في اليوم الأول لنور في الجامعة الهندية، بعد حصولها على منحة لاستكمال رسالة الدكتوراة، كان عليها أن تبدو في أبهى صورة، أخذت تفكر ماذا سترتدي: الجينز مع سترة بيضاء أو سوداء؟ قررت استشارة صديقتها من بنغلادش، حديثة العهد في الهند مثلها، سألتها باللغة الإنكليزية: "رادا، برأيك أيهما أفضل؟"، تفحصت رادا الثياب، وأشارت إلى السترة البيضاء.
بقي تسريحة شعرها، والمكياج... "يا إلهي علينا أن نسرع".
"أرتدي بلا خوف"
لم يكن الأمر كما اعتادت عليه نور، سورية تبلغ من العمر 25 عاماً، في حمص، على العكس تماماً، بدت مختلفة، بعد ضحكة قصيرة، تقول نور لرصيف22: "عندما وصلت إلى الجامعة بكامل أناقتي، سألتني إحداهن مندهشة باللغة الإنكليزية: لديك حفلة بعد الدرس؟ كان موقفاً محرجاً، عرفت بعدها أن الحياة في الهند مختلفة عن سوريا".
لا يحتاج الذهاب يومياً إلى الجامعة في الهند، التفكير المسبق، مثل الحياة الجامعية التي اختبرتها نور في جامعة "البعث" في حمص، حيث تتساءل دائماً، وهي مضغوطة نفسياً: ماذا سأرتدي؟ كيف سأسرّح شعري؟ ما هو نوع المكياج الذي سأضعه؟ أرتدي سروالاً واسعاً وسترة نصف كم، أرفع شعري على شكل كعكة، أدهن وجهي بكريم واقي شمسي فقط.
تشرح نور الفروقات التي عاشتها بين الهند وسوريا: "كان همي الأول في سوريا ماذا سأرتدي كل يوم، لأن الناس تهتم بالشكل الخارجي، تتنمّر حتى على لون طلاء الأظافر، أما في الهند وبعد قدومي لدراسة الدكتوراة في هندسة المعلوماتية منذ نحو عامين، تعرّفت على ذاتي فعلاً".
"أجمل تجاربي التخلّي عن حمّالة الصدر، أخرج بلا سوتيان لأنها تزعجني عند رضاعة ابنتي ماري بكل بساطة، والأجمل أنني استطيع أن أرضعها في أي مكان، في الشارع أو في الباص أو في المطعم، دون أن يستاء أحد"
"أجمل ما عشته هو شعوري الإيجابي تجاه نفسي، أستطيع الخروج إلى الشارع على طبيعتي دون الخوف من الانتقادات التي ستطال لباسي، لون شعري، نوع حذائي أو شحوب وجهي".
تسكن نور في مدينة وارنغال التابعة لولاية "تيلانجايا" الهندية، تركب دراجتها الهوائية لشراء الخضار والفواكه من السوبرماركت القريب، مرتدية الكورتا، ترى أن الكورتا لباس مريح.
تقول نور: "الكورتا عبارة عن قميص طويل إلى الركبة، غالباً يكون بلون واحد، مع سروال ضيق أو واسع. الجميع هنا يرتدي الكورتا، الأمر بسيط جداً، ولا يحتاج لساعات من التزيّن والغوص في خزانة الملابس، إلا في الحفلات، الجميع يرتدون الساري وأنا منهم".
حلمت نور بارتداء ما تحب، تحقق ذلك في الهند، ارتدت قميصاً يُظهر البطن، في سوريا يصعب على الفتاة الخروج إلى الشارع مكشوفة البطن، أما في الهند فلباس "الساري" التقليدي يسمح للفتاة بإظهار بطنها، والسير في الشارع بمنتهى الحرية".
"لا يربطون بين جسدي والشرف"
تعيش هبة (25 عاماً)، في مدينة "ريو دي جانيرو" في البرازيل، مع زوجها وأولادها الأربعة، جاؤوا من مدينة جبلة الساحلية في سوريا في العام 2016، يعمل زوجها مهندساً مدنياً في إحدى الشركات، بينما تنشغل هبة بتربية أطفالها، خاصة طفلتها الرضيعة ماري، التي أنجبتها في البرازيل.
"ريو دي جانيرو المدينة التي تعلّمت فيها معنى الحرية، عندما عشت لأول مرة مع شعب لا يربط بين جسد المرأة وشرفها، ارتديت ما يناسبني من فساتين واسعة قصيرة أو طويلة مريحة لجسدي، لم أكن مضطرة لرتداء الجينز في ذروة الصيف لإرضاء المجتمع".
تحكي هبه عن واقعة تتذكرها دائماً، تقول لرصيف22: "أذكر مرة في بداية قدومي، سألتني صديقة برازيلية: لماذا ترتدين هذا الجينز الضيق وأنت حامل والحرارة مرتفعة؟ بدأت تشدني من سروالي، تطلب مني أن أرتدي فستان مريحاً للحوامل".
"تخلصت من السوتيان"
"أجمل تجاربي التخلّي عن حمّالة الصدر "السوتيان"، أخرج بلا سوتيان لأنها تزعجني عند رضاعة ابنتي ماري بكل بساطة، والأجمل أنني استطيع أن أرضعها في أي مكان، في الشارع أو في الباص أو في المطعم، دون أن يستاء أحد".
تعود هبه بذاكرتها إلى منزل جدها في ريف جبلة، تقول: "كنت عندما أرضع ابني يوسف، أضع غطاء فوق صدري لأحجب الرؤية عن الموجودين، رغم ذلك كان جدي يرمقني بنظرة لوم وكأنه يقول لي: ادخلي رضعي ابنك بالغرفة، وأنا أتصبب عرقاً من الحر والملابس الضيقة والغطاء الذي يزعجني ويزعج ابني".
"في ريو دي جانيرو لا أحد يهتم بحذائك، نوعه أو لونه أو سعره، يمكنك أن ترتدي الشبشب وتذهب به إلى المطار، السوبرماركت أو الحديقة، هذه التجارب الرائعة لا يمكن أن تعيشها في سوريا، لأن خروج المرأة بالشبشب إلى الجامعة مثلاً أو الحديقة سيعرّضها لسيل من التنمّر"، تنهي هبة حديثها.
"نصف عارية في الحديقة"
"الشعوب الأوروبية تعشق الشمس، تنتظر يوماً مشمساً لتخلع ملابسها وتخرج إلى الحدائق بلباس البحر، وتعرّض جسدها لأشعة الشمس، خاصة النساء في فرانكفورت الألمانية: يوم مشمس يعني الاسترخاء نصف عارية على الأعشاب في الحديقة".
هكذا بدأت مريم مراد، 33 عاماُ تعمل في البنوك من محافظة دير الزور، حديثها لرصيف22، وتضيف: "منذ قدومي مع عائلتي إلى ألمانيا في العام 2014، بدأت أشعر بالاختلاف. أذكر مرة قالت لي زميلتي في البنك حيث أعمل: لماذا لا نخرج اليوم ونجلس في الحديقة تحت أشعة الشمس؟ كان طلباً محرجاً، الحقيقة لم أجرؤ على فعلها، اعتدت على لباس البحر على الشاطئ فقط في سوريا".
"تخيلت منظري وأنا أجلس بلباس البحر في إحدى حدائق سوريا مثلاً"، تضحك مرام ضحكة طويلة، وتقول: "الأمر لن يمر بسلام... على عكس ألمانيا التي تفرض قوانين صارمة ضد التحرش، هذا ما شجعني على ارتداء الفساتين والشورتات والألوان الزاهية التي حرمت منها في سوريا عموماً وفي دير الزور خصوصاً".
تستذكر مريم الصيف في سوريا، وسراويل الجينز التي تلتصق بجسدها وتزيد الحر سوءاً، القيود الصارمة المفروضة على لباس المرأة، جميعها اختفت في ألمانيا، تقول: "الأهم راحة الشخص، سواء ارتدى جينزاً أو فستان أو حتى تنورة طويلة".
ترى مريم أن أجمل شعور اكتسبته في ألمانيا هو الخروج بفستان أو تنورة دون خوف، لأن القانون فوق الجميع، أما في سوريا، حتى عندما كانت تتجرأ وترتدي فستان أثناء سفرها إلى دمشق أو اللاذقية، كان الخوف والقلق يلازمانها من المتحرشين الذين من الممكن أن تصادفهم في الشارع دون أن يحاسبهم أحد.
قوانين قاسية
على عكس مريم وهبة ونور، تنطلق خولة، 34 عاماً، منذ الصباح الباكر إلى عملها، عليها أن تختار البضاعة التي ستشتريها، ترتدي ما تحبه، غير مبالية بنظرات الناس.
تعمل خولة في مجال تصميم الحقائب النسائية في مدينة اللاذقية، عانت في بداية حياتها من وزنها الزائد وبشرتها ناصعة البياض، ما عرضها للكثير من المضايقات من مجتمع الذكور، ولكن جاءت المضايقات بنتيجة عكسية لخولة.
تغيّر نمط لباس خولة بعد الثلاثين من العمر، تقول لرصيف22: "لم أعد أهتم لنظرتهم وكلامهم، أرتدي ما يريحني فقط، سواء تنورة أو فستان أو سروالاً واسعاً أو ضيقاً يساعدني على الاستمرار في العمل حتى نهاية اليوم، أكثر ما يريحني شورت طوله إلى الركبة، يعجبني ذلك وعائلتي تدعمني".
"أرتدي ما يريحني فقط".
ترى خولة أن المرأة في سوريا كمعظم المجتمعات الشرقية محكومة بقوانين قاسية، تساهم النساء أحياناً في فرضها على نفسها. تستذكر أيام مراهقتها عندما بدأ صدرها ينمو، كانت تشعر بالخجل منه، تحاول إخفاءه بسترات واسعة، إلى أن دعمتها والدتها واحتوت خجلها.
ترنّ جملة كانت والدة خولة ترددها على مسامعها دائماً: "عليكِ أن تفخري بجسدك يا ابنتي... السوتيان أمر طبيعي سيصبح جزءاً من حياتك قريباً".
"لا ترتدوا الجينز السكيني"
نوع الزي الذي يفرضه العرف والعادة على أزياء النساء، الكثير منها ينتج آثاراً سيئة صحياً وجمالياً على الجسد.
تنصح الدكتور رنا شعبان زريق، الأخصائية بالأمراض الجلدية والتناسلية، النساء بارتداء الفساتين القطنية الفضفاضة خلال فصل الصيف، لأنها الحل السليم للحماية من الفطور والحساسية الجلدية، والابتعاد عن السراويل الضيقة التي يدخل المطاط أو الجينز في صناعتها.
تشرح الدكتور زريق ذلك لرصيف22: "خلال فصل الصيف الحالي، معظم الحالات التي ترد إلى العيادة هي لنساء يعانين من الفطور الجلدية الناتجة عن ارتداء الجينز الضيق القاسي، الذي يسبب بدوره الاحتباس والتعرق الزائد وينتج عنه هذه الأمراض".
"عشت لأول مرة مع شعب لا يربط بين جسد المرأة وشرفها، ارتديت ما يناسبني من فساتين واسعة قصيرة أو طويلة مريحة لجسدي، لم أكن مجبرة على ارتداء الجينز في ذروة الصيف لإرضاء المجتمع"
كما تؤكد الدكتورة زريق ضرورة التعرّض لأشعة الشمس قبل الساعة العاشرة صباحاً وبعد الثانية ظهراً، لتجنب نقص فيتامين "د" الذي يحتاجه الجسم، ويمكن الحصول عليه عن طريق أشعة الشمس. لذلك ننصح النساء المحجبات بالتعرض للشمس، وفي حال عدم قدرتهن على ذلك، تعويض نقص فيتامين "د" عن طريق الطعام.
وقد حذرت دراسة بريطانية حديثة نشرت بداية العام 2020 في دورية الأعصاب وجراحتها والطب النفسي،Journal of Neurology Neurosurgery and Psychiatry من خطورة ارتداء الجينز الضيق "السكيني" Skinny jeans على صحة المرأة.
وأوضحت الدراسة أن الجينز الضيق يتسبب بإصابة المرأة بما يسمى "متلازمة الحيز المقصورة" Compartment syndrome أي زيادة الضغط داخل حَيِّز في الجسم يحتوي على العضلات والأعصاب، ما يؤدي إلى تدهور سريان الدم، وغالباً ما تحدث هذه المتلازمة في الساق أو الذراع، مسببة الإصابة بتورمات وخدر.
كما يزيد ارتداء الجينز السكيني من احتمال الإصابة بداء السيلوليت Cellulite، أي ظهور نتوءات على جلد الفخذ تشبه قشرة البرتقال، ذلك بسبب تدهور سريان الدم الناجم عن الضغط الذي يمارسه السروال على الجلد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...