شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"لم يعد للشموع والسحرة مكان"... عن الأساطير والحكايات المنسية في مقام الخضر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأربعاء 7 أكتوبر 202004:45 م

في زقاق ضيق من أزقة ما يعرف بالشارع التجاري في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، يبدو المبنى الأثري القديم متخفياً بين البيوت، وتظهر منه بعض القباب العالية، وعلى حجارته آثار سنين مضت، وتاريخ محفور على لوحة صغيرة قرب المدخل تشير إلى أقدم دير لا يزال قائماً في فلسطين، ويُعرف بـ"مقام الخضر"، الذي ظل مهجوراً لمئات السنين حتى بدأت تمارس فيه بعض أعمال الشعوذة من حارسة القبر التسعينية، قبل وفاتها. أصبح المقام اليوم بعد ترميمه من أهم المراكز الثقافية في المدينة.

"دير صليبي قديم"

يعود بناء المقام إلى القرن الثالث الميلادي بين عامي 278 و 372، وحسب وصف الدكتور في علم الآثار القديم أيمن حسونة، فإن المقام يضم في أسفله دير القديس هيلار يون أو هيلار يوس، ويتزين بفن العمارة الصليبي، وبعض النقوش اليونانية والأعمدة الرخامية، الأمر الذي يؤكد بناء مقام الخضر فوق الدير الصليبي القديم.

ويقول د. حسونة: "النواة الأولى للمكان كان عبارة عن دير لأحد القديسين المسيحيين، ويبدو أنه كان رجل دين صالحاً زاهداً في المكان. بعد وفاته أطلقوا عليه لقب الخضر". وأضاف: "اسم الخضر ورد في العديد من الديانات، منها المسيحية والدرزية واليهودية، فيما تقول بعض الروايات إن اسم المقام منسوب إلى القديس "جورجس"، وتعني هذه الكلمة "الخضر" باللغة العربية، لذلك فالاِسم أيضاً منتشر بفلسطين ويطلق على قرية تقع إلى الغرب من مدينة بيت لحم".

"النواة الأولى لمقام الخضر في غزة كان عبارة عن دير لأحد القديسين المسيحيين، ويبدو أنه كان رجل دين صالحاً زاهداً في المكان. بعد وفاته أطلقوا عليه الخضر"

تبلغ مساحة المقام 450 متراً مربعاً، وهو يتكون من طابقين ويعود تاريخ إنشائه الى العصر اليوناني، وهذا ما دلت عليه النقوش والكتابات.

ويشير د. حسونة إلى أنه أثناء ترميم المكان قبل مئات السنوات، عثر على قبر للقديس هيلاريون، ولكن المكان تحوّل في العصر العثماني إلى مقام، وضم إيواناً في الجهة الشمالية من المصلّى الأصلي.

النظام المعماري بيزنطي

يعتبر النظام المعماري في المصلى الصغير دارجاً في المناطق القديمة، مثل كنيسة القديس جاورجيوس في غزة القديمة.

"أثناء ترميم المكان وُجدت بعض النقوش والكتابات البسيطة جداً، والتي يستدل من خلالها أن تاريخ المقام يوناني، وفي الأرضية اكتشفت أثناء الحفر بعض النقوش على اللوحات باللغة اليونانية، وبعض الرسومات على الرخام للصليب اليوناني".

وحسب وصفه للمكان يقول د. حسونة: "الطابق السفلي من المقام كان يضمّ المحراب المسيحي، ويعتلي المقام المصلَّى الإسلامي، وهو مؤشر يدل على انحسار الحضور المسيحي في تلك المرحلة إذ فرّ المسيحيون من قادة الرومان قبل أكثر من 1800 عام، ونتيجة ما يعتري المقام من تشققات أدّت إلى انهيار أجزاء كبيرة منه ثم تمّ العمل على ترميمه أكثر من مرة، لتجنّب تصدعه كلياً".

ويؤكد د. حسونة أن إعادة ترميم المقام مجدداً في السنوات الأخيرة، جاء كنوع من أنواع الحفاظ عليه لاستخدامه مركزاً ثقافياً في منطقة قروية في دير البلح. 

"بركات المقام"

حول هذا المقام نُسجت الأساطير، وتوارثت الأجيال الحكايات والقصص عن بركات الخضر، التي تحل على زائريه، خصوصاً كل اثنين وخميس، إذ تُضاء الشموع وتُذبح القرابين تبركاً بالخضر، وطلباً للاستشفاء والإنجاب وقضاء الحوائج عبر امرأة عجوز معروفة بأم طلعت، وتدعي أن الخضر كان جدها.

تقول الحاجة أم أمجد (77 عاماً) لرصيف22: "طول عمرنا بنسمع عن مقام الخضر، وفكرته زي فكرة الحسين والسيدة زينب بمصر وغيرها من الأماكن، الناس بتصلي وبتدعي ربنا يستجيب لكن بعض الناس للأسف استغلته غلط". مضيفة: "كان في المقام امرأة عجوز تحرسه، لكن للأسف الناس كانت تزورها وتدفعلها فلوس مقابل بركات الخضر تحل عليها، وشوي شوي المكان صار كله للشعوذة والسحر".

