في دقائق معدودة تحول مشهد بيروت الآمن رغم حذره، إلى مشهد مرعب للغاية. لم يكن أحد متهيئاً لاستقبال الانفجار، فبيروت التي تعاني من تفشي فيروس كوفيد 19، ومن أزمة اقتصادية خانقة مترافقة مع شح في الخدمات المعيشية، ومخاوف من حرب محتملة على الحدود الجنوبية للبلاد، عدا عن حالة الترقّب لنتيجة المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس رفيق الحريري التي كانت ستصدر خلال أيام معدودة، لم تعد قادرة على تحمل أي أزمة إضافية، فكيف هو الحال مع انفجار قُدّر قطره بـ 8 كم حدث بشكل مفاجئ؟
لم تعد بيروت قادرة على تحمل أي أزمة إضافية، فكيف هو الحال مع انفجار قُدّر قطره بـ 8 كم حدث بشكل مفاجئ؟
أهالي الأشرفية الملاصقة للمرفأ، بسكانها اللبنانيين الذين يعدّون أنفسهم خبراء في التعامل مع الحروب، كون الأشرفية كانت أحد مراكز الحرب الأهلية اللبنانية لعقود، وسكانها السوريين الهاربين من الحرب السورية التي لم تنته بعد، لم يكونوا جاهزين لهذه الصدمة. الصدمة التي حدثت في لحظات، ولم تترك لأحد ولا أي لحظة مسبقة للتهيّؤ والاستعداد. صوت مدوّ أوّل، يتجه الناس بعده إلى الشرفات لمعرفة السبب، فيدوي الانفجار الثاني رامياً بقوته أجساد الناس المثقلين بالأزمات، وممتلكاتهم المجنية بشق الأنفس. يخرج السكان هلعين بدمائهم وجراحهم إلى الشوارع، يسألون بعضهم البعض: ما الذي حدث؟ هل قصفت إسرائيل البلاد، هل هي سيارة مفخخة، أم زلزال مدمّر؟ لقد كان همهم الوحيد حينها معرفة السبب وليس ما حلّ بهم. لم يخطر ببال أحد أن يكون ما حصل، كما تم إعلانه لاحقاً، ناتجاً عن انفجار شحنة من نترات الأمونيوم قُدّرت بنحو 2750 طناً موجودة منذ 6 سنوات في أحد مستودعات مرفأ بيروت، من دون أية إجراءات وقائية من قبل دولتهم التي ثاروا عليها منذ تشرين الأول 2019 ولغاية اليوم.
صرخات المسنين تتعالى من البيوت، العاملات المنزليات هلعات لا يعرفن ما الذي يتوجب عليهنّ فعله بمسؤولية الأطفال والبيوت التي تركت بين أيديهنّ، الكلاب تركض هاربة من البيوت، وأصحابها يركضون خلفها. الجميع في حالة هلع، السكان بمختلف جنسياتهم وأعمارهم وأجناسهم، الحيوانات والأشجار وحتى البنى التحتية، كلهم متساوون بالضرر، فلا مساحة للتمييز في لحظة الفاجعة.
يخرج السكان هلعين بدمائهم وجراحهم إلى الشوارع، يسألون بعضهم البعض: ما الذي حدث؟ هل قصفت إسرائيل البلاد، هل هي سيارة مفخخة، أم زلزال مدمّر؟ لقد كان همهم الوحيد حينها معرفة السبب وليس ما حلّ بهم
السبب عرف بعد دقائق، الأنفاس ما قبل الأخيرة، أو ربّما الأخيرة، بالكاد قد لُفظت، ويبدأ الناس باكتشاف جراحهم ويتوجّهون لمداواتها، ولكن لا مكان لذلك، فمشافي الأشرفية التخصصية قد تضرّرت أيضاً وخرجت عن الخدمة، والطرقات لخارج الأشرفية معبّدة بشظايا الزجاج، عدا عن السيّارات والدرّاجات المدمّرة.
بينما كنت جالساً ألتقط أنفاسي، تجلس إلى جانبي سيدة لبنانية مسنّة، لم تبد عليها أية إصابات جسدية، تسألني ما حلّ برجلي، فأخبرها أنه مجرّد جرح بسيط، تسرع لمنزلها المدمّر لتحضر لي الكحول، فتعود باكية متأسفة بعد دقائق، فخزانة الكحول التي حضّرتها لأزمة كورونا لم تعد موجودة الآن. أسألها لم تبكي؟ فتجيبني بصوتها المرتجف: "ما توقّعت عيش الحرب من جديد".
بالنسبة لذاكرتي، التي عشتها في الحرب، بدت بيروت في لحظات وكأنها دمشق في سنوات، فالمشهد ذاته، الوجوه المدماة ذاتها، الهلع ذاته، والمسؤولون متشابهون. الفرق الوحيد كان هو وتيرة الوقت، فسنوات دمشق تمثّلت بلحظات في بيروت. منذ اللحظة الأولى التي دوى فيها الانفجار، تذكرت لحظة تفجير ساحة التحرير في دمشق عام 2012، تجمُّع الناس على بعضهم البعض واحتماؤهم بما تبقى من الأثاث هو ذاته، الخوف، الهلع وملامسة الموت هو ذاته أيضاً. المشهد اللاحق كان من شوارع المدينة المنكوبة، فشظايا الزجاج وأشلاء الأجساد تتطابق مع آخر مشهد لي في غوطة دمشق في نهاية العامّ ذاته، قصفت حينها طائرة الميغ العسكرية مكاناً قريباً مني للغاية. أتذكّر تماماً حال المدينة آنذاك، هو نفسه حال الأشرفية الأمس. هلع القطط ذلك اليوم، هو نفسه هلع كلاب الأمس.
آخر مشهد لذاكرتي أمس كان من المشفى التي وصلت إليها بصعوبة، فلم تكن مشافي بيروت تستقبل سوى الحالات الحرجة، ما اضطرني لقيادة سيارتي المتضررة برجلي اليمنى المجروحة إلى مشفى تبعد 12 كم عن بيروت، ولكن الجرحى قد سبقوني إلى هناك، فاضطررت للذهاب إلى مشفى آخر. الجرحى في كل مكان، تستلقي بكل عنفوان على الأرض، سيدة ثلاثينية ترفع رجلها اليسرى فوق رجلها اليمنى، يقوم الطبيب بخياطة جراح وجهها بطريقة غير تجميلية وبدون تخدير، لم تكن تصرخ أو تبكي، كانت مستسلمة تماماً كما هو حال بيروت اليوم، المدينة الجميلة التي استسلمت لكل الأزمات التي تعصف بها في كل لحظة.
بالنسبة لذاكرتي، التي عشتها في الحرب، بدت بيروت في لحظات وكأنها دمشق في سنوات، فالمشهد ذاته، الوجوه المدماة ذاتها، الهلع ذاته، والمسؤولون متشابهون. الفرق الوحيد كان هو وتيرة الوقت، فسنوات دمشق تمثّلت بلحظات في بيروت
لم يكن الأطباء وطاقم التمريض قادرين إلّا على مداواة الحالات الحرجة، استطعت بعد عناء الاستعانة بأحد موظفي الاستقبال، الذي خاط جرحي بدون تخدير وبطريقة جدّ بدائية، لم أكن قادراً على اختيار شخص متخصص ولا طلب التخدير، فلم يكن عندي أي خيار آخر، فإما خياطة الجرح بدون تخدير ومن شخص غير متخصص، أو مواصلة النزيف بانتظار مداواة أفضل. هذا المشهد هو تماماً كمشهد المشفى الميداني الذي تطوعت فيه في مخيم اليرموك في دمشق عام 2013، لا وجود لمواد طبية ولا لكوادر طبية متخصصة، النجاة هي الشيء الوحيد الذي نطمح إليه في تلك الأمكنة.
بين هذه المشاهد المتصارعة في مخيلتي زمانياً ومكانياً، بين ما هو أمس وما هو اليوم، بين ما هو في دمشق وما هو في بيروت، المدينتان الشريكتان في المأساة، تُحفر جملة السيدة المسنة لتدور في رأسي وتقول: "ما توقّعت عيش الحرب من جديد"، ولكنني عشتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...