا..
محمد الراوي -
منذ شهربعيدًا عن كمال خلاف الذي الذي لا استبعد اعتقاله الى جانب ١١٤ الف سجين سياسي مصري في سجون السيسي ونظامه الشمولي القمعي.. ولكن كيف يمكن ان تاخذ بعين الاعتبار رواية سائق سيارة اجرة، انهكته الحياة في الغربة فلم يبق له سوى بعض فيديوهات اليوتيوب و واقع سياسي بائس في بلده ليبني عليها الخيال، على سبيل المثال يا صديقي اخر مره ركبت مع سائق تاكسي في بلدي العراق قال لي السائق بإنه سكرتير في رئاسة الجمهورية وانه يقضي ايام عطلته متجولًا في سيارة التاكسي وذلك بسبب تعوده منذ صغره على العمل!! كادحون بلادنا سرق منهم واقعهم ولم يبق لهم سوى الحلم والخيال يا صديقي!.. على الرغم من ذلك فالقصة مشوقة، ولكن المذهل بها هو كيف يمكن للاشخاص ان يعالجوا إبداعيًا الواقع السياسي البائس بروايات دينية!! هل وصل بنا اليأس الى الفنتازيا بان نكون مختارين؟!.. على العموم ستمر السنين و سيقلع شعب مصر العظيم بارادته الحرة رئيسًا اخر من كرسي الحكم، وسنعرف ان كان سائق سيارة الاجرة المغترب هو المختار!!.