مؤثرة هي زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. مؤثرة إذا ما تم انتشالها من المؤامراتية التي تحاك حولها، والفرضيات التي بثت حول جدواها وفعاليتها والأسباب الخلفية لها. قد يقرأ الواحد منا، الزيارة على أنها استعادة لدور فرنسي آفل في المنطقة من بوابة لبنان، وهذا صحيح، وقد يعيد آخرون صياغتها على أنها محاولة إعلامية ودعائية لشخصية رئاسية شابة، مثيرة للجدل حتى في الأوساط الفرنسية، وهذا أيضاً صحيح. لكن ما لا يمكن إغفاله أن هذه الزياة مثلت خصوصية تامة، في هذه اللحظة شديدة الصعوبة لبنانياً.
هذا لا يخفي التاريخ الاستعماري الذي عانى اللبنانيون منه، كما عانت شعوب أخرى منه.
فتحت الزيارة نقاشاً واسعاً، لبنانياً وعربياً، عن رمزيتها. وهنا لب النقاش. فالبلد الذي عانى في عهد ميشال عون من سياسة خارجية ضئيلة وضعيفة، ومع نفوذ "حزب الله" وطغيانه وتأثيره على مفاصل الحياة السياسية والعسكرية والأمنية، بات مهمشاً ولا قيمة له في السياسة الخارجية، لا بل لا يعار أي اهتمام من قبل الدبلوماسيين ووزراء الخارجية والسياسيين الغربيين.
فوزير خارجية لبنان، وصهر الرئيس، جبران باسيل، جعل من الوزارة أشبه بدكانة له ولتياره السياسي، وأضعف، بكثير من مواقفه، صورة لبنان ودوره الإقليمي والدولي. ومن هنا تأتي رمزية الزيارة، في كونها تعيد للبنان، بعضاً من الاعتراف باحتضانه، شعباً وتاريخاً، من دولة قوية وذات تأثير في السياسة الدولية. وهذا ما أوضحه ماكرون الذي أكد مراراً أنه في لبنان من أجل الشعب اللبناني وليس من أجل السلطة.
ماكرون في زيارته يعيد لصورة بيروت الآفلة بعضاً من حضورها ولو من باب التحسر والمواساة. فبيروت مثلت كمدينة كوزموبوليتية، ملاذاً آمناً لمثقفين وديبلوماسيين عرب هربوا من بطش الدكتاتوريات والعسكر، واحتضنت معارضين لعبوا أدواراً بارزة في بلادهم وأسهموا في تحرير المرأة وإعلاء صوت الحريات والعدالة الاجتماعية.
ومن هذه النقطة قد يكون في زيارة ماكرون بعض من استعادة لصورة بيروت التي بقيت راسخة في أذهان سياسيين وكتاب ومثقفين غربيين، رأوا فيها مكاناً تفاعلياً مهماً للشرق الأوسط. وبسبب هذه الصورة كانت صدمة الغرب لرؤية المشهد الدموي الأليم، ما انعكس في الصحافة وعلى مواقع التواصل.
منذ وصوله إلى لبنان، أثار ماكرون موجة تساؤلات وانقساماً لا بد من قراءته من زوايا عدة. فالرجل القادم في أوج الأزمة الاقتصادية والسياسية والنفسية، المؤثرة عميقاً في النسيج اللبناني، يعيد نسقاً مختلفاً عن فكرة السياسي والمواطن. فمن المستحيل بمكان أن ينزل أي سياسي لبناني في هذه اللحظة الغاضبة ويلقى هذا الترحاب بين أناس تجمعهم الكارثة الإنسانية والحزن العارم والغضب المتفجر، بعد ما حصل لبيروت جراء المجزرة المرتكبة بحقهم. ومن المستحيل بمكان أن يُستقبَل أي سياسي، عربي حتى، بهذه الحفاوة، وأن يوجد بين الناس من دون كلفة أو جيوش من المسلحين والسيارات المصفحة. كان ماكرون بين ناس لبنان بشحمه ولحمه، عادياً يستمع إليهم، كأنه رئيسهم، عكس الرئيس اللبناني ميشال عون الذي يتحدث من خلف شاشة رقمية.
من المستحيل بمكان أن يُستقبَل أي سياسي، عربي حتى، بهذه الحفاوة، وأن يوجد بين الناس من دون كلفة أو جيوش من المسلحين والسيارات المصفحة
من المرجح أن يكون ماكرون تحسب تماماً لصورته الإعلامية في هذا الشأن. هو يدرك التأثير المعنوي الخاص لزيارته، والعلاقات التاريخية التي تربط البلدين، اللغة والثقافة، التبادل الأكاديمي والديبلوماسي، وكل ما قدمته فرنسا وعملت عليه على حد سواء لبلد صغير لا تزال تراه لا يشبه محيطه.
لكن هذا أيضاً لا يخفي التاريخ الاستعماري الذي عانى اللبنانيون منه، كما عانت شعوب أخرى منه، حين كانت فرنسا وحكوماتها وجنرالاتها يعيثون خراباً وقتلاً وسرقة وتعنيفاً لا يمكن محوها من تاريخهم. لكن هل يمكن استعادته الآن في الخصوصية اللبنانية وفي هذه اللحظة بالذات التي يعيش فيها لبنان نكبة فاضحة؟ هل نحن بحاجة إلى إعادة السؤال عن الاستعمار الفرنسي للبنان والمخاوف منه؟ وهل هذا سؤال مشروع في هذه اللحظة؟
لا تلوموا الناس حين تحتفي بسياسي آت إليهم ماداً ذراعه. لا تلوموهم على شعورهم بوحدتهم وخوفهم من المجهول.
لا بد من قراءة الزيارة على أنها طارئة، رغم تعقيدات بواطنها. هي ضرورية جداً في هذه اللحظة، ضروية لأنها نزعت عن السلطة والطبقة الحاكمة الكثير من الشرعية التي أعطيت لها، وأعطت بعضاً من الراحة للبنانيين الذين كانوا بحاجة عاطفية ونفسية إلى مَن يسمع لهم. فهم عانوا من قمع سلطاتهم ومن سياسيين قلتوهم بالرصاص الحي وقلعوا عيونهم وأذلوهم في الشوارع ورموا عليهم قنابل مسيلة للدموع ولم يصغوا إلى شكاويهم ولا إلى حزنهم ولا إلى مطالبهم الأساسية من ماء وكهرباء وطبابة.
جاء ماكرون كي يخفف عنهم وهذا ليس دوره، وليؤكد حرص فرنسا على دعم لبنان. هذا البلد اليوم يحتاج إلى كل مساعدة وإلى كل مؤازرة. نحن في حال طوارىء. الناس تنام في العراء، شبح الموت والفقر والعوز، يطوف فوق المدن.
يعيد ماكرون اكتشاف اللبنانيين لنموذج سياسي عادي يمشي بين الناس ويصافحهم، ويعانقهم. بغض النظر عن هذا الشخص، فهو طبع الآن صورة سياسي آخر، لا نراه في عالمنا العربي. السياسيون في بلادنا يخرجون من أوكارهم بأذرع من نار وحديد، يضعون أصابعهم في جيوبهم أو على زناد مسدساتهم، ولا يلوحون لأحد. هم قادة ديكتاتوريون.
ماكرون الذي قد لا يستطيع أيضاً أن يمشي في شوارع باريس بهذه الأريحية كما حصل في بيروت، جعلنا مصدومين بتمسك اللبنانيين بأي أحد خارج هذه المنظومة، حاجتهم إلى سياسي لا يرفع الهراوات ويفلت زعرانه وشبيحته عليهم
ماكرون الذي قد لا يستطيع أيضاً أن يمشي في شوارع باريس بهذه الأريحية كما حصل في بيروت، جعلنا مصدومين بتمسك اللبنانيين بأي أحد خارج هذه المنظومة، بحاجتهم للكلام بعد خذلانهم، حاجتهم لمَن يسمع خوفهم الذي بدا ضخماً ومرعباً بعد مجزرة المرفأ، حاجتهم إلى سياسي لا يرفع الهراوات ويفلت زعرانه وشبيحته عليهم. لذا لا تلوموا الناس حين تحتفي بسياسي آت إليهم ماداً ذراعه. لا تلوموهم على شعورهم بوحدتهم وخوفهم من المجهول.
خافوا فقط من أسنانهم التي ستسن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...