المشهد الثاني: تعرّضت علا لعرض جنسي خلال مكالمة عمل أيضاً، فيما يحاول مديرها تهدئتها وتشجيعها على مجاراة العميل، حتى فقدت أعصابها، وصرخت بالعميل وهددته.
لم تشهد السينما أو الدراما المصرية أي محاولة لتناول هذا النوع من التحرّش، ماعدا فيلم 678 الذي أنتج في عام 2010، تأليف وإخراج محمد دياب، كانت تلك هي المحاولة الأولى والأخيرة.
وبعيدا عن السينما والدراما، لازال التحرّش بالعاملات في خدمة العملاء بعيداً بشكل كبير عن الأنظار، ولم يأخذ الحيز الذي يستحقه من المناقشات، خاصة على منصات التواصل الاجتماعي، حتى مع الانفجار الأخير الذي تسببت به واقعة اكتشاف المغتصب المتسلسل، أحمد بسام ذكي، والذي تلته عشرات الشهادات بالتعرض للانتهاكات الجنسية ما بين تحرش واغتصاب.
"ماردّك على الكلمات الإباحية؟"
كانت عزة الخلفاوي (29 عاماً)، تسكن في محافظة الجيزة، تبحث عن عمل بعد تخرجها من الجامعة، وقبل تعيينها كمدرسة ابتدائي، اقترحت عليها صديقة أن تعمل في خدمة العملاء بأحد الشركات، بحسب إعلان منشور.
ذهبت عزة بالفعل لمقابلة العمل، تقول لرصيف22: "جاوبت على كل الأسئلة التي وجهت إلي، حتى وصلت لآخر سؤال والذي كان: لو عميل قالك كلام سخيف أو إباحي، هيكون ردك إيه؟ ارتبكت قليلاً ثم رددت: هاقفل في وشه السكة".
"أتلقى عروضاً جنسية كل يوم، حتى قال لي عميل أني عاهرة، وأمي عاهرة، وأبي قواد، دخلت الحمام، بكيت، خرجت، قدمت استقالتي"
تكمل عزة: "وجدت وجه المسؤول عن المقابلة تجهم بشدة، ثم قال لي الرد المعتاد في تلك الحالات، نشكرك وسوف نتواصل معك في حالة قبولك في الوظيفة، طبعاً لم يتصل حتى الآن، وقد مر على تلك المقابلة ما يقارب 5 سنوات. والحقيقة أني لست مندهشة من سبب عدم اجتيازي لتلك المقابلة أو قبولي بالعمل، فقط لأنني لم أرد الرد الذي كان ينتظره المسؤول عن تقييمي حول محاولات احتوائي للمتحرش".
تفسر عزة ذلك بأن المجتمع كله يتعامل مع النساء على أنهن "مجبورات على احتواء التعدي، والاعتداءات عليهن، والتماس الأعذار والتبريرات للمعتدين، فلماذا سيختلف الوضع داخل أي شركة أو مجال عمل؟".
وبحسب التقرير الصادر عن جامعة كورنيل الأمريكية، في يناير 2007، فإن مجال العمل بخدمة العملاء أصبح يشبه "معسكر الإناث"، نظراً لأن النسبة الأكبر من العاملين به هم من الإناث واللواتي يشكلن 71%، ما بين مطاعم أو شركات اتصالات أو بنوك. كما أوضح التقرير أن تلك المهنة يتم قبول النساء فيها بسهولة، دون الحاجة لمظهر معين أو مهارات صعبة، ولكن مع توافر فرص العمل بكثافة، لا يتم حفظ حقوق العاملات بأي شكل.
يأتي هذا التقرير كأحد الدراسات الأكاديمية والاستقصائية الشحيحة جداً في مجال العمل بخدمة العملاء، والتي ظهرت في آخر عشرين عاماً فقط، وانتشرت في العديد من البلدان حول العالم، واستندت الدراسة على شبكة عنكبوتية تضم ما يزيد عن 40 باحثاً في أكثر من 20 دولة، بين إفريقيا، آسيا، الأمريكيتين وأوروبا.
"أتلقى عرضاً جنسياً كل يوم"
أما نيللي عابد (30 عاماً)، عاطلة عن العمل، مقيمة في القاهرة، فلا تتذكر عدد المرات التي تعرضت فيها للتحرش من العملاء أثناء عملها بإحدى شركات الاتصال في بلد عربي خارج وطنها مصر، تحكي لرصيف22: "كنت بمعدل يومي إما أن أتلقى عرضاً جنسياً، أو يتم سبي بشتائم جنسية، لكن النسبة الأكبر كانت التعالي ومحاولة إهانتي لأنني امرأة ولست مواطنة أيضا، في المرة الأخيرة التي استقلت فيها من العمل".
"قال لي عميل أنت عاهرة وأبوك قوّاد".
وتروي نيللي عن واقعة أثرت في نفسيتها بشدة، تقول: "سألني العميل: هل ما يُقال عنكن صحيح، أنكنّ عاهرات، وأمهاتكن عاهرات صحيحاً؟ فحاولت أن أرجعه لسياق المكالمة، فرد بأن الجميع يقول عنا إننا عاهرات وأبناء قوادين وعاهرات، لم أستطع أن أكمل المكالمة ولا اليوم حتى، ولا أن أكمل في هذه المهنة من الأساس، فصلت الهاتف، دخلت الحمام وانهرت من البكاء، ثم خرجت، قدمت استقالتي بهدوء وعدت للمنزل".
يذكر أنه في تقرير للأمم المتحدة، صدر في إبريل 2013، كشفت أن نسبة 99.3% من الإناث في مصر تتعرض للتحرش الجنسي والعنف، وأنه في دراسة قامت بها الهيئة، أجابت 99.3% من النساء والفتيات اللواتي شملتهن الدراسة، بأنهن تعرضن لنوع واحد على الأقل من أنواع التحرش الجنسي التي حددتها الهيئة.
كذلك أشارت الدراسة، أن أشهر أنواع التحرش كان الجسدي، حيث عانت 59.9% من النساء من هذا النوع من التحرش، وجاء في المرتبة الثانية المعاكسات الكلامية التي عانى منها 54.5% من النساء.
"عميل يمارس الاستمتاع الذاتي"
فيما تحكي سلمى حداد (32 عاماً)، أم وربة منزل، مقيمة في القاهرة، لـرصيف22: "لم يكن يمر يوم إلا وأنام باكية، فأثناء ساعات العمل اليومية، كنت أنشغل بالعمل والرد على العملاء والحديث مع أصدقائي، لكن كلما يأتي الليل كانت تقفز إلى ذهني عبارات التحرش التي أسمعها في مكالمات العملاء، وأشعر وكأنهم يعرّونني بعباراتهم. ظللت مدة طويلة أعاني من الاكتئاب، وتظلل حياتي حالة من السوداوية والشعور بعدم الأمان أو الخصوصية، وصلت لمرحلة أني أمشي في الشارع أتخيل أن العملاء الذين ينتهكون ويدهسون كرامتي يومياً هم من يسيرون إلى جانبي، فأصبحت أتصرف بعدوانية طوال الوقت".
تكمل حداد: "كان آخر موقف تعرضت له، عندما أجبرت على الاستماع لعميل يمارس عادة إمتاع الذات، ولم يكن أمامي وقتها سوى الالتزام بما نصت عليه قوانين العمل وهو تحذير العميل ثلاث مرات، ومطالبته بالالتزام بسياق المكالمة، وبين كل تحذير وآخر، لابد أن أنتظر حتى أعطيه فرصة للتراجع، لم أستطع التحمل حتى الإنذار الأخير، فأغلقت الخط. كان هذا الموقف هو ما وضع المسمار الأخير بنعش عملي كممثلة لخدمة العملاء، حيث آثرت سلامتي النفسية واستقلت من البنك الذي كنت أعمل به، وفضلت أن أركز مع حياتي الزوجية".
"إرضاء العميل هو الأولوية".
تعلق الناشطة النسوية آلاء الكسباني، تسكن في الإسكندرية، والتي لها تجربة عمل بأحد شركات الاتصالات الدولية، كموظفة في خدمة العملاء: "بشكل عام، ليس هناك آلية فعالة وحقيقية على أرض الواقع لمواجهة التحرش في مجالات العمل المختلفة، وبشكل خاص بممثلات خدمة العملاء، رغم وجود قوانين ولوائح لقانون العمل المصري تحمى الموظفات، إلا أن تطبيقه في شركات رأسمالية أولويتها الأولى والدائمة هي إرضاء العميل، يقتصر على تطبيق قوانين صارمة في حالة التحرش الواقعة من جانب الزملاء أو المديرين، خاصة لو كانت شركة دولية، أما على العميل فالموضوع لن يتعدى بكاء الضحية في حمام الشركة، وأقصى ما يمكن اتخاذه هو إغلاق حساب العميل، ولكن بمجرد شراء خط جديد أو فتح حساب جديد بمعلومات مختلفة، نرجع مرة أخرى لنقطة الصفر، لذلك فالإجراءات المتخذة ليست كافية وبها الكثير من العوار".
"قولي لي لابسة إيه؟"
وعن تجربة الكسباني الشخصية في العمل بخدمة العملاء، تحكي أنها تعرضت للكثير من المواقف، التي لازالت كلما تتذكرها، "تفاصيل الصوت والأسلوب"، تشعر بالألم والاشمئزاز كأنها تعايشها من جديد، ولكنها لاحظت اختلافا في نمط سلوك تعامل العملاء معها بحسب قوانين البلد نفسها، تقول: "العرب الذين يعيشون في أوروبا ونقدم لهم الخدمة، لا يرتكبون أي وقائع تحرش بحقنا، لأنهم يخشون على حياتهم في الدول التي يعيشون بها، خاصة وأنهم يعلمون تماماً أن هناك قوانين قوية تحمي النساء، أما الأجانب فيحدث منهم وقائع تحرش لفظي، خاصة عندما يعرفون أن الموظفة صاحبة جنسية عربية، منها عبارات مثل: قوليلي لابسة إيه؟ وإيه لونه؟ وجسمك شكله إيه؟ وغيرها، وأتذكر شخصاً ما كان مشهوراً بيننا، بتحرشاته اللفظية، وكان يسأل ممثلة خدمة العملاء عن جنسيتها، وما إن يعرف أنها مصرية، كان يبدأ في قول عبارات تحمل إيحاءات جنسية، وكان أقصى ما يمكن أن نفعله هو إرسال الرقم والاسم للمختصين فيغلقون الحساب، لكن أبعد من هذا الإجراء لا يوجد".
" أجبرت على الاستماع لعميل يمارس عادة إمتاع الذات، ولم يكن أمامي وقتها سوى الالتزام بما نصت عليه قوانين العمل، وهو تحذير العميل ثلاث مرات، ومطالبته بالالتزام بسياق المكالمة"
وتكمل الكسباني: "والسبب وراء عدم الاهتمام بحماية النساء العاملات بتلك المهنة، هو انتشار ثقافة قبول العنف والانتهاك ضد النساء أكثر من أي شيء آخر، وأكثر ما يقال هو إن زملاءك الذكور يتحملون الكثير من الإهانات، وأن العميل لا يفعل هذا بمحمل شخصي وإنما هو يتحدث إلى الشركة، ولا يقصد أن يصف س أو ص من العاملات بأنها عاهرة أو غيره، كذلك كما أشرت من قبل، هو الاهتمام بالربح والمكسب الذي يطغى على أي اعتبارات أخرى".
"عدم الاهتمام بحماية العاملات يرجع إلى انتشار التطبيع مع العنف والانتهاك ضد المرأة".
"كل هذا يحدث رغم أن مهنة الكول سنتر من أهم المهن المساهمة اقتصادياً، حيث أن نسبة كبيرة من الشباب، الذي وجد صعوبة في العمل بشهادته وتخصصه الجامعي، يعمل فيها، وهذا الأمر يعلمه تمام العلم العميل الأجنبي والعربي، ويعلم أن الفتاة غير قادرة على أن ترد عليه إهانته أو حتى أن تغلق الهاتف في وجهه، لذلك التحرش في هذه الحالة ليس سوى ممارسة واستعراض للقوة، وليس كما يدعي البعض بسبب ملابس الفتاة أو حجابها وغيره".
وعن أسباب الصمت تجاه هذا النوع من التحرش، تقول آلاء الكسباني: "كما أشرت سابقاً، أولاً: شيء من الخوف على "أكل العيش"، فالعاملة في هذه المهنة الصعبة، إما أن تنفق على نفسها، على أسرتها وأطفالها أو على دراستها، في النهاية هي محتاجة مادياً. ثانياً: إدارة الشركات الرأسمالية التي لا تخاف ولا تهتم سوى بإرضاء العميل والربح والمكسب وتحقيق التارجت الشهري. ثالثاً: عدم وجود آلية حقيقية لمواجه هذا النوع من التحرش".
وقد حاولت رصيف22 التواصل مع شركات مصرية وعربية، خاصة الموظفين المسؤولين عن إدارة الموارد البشرية في تلك المؤسسات، طارحة أسئلة تخص اللوائح الداخلية لحماية عاملات خدمة العملاء من تلك الممارسات، ولكن لم نتلق رد أو تعليق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون