شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"سيلفي مع الجثث واستعراض فوق دماء الضحايا"... عن بيروت المنكوبة و"سياحة الكوارث"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 3 سبتمبر 202005:28 م

من يمرّ بالقرب من منطقة المرفأ ومحيطها قد لا يتمكن من حبس دموعه وكتم آهاته، على مدينة باتت اليوم مكسورة ومنكوبة إثر انفجار كارثي، أنهى حيوات، شرّد عائلات ودمّر أرزاق الكثيرين.

في خضم هذا الجو العابق برائحة الموت، وعلى مقربة من أشلاء بعض الضحايا وحطام الحجارة التي كانت شاهدة على أنين الأسر المفجوعة والصلوات الحارة التي تخرج من أفواه عائلات المفقودين، يقصد البعض مرفأ بيروت والمنطقة المحيطة به، ليشاهد بأمّ العين حجم الكارثة، ويتفقد بمرارة الأضرار الجسيمة، في حين يقوم البعض الآخر بالتقاط "السيلفي"، واخذ الصور التذكارية بالإضافة إلى عقد جلسات تصوير لا يخلو بعضها من الابتسامات وحركات الدلع.

وبمعزل عن "نيّة" كل زائر/ة، هناك سؤال يطرح نفسه: لماذا تجذب المآسي والمناطق المنكوبة السياح من كل أقطار العالم؟

تناقض صارخ

لا شك أن هناك تضارباً واضحاً بين مصطلحي "كارثة" و"سياحة"، ففي العادة ترتبط السياحة في ذهننا بالترفيه والسعادة والمتعة عند زيارة المواقع الأثرية ورؤية المناظر الطبيعية الخلابة، في حين أن الكارثة تنطوي على الحزن والألم، إلا أن هناك نمطاً آخر من السياحة يزدهر بشكل مفاجىء: سياحة الكوارث (disaster tourism) التي تُعرف أيضاً بالسياحة السوداء (dark tourism).

ففي كل عام، يقوم ملايين السياح من حول العالم بتخصيص وقتهم لزيارة بعض الأماكن "الأكثر تعاسة" على وجه الأرض، أي المواقع التي كانت شاهدة على الفظائع البشرية والكوارث الطبيعية والمجازر الإنسانية.

وبخلاف ما يعتقد البعض، فإن هذه الظاهرة ليست جديدة في التاريخ البشري، وفق ما أشار إليه أستاذ السياحة في جامعة غلاسكو كالدونيان باسكتلندا، جون لينون، بالقول: "هناك دليل على أن السياحة السوداء تعود إلى معركة واترلو، حيث شاهد الناس من عرباتهم المعركة الجارية"، مؤكداً في حديثه لصحيفة واشنطن بوست أن سياحة الكوارث قد تعود حتى إلى ما قبل العام 1815: "كانت الحشود تتجمع لمشاهدة أعمال الشنق العلنية في لندن في القرن السادس عشر".

رواج سياحة الكوارث

بالرغم من أنه لا توجد إحصاءات رسمية توثق عدد الأشخاص الذين ينخرطون في سياحة الكوارث كل عام، إلا أنه يمكن القول إن هذه الظاهرة أصبحت أكثر شيوعاً، بخاصة بعد السلسلة التي أطلقتها نتفلكس بعنوان Dark Tourist والثقافة الشعبية التي باتت تروج لهذا النوع من السياحة.

فبعد إطلاق مسلسل تشرنوبيل الذي يتحدث عن أكبر كارثة نووية شهدها العالم في العام 1986، كشفت شركات السفر أن المنطقة شهدت زيادة في عدد الزوار بنسبة 30 إلى 40%، كما أعلنت الحكومة الأوكرانية عزمها على جعل المنطقة المحظورة في تشيرنوبيل مكاناً سياحياً رسمياً، على الرغم من زيادة مستويات الإشعاع والخطر الناجم عنها على صحة الأفراد وحيواتهم.

لماذا يعشق السائحون الأماكن التي تعتبر مرادفة لأحلك فترات في تاريخ البشرية؟ ولماذا كل هذا الانبهار بالجانب المظلم للتاريخ؟

من إعصار كاترينا في العام 2005، مروراً بالانفجار البركاني الضخم في آيسلندا في العام 2010، زلزال النيبال في العام 2015، المناطق المدمرة في سوريا وصولاً إلى حادثة انفجار مرفأ بيروت، يختار بعض الأشخاص زيارة أماكن الدمار والخراب للتعرف عن كثب على حجم الأضرار التي لحقت بها، بالإضافة لرغبتهم في توسيع نطاق وعيهم الاجتماعي أو التواصل مع الأشخاص الذين تعرضوا لتجارب مؤلمة.

في كل عام، يقوم ملايين السياح من حول العالم بتخصيص وقتهم لزيارة بعض الأماكن "الأكثر تعاسة" على وجه الأرض، أي المواقع التي كانت شاهدة على الفظائع البشرية والكوارث الطبيعية والمجازر الإنسانية

ويعتبر مؤيدو ظاهرة "السياحة السوداء" أن زيارة الأماكن المتضررة تحمل في طياتها مغزى وفائدة كبيرة، إذ يمكن أن تساعد الزائرين على فهم الحاضر وأن يكونوا أكثر تفكيراً بشأن المستقبل، بالإضافة إلى جعلهم يلتفتون إلى مفهوم الإنسانية، الطبيعة البشرية ومحاولة فهم الشرّ الذي يستطيع البشر القيام به، بحسب ما يؤكد المسار التاريخي.

في هذا الصدد، أكد فيليب ستون، المدير التنفيذي لمعهد أبحاث السياحة المظلمة في جامعة سنترال لانكشاير، أن "معظم التاريخ قاتم"، مضيفاً: "أعتقد أنه عندما نذهب إلى هذه الأماكن، لا نرى الغرباء، لكننا غالباً ما نرى أنفسنا وربما ما قد نفعله في تلك الظروف".

في معرض الحديث عن الأسباب النفسية التي تقف وراء انجذاب البعض لسياحة الكوارث، انطلق الأخصائي في علم النفس، هاني رستم، من تجربته الشخصية حين كان في زيارة الموصل لأول مرة، ورغبته بزيارة المسجد المدمر الذي كان له علاقة بتنظيم داعش: "بالنسبة إلي ما عشت الحرب يلي عاشوها بس رحت لحتى كون عم بشوف شو يلي صار"، مضيفاً بأن اهتمامه كان ينطلق من إعادة إحياء الأحداث التي حصلت في الماضي ولو كان ذلك بشكل ذهني.

أوضح رستم أن هناك دوافع عديدة تكمن وراء السياحة السوداء، من بينها: الفضول والبحث عن المجهول، شارحاً ذلك بالقول لموقع رصيف22:" كبشر عنّا حاجة كتير كبيرة إنو نفهم ونحط معنى للأشياء، وقت صار انفجار بيروت الناس نزلت بدها تفهم شو يلي صار وتحط معنى للتجربة القاسية".

وكشف هاني عن عامل آخر يلعب دوراً في حثّ الناس على زيارة الأماكن المتضررة، وهو التعاطف: "هناك أشخاص يعبرون عن تعاطفهم من خلال النزول إلى مكان الحدث ونقل الصورة وإيصال الصوت إلى العالم كله، على غرار الأشخاص الذين يزورون فلسطين والأراضي المحتلة".

وبحسب رستم، عند الاحتكاك المباشر مع المآسي قد يشعر بعض الأفراد بنوع من الارتياح على المستوى الشخصي: "هناك أشخاص عاشوا مآسي معيّنة ويحرصون على أن يكونوا شاهدين على كل مأساة تشبه ما سبق وما مروا به في حياتهم من تجارب مؤلمة"، منوهاً بأن بعض الثقافات والديانات تعزز هذه الفكرة: "في الدين الإسلامي مثلاً هناك دعوة لزيارة المقابر لكي نتذكر إلى أين نحن ذاهبون في نهاية مشوارنا على هذه الأرض".

هذا وتحدث هاني رستم عن الجانب المظلم من سياحة الكوارث: "هناك أشخاص يذهبون إلى الأماكن المتضررة لتغذية الـ Ego (الأنا) ولكونهم يتلذذون بالوجع والدمار ومعاناة الآخرين"، مضيفاً: "في عالم بيكبروا على حساب الأشخاص يلي عم بيموتوا".

بين مؤيد ومعارض

سواء كان ذلك بهدف تفقّد ما حصل، التقاط الصور أو تلاوة الصلاة على أرواح الشهداء، تعد زيارة المرفأ مثالاً حديثاً عن "سياحة الكوارث"، وهي ظاهرة يعتبرها البعض "استفزازية" ومهينة بحق الضحايا وأهلهم، في حين يدافع عنها الطرف المقابل من خلال الزعم بأن زيارة الأمكنة المتضررة والتقاط الصور ليست إلا خطوة عفوية للتعبير عن التعاطف مع "بيروت الحبيبة"، ولتخليد ذكرى أليمة وترسيخها في الأذهان بهدف محاسبة المسؤولين.

لا تزال ميرنا، 40 عاماً، عاجزة نفسياً عن الذهاب إلى المرفأ وإلقاء نظرة على حجم الدمار الذي لحق بمدينة بيروت، وفق ما أكدته لموقع رصيف22: "بحس حالي نفسياً ما بقدر، بعدني لهلق مش نازلة ولا بدي إنزل"، إلا أنها أبدت تفهمها الكامل للأشخاص الذين يقومون بزيارة محيط المرفأ: "بالنهاية بكرا التاريخ رح يكتب عن هيدا الحدث وهودي الصور رح يبقوا للذكرى، ومع إني شخصياً ما بقدر شوف الخراب يلي صار بس مش غلط الواحد ينزل ويتصور هونيك تيضلو يتذكر، لأنو حتى لو يلي صار كتير بشع بس بعلمنا درس".

وشددت ميرنا على ضرورة احترام الحدث وعدم تشويهه بالتصرفات الطائشة: "الواحد مش لازم يكون نازل يعمل سياحة، بمعنى إنو يتفرج ويضحك وياخد (بوزات). بس مش غلط ياخد صور للذكرى".

بدوره، اعتبر المهندس الاستشاري سامر الريّس، أنه يمكن تناول ظاهرة "سياحة الكوارث" من منظورين مختلفين، فمن جهة عندما يقوم البعض بالذهاب إلى مكان الحدث والتقاط الصور ونشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فهذا كله من شأنه نشر الوعي، الترويج للحادثة الأليمة وتوسيع رقعتها لتصبح قضية رأي عام عالمي، مضيفاً بأن من يذهب إلى الأماكن المنكوبة، يفهم حقيقة حجم الكارثة ويتماهى مع ألم ومعاناة الأشخاص، وهذا بدوره يشكل حافزاً للمساعدة: "أنا شخصياً لو ما نزلت أول نهار على المرفأ، ما كنت كل الأسبوع نزلت ونظفت، كنت قلت خلص في حدا عم بيعمل الشغل، وهالشي خلاني أفهم كيف أقدر ساعد وبأي طريقة".

أما بالنسبة لسلبيات هذه الظاهرة، قال سامر لموقع رصيف22: "وقت حدا يروح يعمل modeling (عرض أزياء) هونيك وحدّو أهل الضحية، أكيد منا فكرة حلوة، هالتصرفات مؤذية للمشاعر، وكمان عم بيعملوا عجقة على الفاضي ويعيقوا الحركة".

"التلصص" عبر ثقوب الألم

من يعيش الحرب وأحداث الدمار بكل تفاصيلها ويتذوق لوعة التهجير ومرارة فقدان شخص عزيز، ليس كحال من يشاهد المعارك الوحشية والمآسي من خلال الصور ومقاطع الفيديو، فالبعض لا يتذكر مثلاً من حرب تموز 2006 سوى بعض الصور التي التقطت من هنا وهناك، ولعلّ أشهرها الصورة التي التقطها الأميركي سبينسر بلات، والتي فازت بجائزة الصحافة العالمية لعام 2006، بعد أن عكست التناقض الصارخ بين ثقافتي الموت والرفاهية، وذلك من خلال تصوير شاب برفقة مجموعة فتيات يتجولون في سيارة حمراء"مكشوفة" بين الحطام والخراب.

 يحذر البعض من السلوك السيء والتصرف "اللاإنساني" أحياناً من قبل بعض الزائرين و"التلصص" المشكوك فيه أخلاقياً عند زيارة أماكن شاهدة على المآسي والكوارث، كتصوير الناس في لحظات حزنهم وحدادهم، التعامل مع الضحايا كما لو كانوا "معروضات متحفية"

وفي السياق نفسه، أثارت الإعلامية رابعة الزيات مؤخراً، موجة غضب عارمة واستياء الكثير من رواد مواقع التواصل الاجتماعي، بعدما قصدت مرفأ بيروت وهي ترتدي فستاناً عليه صورة لبيروت بعد الانفجار، معلنة أنه برسم البيع في مزاد يعود ريعه للضحايا، الأمر الذي اعتبره البعض استعراضاً فوق دماء الضحايا واستثماراً للفاجعة الكبيرة.

في هذا الصدد، يحذر البعض من السلوك السيء والتصرف "اللاإنساني" أحياناً من قبل بعض الزائرين و"التلصص" المشكوك فيه أخلاقياً عند زيارة أماكن شاهدة على المآسي والكوارث، كتصوير الناس في لحظات حزنهم وحدادهم، توزيع الابتسامات على مقربة من الأشخاص المفجوعين، التعامل مع الضحايا كما لو كانوا "معروضات متحفية"، عدم احترام حرمة الموت...

من خلال متابعته اليومية لتفاعل اللبنانيين/ات مع حادثة المرفأ على السوشال ميديا، كشف الناشط اللبناني والخبير في مواقع التواصل الاجتماعي، ميشال أبي راشد، أن الناس لم تعد تتقبل رؤية الأشخاص الذين يقصدون منطقة المرفأ ومحيطها لأخذ الصور الشخصية: "الكارثة كتير كبيرة وعملت shock (صدمة) لكل الناس، فبطل أي حدا يتقبل يشوف ناس عم بتتصور قدام المرفأ أو حدّ البيوت المدمرة والمحلات المكسرة"، مشيراً إلى أن أكبر دليل على ذلك هو تفاعل الرأي العام مع حملة الإعلامية رابعة الزيات وانتقاده لخطوتها.

"ما فينا نستغل الكارثة ونروح نعمل أي سياحة على ضهر أوجاع الناس وعلى دم الناس يلي راحت"

وفي حديثه مع موقع رصيف22، أعرب أبي راشد عن امتعاضه الشخصي من تصرفات البعض لناحية التقاط الصور الشخصية ونشرها على السوشال ميديا من دون مراعاة مشاعر الآخرين: "ما بتقبل شوف أشخاص هني وعم بيتصوروا بكل رواق وما كأنو في شي، ما كأنو في ناس ميتة أو أشلاء موجودة أو في ناس مفقودة".

وتابع ميشال قائلاً: "ما في أي احترام للضحايا، للجرحى، للأهالي يلي فقدو ولادن، للمرأة يلي فقدت زوجها، خيها، للشخص يلي فقد ولادو، عدا عن الناس يلي راحت أرزاقها وبيوتها"، هذا وختم أبي راشد حديثه بالتأكيد على أنه من غير المقبول الاستثمار في أوجاع الناس وأحزانهم: "ما فينا نستغل الكارثة ونروح نعمل أي سياحة على ضهر أوجاع الناس وعلى دم الناس يلي راحت".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image