ويروي الحاج عبد الله بركة (69 عاماً) تفاصيل عن ليلتي الاثنين والخميس إذ تذبح القرابين ويعدّ الزوار الطعام والشراب معتقدين أن في القبو قبر رجل صالح يدعى الخضر، وله بركات قد تحل عليهم. بمرور الوقت أصبحت حارسة المقام توهمهم أنها تستطيع عمل سحر لتحقيق المراد، "وهذا كله كفر بالله"، بحسب تعبير بركة.

لسناء (42 عاماً) حكايتها مع مقام الخضر، تقول لرصيف22: "ما كنت بخلف وضليت 3 سنين أتعالج، إلى أن جئت أنا ووالدتي للمقام، وصلينا، ودعينا، وقعدنا مع الحجة أم طلعت، صاحبة المقام حسب ما كنا بنعرف، وقرأت علي قرآن، وقطعتلي الخوفة، وعملتلي حاجة اسمها طبق الظهر، وبعد شهرين كنت حامل".

وتنهي سناء حديثها مستدركة:" هلقيت الله اعلم، حملت ببركة المقام، وبركة أم طلعت، ولا حمل طبيعي في النهاية كله بأمر الله، لكن أنا أيامها صدقت بأنه المقام له بركة".

من خربة الى مكتبة

ظل المقام مهجوراً إلا من بعض الزوار الذين يؤمنون ببركته إلى أن سعى بعض شباب المنطقة، بدعم من منظمة الأمم المتحدة للثقافة "اليونسكو"، إلى تنفيذ عدد من المؤسسات المحلية، فتحوّل المقام من مبنى مهمش مقترن بالأساطير والخرافات إلى "منارة أثرية" للعلم والثقافة.

"لم يعد لطالبي البركة مكان، ولم تعد تُضاء الشموع، وتحولت الخربة إلى موقع أثري، ودبت في المكان ضحكات الأطفال وهم خارجون يحملون الكتب"

تقول ريم أبو جبر المديرة التنفيذية لجمعية نوى للثقافة والفنون: "وراء فكرة تأسيس وترميم مقام الخضر فريق شبابي من منطقة دير البلح. وبعد الاتفاقات مع الفريق قمنا بترميم المكان وتقديم الأموال اللازمة لإعادة تأهليه".

وتضيف أبو جبر لرصيف22: "في البداية عندما تحدثنا إلى أهالي المنطقة عن فكرة تحويل المكان المهجور، أبدوا بعض الريبة لأنها منطقة مهجورة، ومتروكة، وتدور قصص الشعوذة حولها، ولكن عندما شرحنا الفكرة شعروا بالسعادة، وبأن شيئاً سيحدث في المكان يخدم أطفالهم، خصوصاً مع انعدام وجود أماكن ثقافية في دير البلح".

وبلغت تكلفة إعادة ترميم المقام، حسب أبو جبر، حوالى 77 ألف دولار أمريكي، وفّرتها السويد عبر "اليونسكو" بالتعاون مع بلجيكا.

"المقام المهجور جنة المنطقة"

تحول مقام الخضر لملاذ لطلاب الثقافة من أهل دير البلح، خصوصاً مع تدشين أول مكتبة للأطفال، إضافة إلى العديد من البرامج الثقافية والتعليمية، التي تعزز الثقافة والاهتمام بالتراث الفلسطيني.

وحسب أبو جبر، فإن الأهالي بشكل عام، والأطفال خصوصاً بدأوا يستفيدون من خدمات المكتبة التي تم افتتاحها بعد ترميم المقام لتكون منارة للعلم لتشجيعهم على مطالعة آلاف الكتب المنوعة، التي تتناسب مع رغبات الأطفال في غزة.

ويشيد ناجي (13 عاماً) بخدمات المكتبة المنوعة، والتي لا تقتصر على القراءة فقط، بل تتجاوز ذلك للمسابقات الثقافية، والأنشطة الترفيهية، والاستماع للقصص الشعبية عبر الحكواتية، وكذلك الغناء الجماعي للوطن.

أما داليا سعيد (20 عاماً) فتؤكد  في حديث لرصيف22 أنها تتردد على المكتبة منذ سنوات دراستها الإعدادية، مستفيدة من الكتب، وأحياناً تراجع دروسها المدرسية مع صديقاتها في المكتبة، تقول: "فرحنا كتير أول ما عرفنا إنه حيكون في هذا المكان مكتبة، واحنا أصلا لما كنا صغار كنا نخاف نمرق من جنبه لأنه مهجور".

وترى الشابة نيفين عياش (35 عاماً) أن أهم ما بات يميز المقام "أنه لم يعد لطالبي البركة مكان، ولم تعد تُضاء الشموع، وتحولت الخربة إلى موقع أثري، ودبت في المكان ضحكات الأطفال وغناؤهم وهم خارجون يحملون الكتب، بات المكان المهجور جنة المنطقة".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image