"سوريا ليست بلداً آمناً لإنجاب الأطفال"، وعليه، دعت الفنانة السورية رشا رزق المنظمات الإغاثية وجمعيات المعونة العاملة في البلاد إلى تقديم موانع الحمل والإنجاب إلى الرجال والنساء في مخيمات اللجوء.
ربما تكون دعوة رزق، التي استنكرت ميلاد أطفال محكوم عليهم سلفاً بالحرمان من التعليم والتطبيب وأساسيات الحياة، ذات وجاهة وتكشف عن جانب إنساني بشكل عام، إلا أنها فجّرت جدلاً أضاء على عدة إشكاليات للفكرة من النواحي الدينية والاجتماعية والغريزية والأخلاقية وحتى الحقوقية والنسوية، وصلت إلى اتهامها بـ"التمييز والعنصرية والفوقية".
في منشورها الأول، مطلع الأسبوع، كتبت رزق: "نداء إلى كل المنظمات الإنسانية، فريق ملهم ومنظمة بنفسج وبسمة وزيتونة وكل الأفراد الناشطين بالعمل الإنساني. مشان الله ابعتوا مساعدات حبوب منع حمل أو واقيات ذكرية مشان ما تبعتوا بعدين أضعافهن أدوية وعلاجات لتشوهات وأمراض ومصايب"، متسائلةً "شو ذنب الطفل ينحرم من التعليم والطبابة وأساسيات الحياة؟ مشان يتمتع أمه وأبوه بحقهن بالإنجاب؟".
وشددت: "حق الطفل أولوية ولا يأتي بالدرجة الثانية بعد حق البالغ بالإنجاب. كل من بيخلف ولد بالمخيمات وهو بحكم المجرم وخلصنا. خلينا نعمل حملة موانع الحمل سوريا ليست بلد آمن لإنجاب الأطفال".
انقسم المعلقون على المنشور إلى عدة فرق: الأول يعارض مضمون النداء شكلاً وموضوعاً ويكيل الاتهامات للفنانة السورية، والثاني: مؤيد تماماً، والثالث: مؤيد لفكرة رافض للطريقة/ الأسلوب/ صيغة التعبير عنها، ورابع: يرتفع عن النظرة المحدودة لمضمون المنشور (الإنجاب في المخيمات) إلى ثقافة كثرة الإنجاب أو الإنجابية بشكل عام في ظروف غير ملائمة.
"كلامها قاسٍ لكن صحيح"
بينما اعترف عدد من المتابعين بأن ما قالته رزق "قاسٍ لكن صحيح في عدة مطارح"، استغربت الناشطة والصحافية السورية سعاد خبية، في منشور عبر فيسبوك: "لا أفهم حقيقة هذا الهجوم العنيف على ما قالته رشا رزق بخصوص تحديد الإنجاب؟"، معتبرةً أن تحديد النسل بالنسبة للسوريين "أمر أخلاقي وإنساني ومصلحي جداً الآن بسبب الأوضاع المعيشية الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والسياسية والأمنية التي نحياها".
"كل من بيخلف بالمخيمات بحكم المجرم"... الفنانة السورية رشا رزق تفجر جدلاً حول تشجيع السوريين غير القادرين على تأمين حياة كريمة للأطفال على عدم الإنجاب. البعض قال إن "كلامها قاسٍ لكن صحيح"، آخرون اتهموها بـ"الفوقية والعنصرية والتمييز"
أقرت خبية "حق الجميع دون استثناء في التمتع بالأمومة والأبوة"، مشترطةً ذلك بـ"عدد محدود جداً من الأطفال يجب أن لا يتجاوز الاثنين أو الثلاثة في أحسن الأحوال مع فترات زمنية كافية فيما بينهم".
الإعلامية السورية رشا الخضراء أيضاً دعمت رزق في عدد من المنشورات عبر حسابها في فيسبوك. كتبت في أحدها: "أنا متضامنة مع رشا رزق في ما دعت إليه من وجوب ترشيد وتحديد النسل لكل من يعيش ظروف صعبة وخاصة في المخيمات وأضم صوتي لصوتها".
وأضافت: "لمن لا يستطيع تأمين نفسه، لا يحق له أن يظلم نفساً أخرى معه، أولادكم ليسوا أملاكاً تشترونها أو تجبرون خواطركم بها عندما تتأزم الحياة معكم!".
وفي منشور مطول، ردت على جميع الانتقادات. "خيار إنجاب الأطفال ممكن يكون حق للأهل لكن ضمن ظروف تضمن لهالطفل الحد الأدنى من متطلبات الحياة! لما الأهل مافيهون على هالشي بكون إنجابهم للأطفال واحد ورا التاني جريمة"، قالت. وأكملت: "بالأيام الحالية حتى المقتدر يا دوبو (قدرته) يربي ولد أو تنين من صعوبة الحياة، وحتى الغني يللي ما عنده وقت يدير باله على ولده، مو من حقه يخلف ويزت (يرمي)".
ولرصيف22، وصفت الحديث عن "الحق في الإنجاب" بأنه "حكي ما لو قيمة"، مصممةً على أن "الأمور تقاس بنتائجها. ونتيجة إنجابهم هلأ جيل ضايع". كما رفضت الدعوات إلى تحريك الفكرة عبر توعية وإقناع الأشخاص قائلةً: "لبينما تقنعيهم بكون خلفوا عشرة. كيف بدك تقنعيهم إذا بكي أبنائهم ما أقنعهم؟".
وختمت: "أنا ما دافعت عن الفكرة لأجل رشا رزق وإنما لأني بتبنى نفس الموقف وقلبي محروق على هالأطفال ولقيت العالم عم تتهجم على فكرة صحيحة بأسباب غير محقة".
"الحقوق لا تتجزأ"
على الجانب الموازي، أعرب سوريون عن صدمتهم من دعوة رزق، وطرحوا عدة استفسارات استنكارية أبرزها: هل على السوريين أن يموتوا ويجوعوا فقط؟ هل حرام أن ينجبوا ويتكاثروا؟ من يقتلوننا لهم وحدهم حق التكاثر وحفظ نسلهم؟ كذلك أثاروا تساؤلاً عن مفهوم المقدرة على رعاية طفل، مبرزين أن الأمر يتخطى الظروف المادية والبيئية إلى عوامل عدة، منها الرعاية العاطفية والتربوية والاجتماعية والنفسية وغيرها.
واستنكر البعض أن تتحول "مغنية الأطفال" الفنانة التي اشتهرت بغناء تترات مسلسلات كرتونية محبوبة مثل: كابتن ماجد، ودروب ريمي، والمحقق كونان، وأنا وأخي، وعهد الأصدقاء، إلى "شرطية على أرحام السوريات".
"ما بيحق لحدا يقول/ تقول: لا تجيبوا أطفال. شو ما كانت الأسباب، ما بيحق لحدا يحرم آخرين من هالحق ومن هالمشاعر ومن هالأحاسيس". كان هذا رأي الكاتب والمخرج السوري دلير يوسف الذي شدد على أن "الحقوق ما بتتجزأ، وحق الإنجاب (ولو عندهم خمس ولاد قبل) ومتله حق الإجهاض، من حقوق البشر الطبيعيّة، وما بيحق لحدا يصادره/تصادره منهم/ن".
لا يعترض دلير على الدعوة إلى عدم الإنجاب بشكل عام، لكنه يرى حصرها بفئة بعينها "عنصرية غير مقبولة" أشبه بـ"النازية" و"الفاشية".
وبينما رأى أن خيار مساعدة اللاجئين في تحسين أوضاعهم المعيشية أفضل من مطالبتهم بعدم الإنجاب، أضاف لرصيف22: "كل الناس حقها تحكي رأيها وتعبر بالطريقة اللي بدها ياها عن الموضوع اللي بدها ياه بس لما يكون شخص كلامه بيأثر بمئات أو بآلاف أو حتى بعشرات الآلاف فلازم يتحمل مسؤولية كلامه"، مبرزاً أنه لا يقصد رزق شخصياً.
اتفقت معه الناشطة المدنية السورية جمانة حسن التي قالت لرصيف22 إنها ترى في منشور رزق "نوعاً من الطبقية والاستعلاء" على فئة تعيش ظروف سيئة جداً بسبب العوامل السياسية من حرب وتهجير وفقر، مؤكدةً "المُلام الأول هنا هو النظام السوري، ومن المسئ والمجحف محاولة حرمان هؤلاء الناس من حقهم بالإنجاب دون النظر إلى المشكلة الأكبر وهي تهجيرهم أصلاً".
قبل مشاركتنا رأيها، طلبت جمانة التنبيه إلى خطورة استخدام هذا المنشور لوصف رزق نفسها بالعنصرية، وهو ما تقول إنه تكرر في السنوات الأخيرة على الصعيد السوري.
