شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"ما قام به كلب لم تقم به دولة"... نبضٌ تحت ركام بيروت يعرّي السلطة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الجمعة 4 سبتمبر 202001:28 م

"ثمة قلب ينبض"... بدأ الخبر بالانتشار سريعاً بعد ظهر يوم أمس في الثالث من أيلول/ سبتمبر في لبنان. شهرٌ بالتمام والكمال مرّ على انفجار مرفأ بيروت، فكيف لقلب أن يستمر بالنبض تحت أنقاض مبنى مدمّر كل هذا الوقت؟ ثمة استحالة منطقية للأمر. لكن المنطق الذي لم يكن حاضراً عندما عَصَف الانفجار بقسم كبير من بيروت وحياة أهلها وبيوتها، ولم يكن ظاهراً حتى قبل ذلك بوقت طويل، لم يكن في المقابل ما جعل ملايين النبضات في لبنان تتعلق بأمل وجود نبض واحد تحت الأنقاض.

حَبْلا نجاة تَمثَّلا فجأة أمام اللبنانيين بعد انتشار الخبر. النبضُ الضعيف الذي تكثّف ليصبح وعداً بالحياة لكل من يجمعهم اليأس من المستقبل ومن استهتار وخفة من يتحكم بلبنان، والكلب "فلاش" الذي قدم مع فريق الإنقاذ التشيلي إلى لبنان وكان له الفضل في رصد مؤشرات وجود نبضات قلب وجثة على الأقل.


في لبنان حيث "غالباً ما يربح اليأس معاركه"، ظهر بصيص أمل عندما كان الفريق القادم من تشيلي برفقة الكلب المدرب وفريق من الدفاع المدني اللبناني ومن فوج إطفاء بيروت ومتطوعين آخرين يتابعون البحث بين ركام المبنى المؤلف من ثلاث طبقات وطابق أرضي والمهدّد بالانهيار الكامل، وسط ظروف معقدة ودقيقة. أملٌ لا يشبه ذاك الذي تريد السلطة ومن يدعمها خارجياً الإيحاء به من خلال تشكيل حكومة هنا وتقديم وعود ممجوجة هناك.


هي السلطة نفسها المتهمة بالمسؤولية المباشرة وغير المباشرة عن الانفجار. وهي السلطة التي لا يحفظ لها الكثير من اللبنانيين تعاملاً إيجابياً مع الكوارث على أنواعها، كما جرى على سبيل المثال لا الحصر مع اندلاع الحريق الضخم العام الماضي وتبيّن أن طائرات الإطفاء التي كلّفت الخزينة ملايين الدولارات لا تستطيع التدخل لافتقارها للصيانة.

وهي السلطة التي تحدثت تقارير أنها عرقلت وصول - أو لم تهتم بوصول - فرق إنقاذ مجهزة منذ اليوم الأول للانفجار بحجة "عدم الحاجة"، وقد كتب أحدهم معلقاً حول ذلك: "من اليوم الثاني كان فيه فرق أجنبية تطوعت، وعدد منها ما سُمح لها بالدخول، وخرجت أخبار مرات عدة حول الأمر. وفرق لم يُسمح لها بالمجيء من بلدانها لأن "لبنان مش محتاج مساعدة" كانوا عم بقولوا!! بتذكر الفريق الهولندي اللي منع من دخول المرفأ وكان معن كلاب مدربة مثلاً". وكتب آخرون واصفين أن الحديث عن نبض تحت الركام بعد ثلاثين يوماً يكشف أن التساهل الرسمي في التعامل مع عمليات الإنقاذ هو "إجرام" و"قتل متعمد" أكثر منه "استهتاراً".

لذلك لم يكن مستغرباً أن تخرج تعليقات عديدة تقول إن "فلاش" (الكلب التشيلي) فعل ما عجزت عنه السلطة، أو أن يطلب أحدهم من الفريق التشيلي أن يعطي لبنان الكلب ويأخذ سياسييه، أو أن يُنصَّب الكلب رئيساً.

ما بدأ في منطقة مار مخايل المتضررة بشكل كبير من الانفجار لا يزال مستمراً، وتفاصيله أقرب إلى فيلم هوليوودي يحبس الأنفاس، يتعلّق فيه كل لبناني غريق بـ"نبضة قلب".

مع تقدّم الوقت كان النبض المرصود يتضاءل، من 19 نبضة إلى 15 فـ10 فسبع نبضات. ومع ذلك كان الأمل بمعجزة صامداً.

وكانت فصول البحث قد بدأت بعد معاينة الفريق المختص للمبنى الذي انهارت طوابقه العليا، عبر جهاز مسح حراري متخصص، فتبيّن وجود جثة أو اثنتين، في وقت رصد جهاز سكانر "دقات قلب". النبض بدا ضعيفاً جداً لكنه موجود، وكذلك كان الأمل الذي خلقه.

حَبْلا نجاة تمثّلا فجأة أمام اللبنانيين بعد انتشار الخبر. النبضُ الضعيف الذي تكثّف ليصبح وعداً بالحياة لكل من يجمعهم اليأس، والكلب "فلاش" الذي قدم مع فريق الإنقاذ التشيلي إلى لبنان وكان له الفضل في رصد مؤشرات وجود نبضات قلب وجثة على الأقل

"أتت فرق إنقاذ مرات عدة منذ وقوع الانفجار إلى المنطقة في إطار البحث عن مفقودين، لكن لم يكن معها لا كلاب ولا آلات حرارية ولا غيرها من المعدات والإمكانيات كالتي يمتلكها فريق الإنقاذ التشيلي"، هذا ما قاله محافظ بيروت مبيّناً أن "الكلب المدرب مع الفريق التشيلي أشار إلى وجود أشخاص تحت الأنقاض، ومن ثم أظهر جهاز السكانير وجود جثة أو اثنتين، واحتمال حياة".

وبينما تحدث البعض عن احتمالات أخرى للنبض، أشار عاملو إنقاذ إلى أن الكلبة مدربة على اكتشاف رائحة الإنسان فقط.

مع تقدم البحث خلال الليل، كانت حياة العناصر مهددة بسبب احتمالية انهيار المبنى، فيما كان الظلام يحلّ ما استدعى استقدام إضاءة للرؤية. في هذه الأثناء، كان قد تحلّق أشخاص كثر حول المكان، يراقبون ما يجري ويوثقون فصوله، فيما طُلب منهم التزام الصمت حتى تتمكن الأجهزة من القيام بعملية الرصد بدقة.

وكان فريق الإنقاذ التشيلي قد وصل إلى لبنان وبحوزته معدات فائقة الحساسية، يمكنها اكتشاف تنفس شخص ما على عمق 15 متراً، حسب ما تم تداوله. ومن بين ما تمّ تداوله كذلك كانت مسألة قدوم الفريق على نفقته الخاصة، وهو ما أثار لغطاً كبيراً، لم يتم إيضاحه بشكل رسمي.

وحدها سفيرة لبنان في التشيلي خرجت لترد على ما قالت إنه "اتهامات" بالتقصير، فتحدثت عن تواصل المنظمة غير الحكومية "توبوس تشيلي" مع السفارة والتي نسقت بدورها مع وزارة الدفاع والخارجية في لبنان. وحسب قولها، تمكنت السفارة والجالية اللبنانية مع شركة "تام تشيلي" للطيران من تأمين 15 بطاقة سفر مجانية على مدريد مع معداتهم، و"توبوس تشيلي" تابعوا من هناك وأحضروا معهم مواد معقمة كتقدمة لمركز سرطان أطفال ولمنظمة "أشرفية 2020" غير الحكومية، فيما أوضحت السفيرة أن مدير الأخيرة أكرم نعمة هو من أحضر عناصر الإنقاذ من المطار وأمّن لهم إقامتهم.

قد تكون رواية السفيرة قد حققت غايتها برفع مسؤولية التقصير عن السفارة، لكنها كشفت تقصيراً رسمياً أوسع، يتماشى مع ما انتقده كثر.

وكان الجيش قد أعلن عند الساعة الحادية عشر والنصف ليلاً، مساء أمس الخميس، عن تعذر استكمال عمليات البحث بسبب المبنى المهدد حتى صباح يوم الجمعة، وهو قرار ووجه بغضب شديد من المتواجدين على الأرض. كانت نبضات القلب قد تراجعت حينها إلى 10 في الدقيقة الواحدة.

"أليس لديكم عقل"، "لو كانت أمك أو أختك هناك تحت الأنقاض، أكنت ستتركها؟"، وتعليقات أخرى غاضبة ووجه بها القرار. شارك كثر في ساعات الليل المتأخرة فيديو لسيدة تحاول تأمين رافعة على حسابها الشخصي للمكان لاستكمال البحث، فيما دعا آخرون من يملك خبرات هندسية أن يحضر للمساعدة.

في مقابل ذلك، كانت الانتقادات للسلطة مستمرة، فطُرحت أسئلة على شاكلة: من أمّن رافعة لحماية مجلس النواب ومحيطه بوضع حواجز إسمنتية أمام المتظاهرين في اليوم التالي للانفجار، لماذا يغيب عن المشهد في هذه الأثناء؟ والقوى الأمنية التي شاركت بكثافة في قمع المتظاهرين ألم يكن الأحرى بها تكثيف عمليات البحث عن مفقودين؟

وفي السياق، تشير التقديرات إلى أن المفقودين هم حوالي السبعة على الأقل، علماً أن أعداد المفقودين جراء الانفجار تحوّلت إلى ما يشبه "البورصة". تأخر صدور رقم رسمي يُطمئن اللبناني كثيراً، كما لم يطمئنهم التعامل مع عمليات الإنقاذ التي لم يكن واضحاً متى ينبغي أن تتوقف فعلياً في هذا النوع من الكوارث. وأزمة الثقة بين اللبنانيين وسلطتهم متعددة الأبعاد والأشكال.

بعد الإشكال الليلي، وصلت الرافعة إلى المكان، وعادت عمليات البحث لتُستكمل عند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، في وقت كان معلقون يثنون على دور متطوعي الدفاع المدني الذين يواجهون إهمالاً وتعنتاً في قضية تثبيتهم منذ سنوات.

ما الذي سيخرج من تحت أنقاض مبنى مار مخايل: جثة؟ نبض ضعيف؟ مستقبل؟… أياً تكن النتيجة فهي تحمل تناقضاً حاداً في المشاعر، يشبه بشكل ما التناقض الذي يمثّله دور الكلب التشيلي باعتباره تجسيداً لهوان السلطة من جهة والحاجة لأفق ما من جهة أخرى

في المقابل، أصدر الجيش اللبناني بياناً توضيحياً حول اللغط الذي جرى بعد إعلان وقف عمليات البحث، مفسراً الأمر بأن ذلك أتى "نتيجة خطر انهيار أحد الجدران المتصدعة في المبنى ما يشكل تهديداً مباشراً لحياة عناصر المتطوعين. وبعد عزل المبنى، تمت الاستعانة بمهندسين عسكريين ورافعتين مدنيتين تمكنتا من إزالة الأخطار لاستمرار العمل".

تحت وسوم حملت عناوين "نبض بيروت" و"الفريق التشيلي" و"انفجار بيروت"، كان اللبنانيون يتابعون تطورات البحث، حتى عادت القنوات التلفزية لتتابع تطورات الأخير بشكل مباشر.

بموازاة ذلك، كانت التعليقات تستذكر كذلك كيف تصوّر الرئيس الفرنسي أمام هذا الركام، وكيف حُكي عن تكليف مصطفى أديب بالحكومة، وكيف ظهرت إعلامية لبنانية في جلسة تصوير أثارت الجدل حول الاستعراض الإعلامي المستهتر بإمكانية وجود جثث في المكان، وكيف مرّ الآلاف هناك للفرجة.

مع تقدم الوقت، يصبح الأمل بـ"معجزة" شبه معدوم إن لم نقل مستحيلاً، فكل الظروف غير مساعدة للبقاء على قيد الحياة شهراً في ظل طقس شديد الحرارة. لكن يبقى أن "النبض" المزعوم قدّم صورة فاقعة للغاية حول حجم اليأس الذي بلغه المواطنون وحجم الإذلال الذي تمارسه السلطة.

ما الذي سيخرج من تحت أنقاض مبنى مار مخايل، جثة؟ نبض ضعيف لإنسان أو حيوان؟ مستقبل؟… أياً تكن النتيجة فهي تحمل تناقضاً حاداً في المشاعر، يشبه بشكل ما التناقض الذي يمثّله دور الكلب التشيلي باعتباره تجسيداً لهوان السلطة من جهة ولحاجة اللبنانيين الماسة لأفق ما من جهة أخرى.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image