أصبح من الصعوبة بمكان في الوقت الحاضر، أن تميز الشخص ذو الأصل البدوي من غيره، الحضري أو الريفي، فلا ملامح ظاهرية تدل على هويته، وهنا يتبادر السؤال المنطقي: هل انقرضت ملامح البداوة في غزة؟ وللإجابة على التساؤل السابق كان لا بد من استطلاع آراء مجموعة من الأشخاص من ذوي الأصل البدوي لمعرفة ما تبقى من البداوة لديهم.
وقديما، عرفت قواميس اللغة البدوي بأنه "من تبدى، أي خرج إلى البادية وأقام فيها، وليست من البدائية".
"عائلات غزة عادت للقبلية"
اختلفت آراء من التقينا بهم في الإجابة على التساؤل السابق، فمنهم من يرى بأن "البداوة لا وجود لها في الحاضر، من حيث كونها نمطاً معيشياً يحمل في داخله شكله الاقتصادي، السياسي والعلاقات الاجتماعية بين الأفراد والجماعات، إلا أن البداوة انتشرت ثقافياً في الحاضر، وهذا ظاهر في العلاقات الاجتماعية، حضور القبائلية وعودة العائلات الحضرية إلى الحالة القبلية"، كما يقول أحمد علي (33 عاماً)، ويعمل مدرس لغة انجليزية.
"البداوة ليست صفة كي تنقرض، لأن البداوة هي أصل، والأصل لا ينقرض، رغم أن جزءاً من الملامح الخارجية قد ذاب، لكن الملامح الداخلية، مثل العادات والتقاليد من الصعب أن تذوب"
ويقول غسان رسمي (45 عاماً)، ناشط اجتماعي، لرصيف22: "البداوة ليست صفة كي تنقرض، لأن البداوة هي أصل، والأصل لا ينقرض رغم أن الملامح الخارجية يمكن أن نقول إن جزءاً كبيراً منها قد ذاب، لكن الملامح الداخلية، مثل العادات والتقاليد من الصعب أن تذوب، ولكن بعضاً منها تغير مع الواقع بشكل خفيف، ليلامس حياة المدينة".
بينما ترى أماني كساب، صحفية من غزة، في حديث لرصيف22، أن "البدو حالياً عملوا على الجمع والتوفيق بين متطلبات العصر الحديث والقيم البدوية الأصيلة، وهذا الأمر واضح من خلال احتفاظهم بتراثهم في أفراحهم، تعزيز التربية البدوية منذ الصغر للأطفال وفخرهم بالانتماء للقبيلة".
"نلجأ للقضاء العرفي"
أما فيما يتعلق بانصهار البداوة في الحياة الحضرية، فقد انتهجت القبائل البدوية نهجين، الأول الاختلاط بالحضر، ولكن في نفس الوقت المحافظة على الإرث البدوي، مع تلاشي وذوبان بعض العادات والتقاليد التي كانت منتهجة لديهم كأسلوب حياة، وهذا ما شدد عليه أحد نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، ربيع سويلم، اسم مستعار (30 عاماً)، صحفي من أصل بدوي، يقول لرصيف22: "الاختلاط بالحضر والتمدن والنسب جعل جزءاً من العادات والتقاليد البدوية مهددة بالتلاشي شيئاً فشيئاً".
ويشرح أشرف أبو رخية (41 عاماً)، مسؤول شؤون العشائر في غزة، لرصيف22 طبيعة التغير الذي طرأ على بدو غزة، قائلاً: "الجغرافيا وتغير البيئة لها دور في حياة البداوة، ولكن تبقى المحافظة عليها قائمة، ففي آخر إحصائية لعدد الإبل في قطاع غزة هناك ما يقارب 500 رأس، ويعتبر أكبر من الموجود داخل حدود الضفة الغربية كلها، وهذا وإن دل على شيء يعتبر مؤشراً على الحفاظ على البداوة وأهم ميزاتها".
ويضيف أبو رخية: "وكذلك نلجأ إلى التقاضي وإلى القضاء العرفي أو البدوي بشكل عام، ففي تقديرنا أنه يفوق اللجوء للقضاء الشرعي أو المدني، خاصة في العقد الأخير".
"خلعنا الثوب البدوي"
يتفق الكثيرون ممن التقينا بهم، على واقع مفاده التمسك ببعض العادات الأساسية في البداوة، وتلاشي عادات أخرى، في هذا السياق يوضح المختار هايل أبو الحصين (37 عاماً)، مختار عشيرة أبو الحصين التابعة لقبيلة الجبارات، وحاصل على بكالوريوس قانون، ونائب رئيس غرفة تجارية في شمال قطاع غزة، لرصيف22 قائلاً: "تم اختياري كمختار للعائلة بعد وفاة أبي، الأمر الذي كان إجبارياً، رغم رفضي لتقلد هذا المنصب من حيث هول المسؤولية".
ويؤكد أبو الحصين أن "أصل القبائل البدوية عدة قبائل، منها الترابين، السواركة، الجبارات، التياهة، الحناجرة، الرميلات والوحيدات، بعضهم يعود في أصله إلى سيناء وبعضهم إلى غزة، ولا فرق بينهم سوى بالأسماء المرتبطة بالمناطق".
وحول العادات التي لا يزال البدوي محافظاً عليها، يقول أبو الحصين، وكان مرتدياً الجلابية العربية البيضاء والغترة الحمراء: "هناك أمور لا زلنا محافظين عليها كملامح بدوية مثل: الكرم والجود والزي الخاص بالبدوي، بالإضافة إلى اللهجة التي تميزنا عن غيرنا من سكان غزة".
"لهجتنا تميزنا عن البقية".
ويضيف أبو الحصين: "من الأمور التي لا زلنا نحافظ عليها وبشدة، الشق البدوي أو ما يعرف بالمقعد، وهو عبارة عن مكان لتلاقي العشيرة، حيث يوجد فيها مجموعة من البكارج الخاصة بالقهوة السادة والنار، فهو مكان يتواجد في كل بيت بدوي للاستقبال".
أما الأمور التي تلاشت، يقول المختار: "كان لدينا مثل يقول: ياخدها التمساح ولا ياخدها الفلاح، في كناية عن رفض مبدأ تزويج البنت البدوية خارج العائلة أو القبيلة، وهو الأمر الذي تلاشى عند الكثير من البدو، ولا زال لدى القليل من القبائل البدوية، بالإضافة إلى تلاشي فكرة بيت الشَعْر الذي كان يسكنه البدو في البادية، كما وأصبح التعليم من حظ البنت حديثاً، بعدما كان من العيب بمكان إرسال البنت للتعليم".
ومن الأمور التي تغيرت أيضاً في عادات البداوة، يقول أبو الحصين، إنه قبل عام 2002 لم يكن في أعراف البداوة أن يقام للعروس البدوية حفل زفاف في الصالة، ولا أن ترتدي البدلة البيضاء بل الثوب البدوي، لكن حالياً الأمر تغير، كما وأنه لم يكن هناك في عقد الزواج ما يسمى "عفش البيت"، ولكنه أصبح شرطاً من العقد مؤخراً، تماشياً مع الأحوال المدنية السائدة.
"انصهرنا في بوتقة المدينة"
وحول الأسباب التي دعت البدو إلى ما سبق من تحول، يعلق حسام أبو ستة، مختص في علم الاجتماع: "البداوة هي نمط حياة، وفي يومنا الحاضر انصهر الجميع، وليس فقط البدو، في بوتقة المدينة، إذ لم يعد مثلاً البدوي يستقبل الضيف لمدة ثلاثة أيام دون أن يسأله عن هويته، وذلك كيلا يعيش البدوي في بيئة منعزلة عن محيطه المدني".
وتتركز التجمعات البدوية في قطاع غزة في مناطق محددة، مثل قرية أم النصر، وتسمى "القرية البدوية"، ومنطقة الفخاري جنوب قطاع غزة، وقرية بنى سهيلا القرى، وجزء من قرية بيت لاهيا وبيت حانون، أما باقي البدو فعاشوا بين الحضر، ولكن بأصول قروية بدوية.
"من يدخل بيت البدوي طلباً للحماية فإنه لا يردّ بخفي حنين، يجب علينا حمايته، بالإضافة إلى فكرة التمسك بالحق لدى البدوي كقيمة وليس كنوع من الأخذ بالثأر، مثل هذه الأشياء خط أحمر"
ويستدرك أبو ستة، وهو من أصل بدوي، قائلاً: "صحيح أننا انصهرنا جميعاً في ثقافة حضرية لكن بقي هناك بعض الخصوصيات التي حافظ عليها البدوي، وبعضها خضع للتغيير، مثل بعض عادات الزواج، فبعض القبائل البدوية أنهت موضوع تزويج البنت داخل نطاق العائلة أو القبيلة، بالإضافة إلى عادات المأكل والملبس، إذ لم يعد يرتبط البدوي بزي البداوة، بل أضحى يلبس الملبس الذي يرتديه أبناء قطاع غزة عامة".
وحول الأسباب التي ساهمت في هذا النوع من الانصهار، يقول أبو ستة: "الظروف السياسية التي أخرجت البدوي من بيئته الصحراوية إلى المدنية ساهمت في تلاشي بعض ملامح البداوة، بالإضافة إلى التعليم الذي ساهم في أن يصبح الجميع يعيشون ذات الطابع، ما صنع منا أفراداً حضريين ولكن من أصول بدوية".
أما حول القيم التي يعتقد أبو ستة أنها "خط أحمر" للبدوي، فهي على سبيل المثال أن من يدخل بيت البدوي طلباً للحماية فإنه لا يردّ "بخفي حنين، إذ يجب على البدوي أن يقوم بحماية هذا الغريب بل والدفاع عنه، بالإضافة إلى فكرة التمسك بالحق لدى البدوي كقيمة وليس كنوع من الأخذ بالثأر".
وأدخل البدو أيضاً إلى غزة جزءاً من ثقافتهم، مثل "الدحية"، يقول أبو شهاب الرواغ، أحد مؤدي "الدحية" في غزة لرصيف22: "هي عبارة عن أغنية كلماتها موزونة، تشبه المناظرة بين شاعرين بدويين، يقومان بارتجال الشعر، وقد خضع هذا النوع من الأغاني البدوية للتطوير، وأصبحت تصل إلى كل بيت غزي، وفي كل مناسبة يتم الاستعانة بها".
وينهي الرواغ حديثه قائلاً: "قديماً كانت الدحية لا يفهمها سوى البدوي، ولكن مؤخراً أضحت مطلباً أساسياً في الأفراح والمناسبات الاجتماعية الغزية، ليس فقط البدوية، بل والحضرية أيضاً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 11 ساعةجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أياممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 6 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.