شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
عن سجن كبير اسمه

عن سجن كبير اسمه "المخيّمات الفلسطينية" في لبنان

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأحد 20 سبتمبر 202011:14 ص

قبل اندلاع الاحتجاجات الشعبية في لبنان، في 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، أي عندما كان الحديث عن انهيار اقتصادي وشيك سابق لأوانه، كان اللاجئون الفلسطينيون في لبنان يتابعون معركتهم الحقوقية الطويلة مع وزارة العمل اللبنانية.

في تموز/ يوليو 2019، خرج الفلسطينيون إلى الشوارع وانتفضوا، قبل اللبنانيين، رفضاً لتفعيل وزير العمل السابق كميل أبو سليمان لخطة "مكافحة العمالة الأجنبية غير الشرعية"، والتي طالت في العلن العمال السوريين، لكنها في ذات الوقت كرّست سياسة التهميش بحقّ الفلسطينيين المحرومين في الأساس من أية حقوق مدنية منذ النكبة.

بيد أن الاحتجاجات لم تحظَ، حينذاك، سوى بدعم معنوي باهت، وبضعة تصريحات مندّدة، في حين استمرّ مفتشو الوزارة في ملاحقة الفلسطينيين الذين لا يملكون إجازات عمل، حتى بات المئات منهم عاطلين عنه.

هذا الوضع كان قائماً قبل انهيار العملة اللبنانية وتدهور الاقتصاد، وقبل ظهور فيروس "كورونا" الذي أسهم لاحقاً، إثر انتشاره السريع، في خنق الفلسطينيين داخل غيتوهات محاصرة أمنياً.

حتى اليوم، لم يُعفَ الفلسطينيون من الخطة التمييزية المذكورة، ولم يقدّم وزير العمل اللاحق في حكومة حسان دياب أية حلول للملف الذي سرعان ما وضعته الأزمة الاقتصادية الطاحنة على الرفّ المخصّص للقضايا التي ترغب السلطات اللبنانية في إبقائها عالقة.

وبطبيعة الحال، كانت للأزمة تداعيات قاسية طالت خصوصاً الفلسطينيين المقيمين في المخيمات الـ12 التي تحوّلت بفعل سنوات طويلة من الإهمال إلى بؤر منسية، لا تصلها أشعة الشمس وتفتقر إلى أدنى مقومات الحياة والخدمات الأساسية.

اليوم، يعيش الفلسطينيون بلا كهرباء. يقفون في طوابير طويلة للحصول على أدوية السكري والأمراض المزمنة بعد انقطاعها. تصلهم المياه مرة واحدة في الأسبوع.

اللجان الشعبية في عدد من المخيمات تحدثت أخيراً عن تراجع تقديمات وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) الصحية والاجتماعية والتربوية، إثر ارتفاع نسبة العجز في موازنتها بنتيجة شحّ تمويل الدول والجهات المانحة. كل هذا وأكثر يحدث في بلاد يُعتبر وضع الفلسطينيين فيها الأسوأ مقارنةً مع الدول العربية الأخرى.

مظاهر الإهمال الطويل

الدخول إلى منطقة برج البراجنة لا يختلف كثيراً عن الدخول إلى مخيّمها، بفعل تشابه بعض الأبنية أو تلاصق أحيائها المتخَمَة بساكنيها. يبدو المخيّم وكأنه خرج من رحم تمديدات الكهرباء العشوائية الممتدة في سماء برج البراجنة، تماماً كما تولد الأطراف الأكثر تهميشاً من رحم ضواحي المدينة المُتهالكة في الأساس.

في أزقة المخيّم تختفي رؤوس عواميد الكهرباء وراء سحابات من الأشرطة السوداء المتشابكة. "على هذا العامود وحده ما لا يقل عن 100 شريط"، يقول اللاجئ نبيل يونس ساخراً من سوريالية الموقف، أو من فداحة المشهد ربّما.

في حيّ الصاعقة، يقودنا نبيل إلى النقطة التي توفي فيها الشاب عمر الأشوح (19 عاماً)، قبل أسبوعين، إثر تعرّضه لصعقة كهربائية. ويروي أهل المنطقة لرصيف22 أن الأشوح كان يساعد أحد المقاولين في تنظيم كابلات الكهرباء في المخيم الذي أٌحصي فيه أكثر من 80 ضحية توفوا صعقاً. أردته الكهرباء قتيلاً هو الآخر.

مشكلة الكهرباء ليست محصورة بمخيّم برج البراجنة، بل تلازم أغلب المخيّمات التي تعيش اليوم بين فكّي تهميش الدولة اللبنانية وتقصير "الأونروا".

في نهاية تموز/ يوليو الماضي، توفي ابن مسؤول اللجنة الأمنية في مخيّم شاتيلا، الواقع على حدود العاصمة بيروت الجنوبية، الشاب فادي فياض (20 عاماً)، خلال محاولته إيصال التيار الكهربائي إلى منزله إثر انقطاعه عن المخيم لأكثر من أسبوع.

"بلّغنا وكالة الأونروا آلاف المرات عن سوء تنظيم الشبكات الكهربائية وتشابكها مع مواسير المياه الحديدية. أرسلوا لنا مرة عاملاً اجتماعياً، تفحّص الكابلات، ألقى بعض الدعابات وسجّل ملاحظات على دفتره. وما عدنا شفنا خلقتو"، يقول أحد الناشطين في مخيّم شاتيلا.

في حيّ الصاعقة، في مخيم برج البراجنة، توفي الشاب عمر الأشوح (19 عاماً)، إثر تعرّضه لصعقة كهربائية. يروي أهل المنطقة أنه كان يساعد أحد المقاولين في تنظيم كابلات الكهرباء في المخيم الذي أٌحصي فيه أكثر من 80 ضحية توفوا صعقاً. أردته الكهرباء قتيلاً هو الآخر

وبرغم موت فادي ومناشدات سكان المخيم والجمعيات الأهلية، "لم تستجب السلطات اللبنانية حتى الآن لمطالبنا" أو ترسل - بالحدّ الأدنى – عاملاً أو تقنياً لإجراء الكشوفات اللازمة.

في النهاية، توقف أهل المخيم عن انتظار الحلول "من أي جهة كانت"، وباتوا يفضلون أن يتسلقوا أعمدة الكهرباء، وأن يخاطروا بحيواتهم، بدلاً من تسوّل خدمات بديهية "كان تنظيمها سيجنّب المخيمات الكثير من المآسي والموت المجاني"، يختم الناشط.

قبل الأزمة ليس كما بعدها

لأعوام طويلة، اعتاد جهاد (37 عاماً) أن يخرج في تمام السابعة صباحاً إلى عمله في منطقة المصيطبة. وبرغم غياب وسائل نقل عام سريع، وأزمات سير يومية لا تنتهي، لم يكن يتململ من طول الرحلة التي تبدأ من مخيّم عين الحلوة (شرق مدينة صيدا) وتنتهي عند موقف الكولا في بيروت. الحياة لم تكن سهلة. لتوفير المصروف، كان جهاد يمشي سيراً من الكولا باتجاه معمل الألمنيوم في المصيطبة، ويوفّر معدته الفارغة لعشاء السادسة مع عائلته.

بعد عام 2018، تبدّل الوضع "من سيئ إلى أسوأ"، وتحديداً عندما قررت السلطات اللبنانية أن تحاصر الفلسطينيين بمزيد من العوائق، وأقامت معابر إلكترونية ثبّتتها عند حواجز الجيش على مداخل المخيّم لتفتيش الخارجين والداخلين منه وإليه.

"أصبحنا مذاك نعيش في أحياء معزولة، يطوّقها جدار إسمتني، وأسلاك شائكة. نحن لسنا محاصرين فقط، بل خاضعون للمراقبة أيضاً في سجن كبير، وهذه البوابات لا تذكّرنا إلا بمعابر الاحتلال"، يقول لرصيف22.

بعد الحصار، صارت الطريق إلى العمل شاقّة: "غالباً ما أصل متأخراً، ومقطوع الأنفاس".

في الأساس، وقبل أي حديث عن انهيار اقتصادي ونقدي، "كان الشغل مش ماشي"، وكانت يومية جهاد لا تتخطى 50 ألف ليرة لبنانية (30 دولاراً تقريباً آنذاك). وهذا المبلغ يُعَدّ إنجازاً في بلد مثل لبنان.

عندما حلّق الدولار عالياً أمام سعر صرف الليرة، بات دخله يساوي أقل من سبعة دولارات في اليوم. والناس توقّفوا عن طلب تركيب الألمنيوم الذي بات مكلفاً للغاية نظراً لأنه مستورد، كأي شيء آخر في هذه البلاد. بات جهاد يداوم يومين فقط في الأسبوع، قبل أن يقفل المعمل أبوابه لشهرين متواصلين جرّاء انتشار فيروس "كورونا" وفرض التعبئة العامة في البلاد.

وكحال أغلب الأسر الفلسطينية التي كانت تعتمد في صمودها، قبل الأزمة، على التحويلات الفلسطينية من المهاجرين، فَقَدَ جهاد، بعد تفاقم الأزمة، خيار تلقي مساعدة بقيمة 100 دولار "كل شهرين" من أخيه الأصغر المهاجر في كندا، بعدما توقفت شركات التحويل المالي الإلكتروني عن تسليم الحوالات بالدولار، واستمرّت بدفع التحويلات بالليرة، ما أفقدها أكثر من نصف قيمتها. عاشت عائلته المؤلفة من زوجة وطفلتين في وضع حرج للغاية.

سياسة التمييز مستمرة

قبل سنوات قليلة، انتقل اللاجئ الفلسطيني فراس الدحويش من مخيّم برج الشمالي في مدينة صور (جنوب لبنان)، حيث وُلد، إلى بيروت بحثاً عن عمل وحياة أفضل خارج حدود الغيتو المنعزل. لكن طموحاته تبدّدت بُعيد انفجار مرفأ بيروت. توفي فراس بعد أيام من الفاجعة متأثراً بجراحه، فأصبح الضحية الفلسطينية الثانية بعد اللاجئ محمد دغيم، الذي قتل على الفور.

أكثر من 61 ألف لاجئ فلسطيني، من أصل 475 ألفاً مسجّلين لدى الأونروا في لبنان، يعيشون في فقر مدقع، و62% منهم يعانون من انعدام الأمن الغذائي. هذه الأرقام لم تسجّل أخيراً، بل في نهاية آذار/ مارس الماضي، أي قبل الانهيار الحاد في سعر صرف الليرة

اللبنانيون لم يتنبهوا إلى أن الضحيتين ولدا وعاشا حياتيهما كاملتين في بلادٍ سلبتهما الحقوق الإنسانية قبل المدنية، ومنعتما من حق التملّك ومن ممارسة أكثر من سبعين مهنة، خُفّضت بعد تعديل قانوني عام 2010 إلى ثلاثين، منها الصيدلة والطب والهندسة.

في النشرات الإخبارية، لم يُشمل الضحايا الفلسطينيون (13 جريحاً) في قائمة تعداد جرحى الانفجار، رغم أن جميعهم يعانون أكثر مما يعاني منه اللبنانيون.

في مقابل هذا الواقع، يرفض الكثير من اللبنانيين أي حديث جدي عن تسوية أوضاع الفلسطينيين في المخيمات تحت ذريعة "مزاحمة اليد العاملة اللبنانية". الخطاب القديم الباهت ذاته. وحين لا تنجح هذه الحجة، يذهبون إلى سردية أخرى أكثر تشويقاً، تنتهي غالباً بتوصيف المخيمات على أنها بؤر إرهابية نائمة.

لا يمكن القول إن جميع اللبنانيين يوافقون على تلك السردية، ولا إن العنصرية المتجذرة في بناء هذا المجتمع نخرت جميع أفراده، لكن الفلسطينيين، وفي معارك حقوقية عدة، بحثوا عن مساندة لبنانية حقيقية ولم يجدوها إلا في بيانات استنكارية. وحين مُنِحوا حقّ العمل، تبيّن أن التعديلات القانونية لم تنصفهم في الأساس وتحوي الكثير من الثغرات، نذكر منها المادة التاسعة من قانون الضمان الاجتماعي، التي قضى تعديلها بأن يدفع صاحب العمل نحو 23% من قيمة الراتب الشهري لكل عامل فلسطيني، لكي يستفيد الأخير من تعويض نهاية الخدمة، من دون أن تشمل صندوقي المرض والأمومة والاستشفاء. ولهذا، بات أصحاب العمل يتهربون من تسجيل العمال الفلسطينيين في الصندوق، في حين يتهرب الفلسطينيون من إتمام إجازات العمل نظراً للشروط التعجيزية التي وضعتها الدولة للحصول عليها.

الأونروا تتهرّب... لا تتهرّب

في تقديرات غير رسمية، يتحدث ناشطون في مخيم نهر البارد (شمال لبنان) عن دخل يومي لمئات الأسر الفلسطينية لا يتجاوز الدولارين حالياً (بين 10 آلاف و15 ألف ليرة لبنانية). ونظراً لهشاشة أوضاعهم في هذا المخيم بالتحديد، كان للأزمة الاقتصادية وقعٌ أشد عليهم مقارنةً مع أوضاع اللاجئين في مخيمات أخرى.

"بعد هبوط الليرة، ارتفعت أسعار السلع أضعاف ما كانت عليه في السابق"، يقول ناشط في اللجنة الشعبية الفلسطينية، مشيراً إلى أن نسبة البطالة ارتفعت كثيراً خصوصاً بعدما صُرف الكثير من العمال المياومين من وظائفهم بسبب إقفال المؤسسات والورش في المناطق المحيطة.

في الإطار نفسه، تشير إحصاءات وكالة الأونروا إلى أن أكثر من 61 ألف لاجئ من أصل 475 ألفاً مسجّلين لديها، يعيشون في فقر مدقع، وأن 38% منهم يعانون من انعدام الأمن الغذائي المتوسط و24% من انعدام الأمن الغذائي الحاد. وما يبدو كارثياً هو أن الأرقام المذكورة لم تسجّل أخيراً، بل رصدت حتى نهاية آذار/ مارس الماضي، أي حين كان سعر صرف الليرة لا يتجاوز الـ3 آلاف مقابل الدولار.

لا تعترف تهاني (31 عاماً) بالإحصاءات التي "لا تصف واقع الفلسطينيين الحقيقي على الأرض". قبل سنوات درست التمريض ولم تحظ بفرصة العمل إلا بعدما أجازت وزارة الصحة اللبنانية، عام 2017، إمكانية حصول اللاجئين الفلسطينيين على إذن مزاولة المهنة في مستشفيات لبنان.

بعد الانتفاضة اللبنانية (انتفاضة تشرين الأول/ أكتوبر 2019) بقليل، صُرفت الممرضة الشابة من عملها في أحد مستشفيات الضاحية الجنوبية لبيروت. قبل الصرف، كانت تشتري أدوية داء السكري لوالدتها من صيدلية المستشفى ومن راتبها الشهري، وبعده، بات عليها الاستفادة مجدداً من تقديمات "الأونروا". وهذا يعني الوقوف ساعات أمام المراكز المتعاقدة مع الوكالة الدولية "لنتسوّل الدواء" الذي اختفى أخيراً من الصيدليات، بعد عودة مسلسل انقطاع أدوية الأمراض المزمنة من الأسواق.

وفق مصدر في "اتحاد لجان حق العودة" في مخيم برج البراجنة، لم يستلم ما يقرب من 45% من المستفيدين من المساعدات النقدية التي علقتها "الأونروا" حوالاتهم النقدية بعد، والتي لا تتجاوز قيمتها 100 ألف ليرة لبنانية للفرد الواحد، أي ما بين 11 و12 دولاراً أميركياً فقط، حسب سعر الصرف الحالي.

وكانت المتحدثة باسم الوكالة في لبنان، هدى السمرا، قد صرحت لوكالة "الأناضول" بأن "مدخول أهالي المخيمات تراجع" إثر "جائحة كورونا وتداعياتها السلبية"، مشيرةً إلى أن "الأونروا" لم تحصل على التمويل المطلوب لمجابهة الجائحة، والذي تقدر قيمته بـ 93 مليون دولار، من دون إحالة واضحة إلى تداعيات الأزمة الاقتصادية.

وحين حاول رصيف22 التقصي حول ما إذا كانت الوكالة قد استحصلت على التمويل اللازم لاستئناف تقديماتها الاجتماعية، لم يتلقَّ من السمرا أي جواب، بعد عدة محاولات للاتصال بها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image