وأوضحت: "كثيراً ما يخون الإنسان التعبير عن أفكاره عبر السوشال ميديا. توجيه الغضب الجماعي ضد شخص صار مزعجاً جداً. لا أتحدث عن أشخاص لديهم انتهاكات، بل عن شخص كتب عبر فيسبوك (مثلاً) رأياً قد يكون فيه عنصرية فوقية إلى آخره، لكن لا يحتمل أن يعرضه لحملة غضب جماعي وتنمر كامل على شخصيته وتجريده من ماضيه وحاضره بسبب هذا الرأي".
تميل جمانة إلى اللاإنجابية في ظل هذه الظروف خاصةً مع الانتهاكات المستمرة ضد الأطفال على كافة الأصعدة، وهي تعتقد في وجاهة فكرة توعية الأشخاص في مواقف الضعف على تنظيم الإنجاب، لكنها، كما دلير، تؤمن بأن اقتصار هذا الأمر على الفقراء أو اللاجئين أمر عنصري. وتحث عوضاً على "مناقشة قضية الإنجاب الجدلية والمعقدة في إطار عام، ودراسة الأسباب التي تدفع الأشخاص إلى كثرة الإنجاب في المخيمات أو المناطق الفقيرة" لإرساء حلول جذرية مبينة على تغيير ومعالجة القناعات مثل "الطفل بيجي ورزقته معه" لا بـ"الاستسهال" وإجبار الناس على تناول موانع الحمل.
وفيما ذكّرت بإشكالية "من يحق له تحديد من لديه حق الإنجاب وأي عدد من الأطفال ينبغي أن ينجب"، أثارت الناشطة التي تدرس علم النفس عدة إشكاليات في استخدام موانع الحمل التي اقترحتها رزق، قائلةً: "من منظور صحي ونسوي، فإن وسائل منع الحمل التي قد تتناولها المرأة لها أضرار رهيبة على أجسام النساء". ورأت أن المرأة لا تكون وحدها صاحبة قرار الإنجاب -فقد تكون مُجبرة ومضطرة ضمن ظروفها الاجتماعية- حتى يمكن حل الأمر بتناول موانع الحمل.
وأضافت جمانة: "ممكن نشوف غريب أنو ناس تنجب تحت القصف. بس ما فينا نوصمهم بأنهن متخلفين أو جاهلين أو غير واعين. بالعكس، ممكن يكونوا واعين بس بدهن يعطوا استمرارية ومعنى لحياتهن، ممكن هنن يشوفوا الاستمرارية في هاي الطفل خصوصاً لما يصير كل هالقدر الهائل من القتل والإبادة لهؤلاء الأشخاص… أظن علينا النظر لكل الجوانب المحيطة بمشكلة كبيرة وجذرية قبل إلزام الآخرين بخياراتنا وآرائنا".
"قضية إشكالية قديمة"
الكاتب السوري عُدي زعبي كان أكثر شمولاً في تناول الفكرة إذ لفت إلى أن "قضية تحديد النسل قديمة، وإشكالياتها متكررة، ومشكلتها عميقة فعلاً، كيف تستطيع إقناع الناس بالتوقف عن الإنجاب، لمصلحتهم؟ ومن يحق له أن يقول ما مصلحة الناس؟ الحكومة أم النخبة أم رجال الدين، أم الناس أنفسهم؟".
وضرب مثالاً بـ"الحلول الجذرية التي اعتمدتها الصين" لهذه القضية التي أثارت الكثير من المشاكل والأسئلة، مبرزاً أنه فيما "اتضح أن النجاح في الحد من تزايد السكان كان حقيقياً، وربما ساعد في تحقيق نهوض اقتصادي فعلي، وفي وقف المجاعات المتكررة بقوة السيف. لكن أدى إلى مشاكل لا حصر لها، من فساد ووأد البنات وهندسة اجتماعية بشرية مخيفة غير إنسانية".
ونبه في الوقت ذاته إلى التشكيك في جدوى تحديد النسل على التقدم الاقتصادي، وذكّر بأن تحديد النسل في أوروبا حصل "بشكل تدريجي وثيق الصلة بتطور الرأسمالية وطبيعة سوق العمل وتحرر المرأة".
وخلص من هذه الأمثلة إلى أن "لا إجابة واحدة قاطعة" في شأن جدوى تحديد النسل على التقدم الاقتصادي والحضاري أو جدواه. إلا أن رأيه الذي كشف عنه كان أكثر ميلاً إلى أن تحديد النسل "مطلوب وضروري في كل مكان يعاني مشاكل فقر وتعليم" وأنه "مطلوب عالمياً، لأن البشر لن يستطيعوا الحياة في كوكب مزدحم لا يمكنه تلبية حاجاتهم الأساسية".
"مغنية الأطفال شرطية على أرحام السوريات"... خط فاصل بسيط بين مشروعية الدعوة إلى اللاإنجابية أو تحديد النسل بين الأشخاص في ظروف لا تسمح برعاية الأطفال وبين حصرها بفئة بعينها على نحو يجعلها "عنصرية وفوقية غير مقبولة"
في الأثناء، عبّر زعبي عن اعتقاده بأن تحديد النسل عبر مطالبة "نخبة تتهم العامة بأنهم أغبياء وجهلة وعالة" و"تحتقرهم وتتعالى على عذاباتهم" غير مجدِ، مضيفاً: "من الضروري أن يؤمن الناس أنفسهم بضرورة تحديد النسل، كي يكون قرارهم ذاتياً أو على الأقل أن يكون هذا أساس أي تحرك في الشأن العام".
ونفى أن تكون نسب الولادة في مخيمات اللجوء عالية جداً، معترفاً بأنها تختلف من مكان إلى آخر، إذ "كل المواليد الجدد السوريين في المخيمات وخارجها من الممكن إطعامهم وتعليمهم بما يساوي ثمن بضعة صواريخ روسية وأمريكية صبوها على رؤوس الناس"، بحسب قوله.
في ما يخص النقاش السوري الدائر، قال زعبي: "كل النقاش القائم الآن متوتر وثنائي النظرة كجميع النقاشات السورية في السنتين الأخيرتين. سب واتهامات وتنمر علني وتشهير".
"أتفهم طبعاً غريزة البقاء لدى الإنسان ومقاومته للموت عن طريق التكاثر، لكن هذه الغريزة الموجودة عند كل المخلوقات، يجب أن تكون ‘مضبوطة‘ لدى البشر، فنحن لسنا أرانب".
رزق تُعقّب
يبدو أن رزق فطنت إلى وجاهة بعض الانتقادات فتغيرت لهجتها في أحدث منشور لها بتاريخ 7 تشرين الأول/ أكتوبر وقالت: "الرغيف يلي بيطعمي اثنين ما بيطعمي أربعة ولا خمسة ولا عشرة. إذا العالم كلو خذلنا لازم ننقذ أنفسنا بالوعي لواقعنا. لا تجعلوا من الواقع السيء أسوأ. الطفل أولاً وليس آخراً. الطفل مستقبلنا. الطفل أملنا. طفل معافى أفضل من خمسة جوعانين. شو لازم نشرح أكتر من هيك؟".
ولفتت: "خسرت سوريا جيلاً كاملاً من الطفولة المقهورة المشوهة البائسة الأُمية. أنقذوا من لديكم وبعدين الله بيفرجها علينا جميعاً".
وكانت قد ردت على منتقديها، في تصريح لتلفزيون سوريا، قالت فيه: "أدليت برأيي كأم وإنسانة سورية أنتمي إلى هذا الشعب وأطفال بلدي يعصرون قلبي حزناً عندما أراهم بهذا الحال"، واستطردت: "كيف لي ألا أكتب هذا المنشور وصور أطفالنا في المخيمات تدمي قلب أي إنسان ذي ضمير وعقل. والشتاء على الأبواب وسنسمع ككل سنة أخبار موت الأطفال من الصقيع والجوع وقلة الدواء والمساعدات في مخيمات الموت والبؤس".
وذكّرت بـ"حالات التشرد والاغتصاب وسرقة الأعضاء وعمالة الأطفال ودعارة الصغار والرضع المهجورين في الكراتين على نواصي الشوارع تقشعر لها الأبدان".
وأعربت عن أملها أن تصل كلماتها إلى هذه العائلات وتلقى صدىً لديها، مشددةً "لا حق في إنجاب طفل إذا لم يرافقه تحمل مسؤولية رعايته. صوت العقل دوماً ضعيف وصوت الغريزة أقوى وآخر ما أتمناه أن تتعلم هذه العائلات الدرس متأخرة لأن أبناءها هم الذين سيدفعون الثمن في المستقبل".
وختمت رزق: "أتفهم طبعاً غريزة البقاء لدى الإنسان ومقاومته للموت عن طريق التكاثر، لكن هذه الغريزة الموجودة عند كل المخلوقات، يجب أن تكون ‘مضبوطة‘ لدى البشر، فنحن لسنا أرانب".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت