"تجاوزتُ الـ 50 من العمر، لاحقتني الأحكام المسبقة، وُصفتُ بالمرأة التي تدخل 'سن اليأس'، جاءت اليوغا لتكسر كل هذه القواعد، وتشعرني أني خُلقت من جديد".
تصف وفاء إدريس، مشاعرها لرصيف22، بلغة شاعرية قائلة: "كل ما كان ضائع في داخلي أخرجته اليوغا، وجدت فيها كل ما أبحث عنه، ربما كل ما يبحث عنه أي إنسان، الاستقرار النفسي والأمان، إنها مهارة التعامل مع مشكلات الحياة".
"رميتُ كل المعاناة"
تعرّضت وفاء للكثير من الانتقادات والتنمّر، عندما بدأت ممارسة رياضة اليوغا بعمر 47 عاماً في مدينتها الساحلية طرطوس في سوريا، تقول: "كنت أسمع تعليقاتهم: شو بدك بتعب القلب بعد هالعمر!، حصلتي على زوج وأطفال ووظيفة ألا يكفي؟ لماذا هذه الرياضة؟ لكن اليوغا ذاتها علّمتني كيف أكون إيجابية".
تشرح وفاء التغيرات التي طرأت على مشاعرها وأنشطتها بعد ممارسة اليوغا، تقول: "انخفضت ساعات عزلتي، واختلفت طريقتي في التعامل مع المشاكل، أصبحت أكثر مرونة، ورميت عن عاتقي كل ما يسبب المعاناة، كل من حولي شعر بالفرق، وبدأت ألحظ الإعجاب في نظراتهم".
نقلت وفاء تجربتها في ممارسة رياضة اليوغا للأطفال، وعلّمتهم في الروضة التي تعمل بها بعض التمارين، تقول: "كانت تجربة رائعة، أتمنى لو تُدرج اليوغا ضمن النظامي التعليمي في سوريا".
"كنت أسمع تعليقاتهم: شو بدك بتعب القلب بعد هالعمر!، حصلتي على زوج وأطفال ووظيفة ألا يكفي؟ لماذا هذه الرياضة؟ لكن اليوغا ذاتها علّمتني كيف أكون إيجابية"
أما لاما ليلى، سيدة بلغت الـ55 من عمرها، تسكن في مدينة حمص، تعرّضت هي الأخرى للكثير من الانتقادات عندما بدأت بممارسة رياضة اليوغا، تقول لرصيف22: "المجتمع لا يقبل أي جديد يمكن أن يكسر الصورة النمطية للمرأة، يجدون أن المرأة بعد سن الـ50، الأفضل لها التزام المنزل والاهتمام بالأبناء والأحفاد".
تحكي لاما قصتها: "قبل أن أبدأ بممارسة اليوغا، أي قبل ثلاث سنوات، كنت أواظب على تناول الأدوية النفسية، كانت الحل الوحيد لأرملة مثلي تعاني غياب ابنها المخطوف منذ 8 سنوات".
"استطاعت اليوغا أن تجعلني أتوقف عن تناول أدوية الاكتئاب، كان تفكيري بابني وهل هو على قيد الحياة من أقسى التجارب التي يمكن لأم أن تعيشها، بعد ممارسة رياضة اليوغا بدأ البركان بداخلي يخمد تدريجياً"، تقول لاما.
وتتساءل لاما: ألا يكفي هذا لأترفّع عن كل الانتقادات؟ هل هؤلاء الذين ينتقدون المرأة عندما تحاول أن تخصص وقتاً لنفسها، ألا يدركون حجم الألم والمعاناة التي تعيشها؟
نقطة تحوّل
تصف مهدية مهروسة، من مدينة جبلة (74 عاماً)، ممارستها لرياضة اليوغا منذ 11 عاماً بأنها "نقطة تحول".
مهدية تعيش نمط حياة عصري، يرفضه غالباً مجتمعها، فهي رغم تقدمها في السن، ما زالت ترتدي الجينز والألوان الزاهية، وتمارس رياضة اليوغا.
تقول مهدية: "بدأتُ ممارسة رياضة اليوغا بعمر 63 عاماً، أي بعد ثلاث سنوات من التقاعد الوظيفي، كان الهجوم المجتمعي على ذلك واضحاً، لكن ليس بشكل مباشر، إنما بالنظرات والتعليقات التي أصفها بأنها فارغة، كل من انتقد لا يعرف شيئاً عن اليوغا".
عن مزايا اليوغا، تقول مهدية إن اليوغا صقلت مشاعر كانت بداخلها، مثل المحبة، الخدمة، العطاء غير المشروط والإحساس بالآخر.
وترى مهدية أن كل إنسان لديه ما يسمى بـ"الأنا"، حب الظهور واكتساب اهتمام الناس بإنجازاته ونجاحه، وهي نفسها عاشت حالة مرتفعة من "الأنا" قبل ممارسة اليوغا، لكنها الآن اختلفت، تقول: "صغرت الأنا عندي بشكل واضح".
مهدية التقت صديقها بعد انقطاع لسنوات طويلة، وقال لها أنت اليوم أجمل مما كنت عليه قبل 25 عاماً، وتضيف: "اليوغا رياضة الجسد والعقل والروح، اليوم لا أحد يصدق أنني تجاوزت الـ 70 من العمر، لا أعاني من أي مرض، لا أتناول أي دواء".
يوغا في حماة
بعد أن حصلت على شهادة مدرّبة درجة ثانية من دمشق، تستعد السيدة ميليا الحسن، لنقل تجربتها مع اليوغا إلى مجتمعها في ريف حماة، ستفتتح أول مركز لتدريب اليوغا في منطقة سلحب.
ميليا أم لأربع فتيات وصبي واحد، وجدة لأربعة أحفاد، بدأت ممارسة رياضة اليوغا منذ نحو أربع سنوات، وجدت أن ذاتها كانت مُبرمجة على كل ما تدعو إليه اليوغا دون أن تعلم.
تقول ميليا لرصيف22: "ترتبط المرأة في المجتمع العربي بعائلتها، وتفكر ليس فقط بهموم أولادها بل أيضاً أحفادها، واجهت العديد من المشكلات، كانت الأفكار تتزاحم في رأسي، رغم معرفتي السابقة أنني لا أستطيع أن أفعل شيئاً تجاه مشكلة ابني الذي تأخر ليرزق بأطفال، وابنتي التي تعمل خارج سوريا".
وتكمل: "علمتني اليوغا كيف أكون هادئة، خلصني التأمل من الأفكار السلبية، سلّمت أولادي للكارما، استرخيت وتوقفت عن التفكير، كانت الكارما كريمة معي، أجمل خبر سمعته بعد أن توقفت عن التفكير أن ابني سيصبح أباً".
تعود ميليا بذكرياتها إلى أيام زمان، وتقول: "عملت خيّاطة لسنوات طويلة، أخذت الخياطة من عمري ما يكفي، لكن الآن أصبحت مؤمنة بفكرة الاهتمام بنفسي وأن أفعل شيئاً أحبه، لم أجد أجمل من اليوغا، أما الانتقادات فهي ليست ضمن مساري الطاقي الإيجابي".
"جسدي عاد إليّ"
سلام خيربك، يعمل مدرّباً لليوغا في مدينة اللاذقية، هو أيضاً مترجم للعديد من الكتب الفلسفية من اللغة الإنكليزية إلى العربية، لاحظ في الآونة الأخيرة تزايد إقبال السيدات المعمرات على ممارسة اليوغا.
يشرح المدرب سلام خيربك لرصيف22، الفوارق التي بدأت بالظهور على النساء المسنات اللواتي بدأن بممارسة رياضة اليوغا في مركز "نفس لليوغا والطاقة" في اللاذقية، قائلاً: "الإحساس الأول الذي يبدأ بالظهور لدى النساء اللواتي تجاوزن الـ50 من العمر ويمارسن اليوغا، هو أن جسدهن عاد إليهن من جديد، يبدأ الشعور بالكهولة بالاختفاء تدريجياً ليحل محله شعور بالطاقة والحيوية وتحسن المزاج".
وعلى المستوى النفسي أيضاً يشعرن بالسلام الداخلي والتصالح مع الذات، ويختفي تماماً هاجس الخوف من الزمن والتقدم في العمر.
يشير سلام إلى أن معظم النساء المسنات اللواتي دربهن أخبرنه أن اليوغا أجمل تجربة في حياتهن، لأنها بمثابة تخفيف مطلق لمعاناتهن بشتى مجالاتها، تضميد لجراحهن، إعطاء معنى لحياتهن وإزالة الشعور الذي يكرسه المجتمع أنهن بهذا العمر أصبحن بلا جدوى أو معنى، على العكس تماماً، اليوغا ملأت حياتهن بالمعاني والطاقات الإيجابية المتدفقة.
"المجتمع لا يقبل أي جديد يمكن أن يكسر الصورة النمطية للمرأة، يجدون أن المرأة بعد سن الـ50، الأفضل لها التزام المنزل والاهتمام بالأبناء والأحفاد"
كما أنها أفضل رياضة عقلية للسيدات المعمرات، بحسب سلام، فالمرأة في عمر الثلاثين تملأ وقتها بالعمل والرحلات والموضة، والشاب يمارس مختلف أنواع الرياضات، كالركض ورفع الأثقال وغيرها، أما للمرأة المسنة فاليوغا هي أجمل رياضة، لأنها تمنحها الرضا وتبعد عنها الوحدة وتشعرها أنه مازال لوجودها معنى، بحسب آراء العديد من النساء المسنات اللواتي يتواصلن مع سلام، ويشرحن له التغيرات الإيجابية التي طرأت عليهن بعد ممارسة اليوغا.
يحكي سلام قصة اليوغا بأنها تعود كفكر إلى بلاد الهند، الذي حفظ هذا التراث بشكل محدد، وأقدم الآثار الكتابية التي ذكرت فيها كلمة اليوغا تعود لـ 2000 عام قبل الميلاد.
كانت اليوغا محاولة للتفكير بطرق مختلفة لتخليص الإنسان من معاناته، حالات التعب والشقاء وإحساس الإنسان بالاغتراب، كونه جزءاً من هذا العالم الضخم، طرحت اليوغا مفاتيح مهمة لتخليص الانسان من معاناته، قالت إن مفتاح المعاناة الأول موجود في داخلك ليس في الواقع الخارجي، بحسب سلام.
ويحتفل العالم في 21 يونيو من كل عام باليوم العالمي لليوغا، ويؤمن ملايين الناس ممن يمارسون رياضة اليوغا، أن أي عمل خيراً كان أم شراً، تترتب عليه عواقب تنمو على شكل ثمار، وبمجرد أن تنضج تسقط على صاحبها، وهذا ما يسمونه "الكارما".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...