شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"هي حلب يا خاي"... زيارة مدينة أبي بعد 16 عاماً من الغياب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 9 أكتوبر 202003:12 م

"محافظة إدلب ترحب بكم"، عند هذه اللافتة تحديداً ساد الصمت في السيارة التي تقلني والزملاء إلى مكان العمل حيث حلب، نعم هذه بداية درب حلب الرئيسي الذي مشيته قبل ستة عشر عاماً بتمامها وكمالها.

لا إرادياً دندن الفريق بصوتٍ منخفض أغنية الأيقونة الحلبية صباح فخري "درب حلب ومشيتو كله سجر زيتوني"، وعند المقطع الثاني ارتفع صوت فخري في السيارة، أنقذنا اليوتيوب وأكمل الأغنية العظيمة، كنت أبحث في الطريق عن شجر الزيتون المعمر، الذي خانته الحرب فمات قهراً، وأناشد ما بقي من أشجار الفستق الحلبي أن تتكلم بحياد عما جرى، أما زميلي المصور الهادئ القليل الكلام، فنطق أخيراً أمام حزن المشهد وقال: "ياحرام! لم يجبه أحد!"، ومن كل عين في السيارة التي تحمل الصحافيين سقطت دمعة وساد صمت رهيب يشبه تماماً الصمت بعد انتهاء معركة.

ربما يبدو المشهد سريالياً قليلاً، لكن لمن يعرف درب حلب قبل الحرب يقدر هول رؤيته على هذه الحال لأول مرة بعد الحرب، ورغم ما جرى ما زالت شهباء صاحبة قد مياس.

المدخل الرئيسي

"محافظة حلب ترحب بكم"، هنا لا مشهد آخر سوى الدمار، يتوقع الزائر بعد انتهاء المعارك في المدينة، أن كل جزء فيها عُطب بسبب الحرب، حينذاك يعود للذاكرة صوت مراسلي القنوات التلفزيونية والإذاعية من هذا الطرف وذاك، وهم يتحدثون عن شدة المعارك التي شهدتها المدينة. أتذكر كل حرف نطقوه، ويستعد العقل الباطن لرؤية مشهد آخر من الحرب، لكنها حلب مدينة العجب.

بقرب القلعة تسمع اللهجة الحلبية بوضوح، وعلى الزائر أن يترجمَ إلى لهجته المحلية قليلاً، فلحرف الجيم وقعه الخاص في حلب، ولحرف الشين أيضاً، فهو بداية أداة استفهام "إشو" أي ماذا. أما أدوات الإشارة فلأهل حلب قاموسهم الخاص يبدأ بـ "كوهني" أي هنا، ولا ينتهي بـ "كوهناكي" أي هناك

فور الوصول، تلقائياً يقودك العقل الباطن إلى القلعة، ويستقبل العم أبو عبدو الزائرين بزيّه الحلبي وقهوته المرة، التي يقدمها مجاناً، مع أغنية حلبية يَطرب بها الزائر. فهو ابن حلب، صوته جميلٌ بالفطرة، وكريم بالفطرة أيضاً. بقرب القلعة تسمع اللهجة الحلبية بوضوح، وعلى الزائر أن يترجمَ إلى لهجته المحلية قليلاً، فلحرف الجيم وقعه الخاص في حلب، ولحرف الشين أيضاً، فهو بداية أداة استفهام "إشو" أي ماذا. أما أدوات الإشارة فلأهل حلب قاموسهم الخاص يبدأ بـ "كوهني" أي هنا، ولا ينتهي بـ "كوهناكي" أي هناك. فعلى الشخص القادم حديثاً إلى المدينة أن يرافقه دليل سياحي وترجمان محلف من أبناء المدينة العريقة، التي تعد أقدم مدينة مأهولة منذ 12200 سنة، فربما يتبادر سؤال إلى أذهان الزوار هو كم لغة وحضارة مختلطة باللهجة الحلبية؟ لا أعرف لماذا ضحكت أمام أسماء الإشارة هذه رغم أني أسمعها منذ الطفولة، من خالتي هند التي عاشت طفولتها في حلب وما زالت تتكلم لهجتها حتى الآن.

تفضلي خيتو...

الساعة الخامسة والنصف عصراً في قلعة حلب، التقيت الزميل الصحافي زاهر طحان لأول مرة، بعد 3 سنوات من التواصل عبر الهاتف وفيسبوك، وبلهجته الحلبية الجميلة حيّاني مرحباً "ميسلامة" أي "مية السلامة، أهلاً وسهلاً"، وبدأت الرحلة من القلعة باتجاه المدينة القديمة، بدأت أسئلتي الكثيرة تنهال على زاهر عن المعارك هنا، عن الأسواق، عن الحجارة، ربما كانت الأسئلة أشبه بتحقيق صحافي تماماً، وفي كل زاوية التقطتُ صورة، وضحكت مع زاهر ربما بعد 16 عاماً أزور حلب مجدداً.

تعود الحجارة والأبنية القديمة في حلب إلى عهود قديمة جداً، بعضها إلى العهد المملوكي، كجامع "الشعيبية" التي بدأت أعمال الترميم فيه، وأحياء عدة في المدينة، وبعضها إلى العهد الأموي.

لا تشبع العين من حجارة هذه الأسواق، التي اعتادت أن تنتظر صلاة المغرب لترتاح، هذه هي القواعد في المدينة القديمة، تغلق أبوابها على موعد تلك الصلاة، إنها المدينة التي تحار بأي مدينة أخرى تشبّهها، "الصامدة، المحاربة، القديمة"، كلها صفات تخجل أمام جمال قلب المدينة في حلب برغم الدمار.

بدأت الشمس تميل للغياب، والمغرب حلَ ضيفاً على نهار حلب، ومع كلمة "الله أكبر"، أغلق أبو محمد في "سوق الحبيل" أي – الحبال- كما يسمي الحلبيون دكانه، أبو محمد هو الوحيد حتى الآن الذي فتح دكانه في السوق المدمر، يتحدى به الواقع ليقول: "إن حلب لا تموت، وصناعتها القديمة لن تندثر".

ليس بعيداً عن "سوق الحبيل"، في سوق المدينة القديمة أسأل زاهر ماذا حل بسوق "تفضلي يا خيتو"؟ ذاك السوق الذي بقي حاضراً في ذاكرة كل عروس سورية مرت به قبل زفافها. يشير زاهر إليه ونقف أمامه، هنا إرادة تجارة حلب تتجلى بأبهى صورها، فأصحاب المحال يرممون السوق على نفقاتهم. كيف أستغرب هذا الحدث في عاصمة سورية التجارية والاقتصادية؟ أقول له بصوت مرتفع: "شي بكبر القلب". كثيرة هي أسماء الأسواق في المدينة القديمة بحلب، منها باب الخابية وباب أنطاكيا. الأخير كان بوابة العبور يوماً للقادمين من أنطاكيا، وهنا الحياة تعود تدريجياً بفضل أبناء المدينة.

أبي الذي يكره المدن وضجيجها لا يستثني سوى حلب، يردد دائماً جملته المشهورة "ما بتغمض عيني بمدينة إلا بحلب". فكرت ملياً بجملته وأنا أسير في الشوارع منتصف الليل، فوجدت صدق مفرداته، فأنا المرأة أسير وحدي في مدينة مجهولة بالنسبة إلي وأشعر بأمان عظيم

أكيد كبة!

بمجرد أنك لا تجيد اللهجة الحلبية، يقول لك النادل في أي مطعم حلبي " أكيد كبة"، من دون السؤال هل تحب الكبب أو لا، ويفرد عضلاته في الخيارات المتاحة "كبة بكرز، ولا كبة صاجية، ولا مشوية خيتو؟". فهو يقدم البصمة الحلبية في عالم المطبخ السوري والعربي، هنا كل شيء رخيص في العاصمة الاقتصادية مقارنة بالعاصمة السياسية. فالطعام أرخصحوتلى النصف تقريباً، ربما وقع السياسية يزيد من سعر الملح والزيت في الطعام هناك بدمشق. أما في حلب فتأكل وتشعر أنك لم تشبع بعد. فالطعام مطهو بنفَسِ أبناء المدينة التي تحب الحياة، ربما صدق المثل السوري القديم: "خود حلبية وعيش عيشة هنية". الفتيات هنا يرضعن حب الطبخ وصنع الكبة مع حليب الأمهات. لا يقتصر رخص الأسعار على الطعام فقط، فهنا المعامل وأصحابها لم يستسلموا. فور انتهاء الرصاص عادوا إلى العمل. القطن والملابس رخيصة مقارنة بباقي المدن، لكن المدخول الشهري أيضاً أقل من مدخول الساكن في دمشق، ورغم هذه المعادلة وكل ما تعيشه البلاد من غلاء لا تسمع من أهل حلب إلا "الحمد لله يا خاي".

مدينةُ أبي

أبي الذي يكره المدن وضجيجها لا يستثني سوى حلب، يردد دائماً جملته المشهورة "ما بتغمض عيني بمدينة إلا بحلب". فكرت ملياً بجملته وأنا أسير في الشوارع منتصف الليل، فوجدت صدق مفرداته، فأنا المرأة أسير وحدي في مدينة مجهولة بالنسبة إلي وأشعر بأمان عظيم. هنا الناس طيبون جداً، يحبون الحياة، عشقت مدينة أبي مجدداً، فلم أتخيل يوماً أن أحب مدينة كما أحببت دمشق. بليلها تناشد كل المغتربين عنها أن يرسلوا جواباً ويطمئنوها، فهي من تسقي الزائرين خمرة الحب، فتنسيهم هم القلب، هكذا قال صباح فخري أيقونتها وصدقناه جميعاً. في حلب يرقص قلب كل زائر على قدها المياس فترتاح الروح، وهنا أسأل قلمي هل يحق لمادةِ رأي أن تحمل كل هذا الغزل؟ هي حلب يا خاي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard