شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"جسمي مليء بالندوب وأحتاج إلى ترميم نفسيتي"... قصص ناجين من انفجار بيروت

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

السبت 12 سبتمبر 202010:01 ص

"لم أعلم من أين أتيت بكل هذه القوة. يومها، خرجت من منزلي المدمّر وسرت حافية القدمين فوق الحطام والزجاج المتناثر في كل مكان، جسدي ينزف بأكمله، لكنني كنت قوية ولم أكن خائفة. تحدّيت الموت وناضلت كي أعيش".

هذا ما تقوله سارين (31 عاماً)، الناجية من انفجار مرفأ بيروت الذي خلّف نحو 200 قتيل وأكثر من ستة آلاف إصابة ودمّر أحياء واسعة من العاصمة اللبنانية.

كانت الشابة قد أنهت عملها ووصلت إلى منزلها في الجميزة، مقابل المرفأ، قبل حوالي خمس دقائق من وقوع الانفجار الناجم عن أطنان من الأمونيوم المخزّنة في المرفأ، والتي لا يعرف أحد حتى الآن لماذا بقيت هناك لأكثر من سبع سنوات.

تروي سارين لرصيف22 كيف سارت لوقت طويل قبل أن تجد شاباً أوصلها إلى مستشفى "أوتيل ديو" على دراجته النارية، وتقول: "لا أذكر تفاصيل كثيرة. ما أذكره أنني شعرت بهدوء وصمت حتى أنني لم أسمع استغاثات الناس ولم أرَ الموتى، كان قراري الوحيد أن أصمد كي لا أموت. عندما خرجت من غرفة العمليات قال الأطباء إنه كان يمكن أن أنزف حتى الموت، لكنّي فتاة تحب الحياة، لا أريد أن أموت".

بعد وصولها إلى المستشفى، أرسلت سارين رسالة نصية إلى والدتها من هاتف إحدى السيدات المتواجدات في المكان، قبل أن تفقد الوعي. "كان وضعي دقيقاً للغاية. أدخلوني فوراً إلى غرفة العمليات. كانت خاصرتي منشطرة إلى قسمين وكتفي ممزق. كنت أنزف من كل مكان، لكنّي أنقذت نفسي بنفسي. جسمي الآن مليء بالندوب وأحتاج إلى ترميم نفسيتي واستعادة قوتي مرة أخرى".

"فيلم رعب"

قصة سارين، بتفاصيلها المحكية، تشبه ربما قصص ناجين كثر من انفجار المرفأ، ولو اختلفت الروايات. الجميع عاش لحظة الانفجار ونكبته وشهد على حجم الدمار الهائل. معظمهم كانوا على مقربة من جثث الموتى وسمعوا صرخات الاستغاثة ورأوا ملامح الخوف والصدمة والوهن على جنبات الطرقات.

سارة حوماني (29 عاماً) لم تكن تعلم حين غادرت عملها في الكرنتينا، مساء الرابع من آب/ أغسطس، أنها تسير غير مدركة على حافة هاوية. "كنت قد وصلت إلى الأوتوستراد المحاذي للمرفأ. اعتقدت أنني أسمع صوت مفرقعات. خرجت من السيارة لأتفقد عجلات سيارتي. ألقيت نظرة سريعة عليها قبل أن يحملني عصف الانفجار ويرميني بعيداً"، تقول لرصيف22.

"شعرت بهدوء وصمت حتى أنني لم أسمع استغاثات الناس ولم أرَ الموتى، كان قراري الوحيد أن أصمد كي لا أموت. عندما خرجت من غرفة العمليات قال الأطباء إنه كان يمكن أن أنزف حتى الموت، لكنّي فتاة تحب الحياة، لا أريد أن أموت"

وتضيف: "رأيت الناس ينزفون دماً. وددت لو أسعف غيري، قبل أن ألقي نظرة على نفسي وأكتشف أنني مصابة أيضاً. نقلني أحد الشباب على دراجته النارية، لتبدأ رحلة البحث عن مستشفى تضمّد جروحي، ووصلت إلى أقرب مستشفى خارج بيروت المنكوبة".

لم يخطر على بال سارة لحظة وقوع الانفجار أنّ ما عاشته ناتج عن تخزين أطنان أمونيوم في المرفأ. "ظننت للوهلة الأولى أننا تعرّضنا لضربة إسرائيلية، وقلت: الموت آتٍ لا محال، وبقيت للحظات انتظر الضربة الثانية".

بعد مرور حوالي شهر، تتابع سارة، "بتّ أجزم أنها كانت أسوأ تجربة عشتها في حياتي. تبعاتها ترافقني في نومي ويقظتي. حادثة تفجير المرفأ لن تغادرنا. هي أشبه بفيلم رعب. نحتاج إلى وقت طويل كي نتعافى منه".

من جحيم سوريا إلى جحيم بيروت

كثيرون من السوريين الذين هربوا من الحرب الدائرة في بلادهم إلى لبنان، ظانّين أنهم يُبعدون نفسهم عن خطر الموت، وجدوا أنفسهم في عاصفة الموت المنبعثة من مرفأ بيروت. فقد كثيرون منهم حياتهم فيما نجى آخرون.

هبة بابللي (30 عاماً)، قدمت إلى لبنان من حلب عام 2015. كانت تعمل في إحدى صالات فساتين الأعراس في وسط بيروت، وكانت متواجدة في عملها أثناء حدوث الانفجار.

تروي لرصيف22 أنها كانت تصوّر مقطع فيديو للحريق الذي اندلع في المرفأ، قبل أن يرميها الانفجار أرضاً.

تقول: "لا أذكر لحظة وقوع الانفجار، وكأنها لحظة ممحية من ذاكرتي، عشت تجربة الحرب في سوريا لكنها مختلفة تماماً. هناك يمكن أن يدمّر صاروخ أحد المباني أو أن تصيب قذيفة إحدى السيارات، لكن هنا رأيت الناس ممتلئة بالدماء والجثث مرمية في كل مكان، حتى أنّ معالم المدينة تبدّلت وتشوهت".

"كانت أسوأ تجربة عشتها في حياتي. تبعاتها ترافقني في نومي ويقظتي. حادثة تفجير المرفأ لن تغادرنا. هي أشبه بفيلم رعب. نحتاج إلى وقت طويل كي نتعافى منه"

هبة التي أصيبت بشظايا زجاج، خضعت لثلاث عمليات جراحية في الرأس والعنق وصارت تعاني من شلل نصفي في الوجه. تقول: "كنت قوية كفاية لأنقذ نفسي من تحت الركام. أريد اليوم أن أتعافى وأنسى وأكمل حياتي".

محمود الكنو (26 عاماً) أمضى الليل يبحث بين الركام ويتنقل بين المستشفيات بحثاً عن والديه، ويقول لرصيف22: "دخلت برادات المشافي أبحث عن والديّ، كان المشهد مبكياً، الجميع منهك ومصدوم".

عند ساعات الصباح الأولى، تمكن من إيجاد والده الذي أصيب بكسر في الجمجمة ولم يعد قادراً على الرؤية جيداً، ووالدته التي تعرّضت لكسور في ظهرها وإحدى ساقيها، فيما أصيبت شقيقته هدى (11 عاماً) أيضاً، وتوفّيت شقيقته سيدرا (16 عاماً) متأثرة بجراحها.

كانت العائلة السورية المكوّنة من سبعة أفراد تقطن على مقربة من المرفأ، في منطقة المدور. تحوّل بيتهم إلى ركام.

يقول محمود: "تفاقمت معاناة أهلي نفسياً وصحياً. تراجع وضعهم الصحي، ووضعنا المادي يمنعنا من تلقي العلاج المطلوب"، ويضيف: "لا يمكن وصف ما حصل في ذلك اليوم. هو أكبر من أي توصيف. خسرنا شقيقتنا، ولا نعلم إن كنّا سنشفى من هذا الكابوس".

جميعنا مصابون

هذه ليست سوى عيّنة صغيرة من قصص الناجين. تتشابه التفاصيل أو تختلف، إلا أن النتيجة واحدة: آثار الانفجار حفرت عميقاً فيهم.

هول الصدمة لا يزال يخيّم على أكثرهم. مشهد الخوف والموت والدمار سيرافقهم، وكذلك سيرافق كل شخص كان متواجداً في بيروت، وربما في كل لبنان، لا سيّما في الأحياء المجاورة للمرفأ. ما شهده اللبنانيون في ذلك اليوم كان كابوساً مؤلماً وكئيباً.

يقول علي (27 عاماً)، الذي صودف تواجده في منزل أحد أصدقائه في منطقة مار مخايل أثناء وقوع الانفجار: "لم أصب بأذى جسدي. عندما وقع الانفجار، خرجت إلى الشوارع المنكوبة. كان أكتر مشهد مؤذٍ نفسياً رؤية الدمار والخوف على وجوه الناس".

ويضيف: "أكاد أجزم أننا لن نتمكن من الخروج من هذه الحادثة. أحياناً أتذكر صوت الانفجار وأبدأ بالصراخ. للأسف، عدا آثاره النفسية الآنية، ستكون آثاره أكبر على المدى البعيد، لأننا بدأنا التفكير بالحياة والموت وفقدنا الإحساس بالأمان".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard