ربما الكثير منا لا يعرف عن التحرش سوى ما يراه في الشوارع العامة من تحرش لفظيّ أو جسديّ. ولا يعلم أن حتى مواقع التواصل الاجتماعي، لم تعد مساحة آمنة للفتيات من التحرش، بل أنها تحولت لمجال جديد تمارَس فيه كافة الاعتداءات الموجهة على أساس الجنس، مثل التحرش والابتزاز الجنسي، وسرقة الصّور الخاصة، ونشرها دون إذن صاحبتها.
أطلّت علينا في الأسابيع الأخيرة الماضية، ظاهرةٌ جديدة تُعدّ المولود الشرعيّ لحالة استباحة النساء وأجسادهنّ في الشوارع، وهي وجود العشرات من المجموعات والحسابات المزيفة التي لا عمل لها سوى تصوير النساء في الشوارع دون علمهنّ، ونشرها على منصّات التواصل الاجتماعي، والتعامل معها كأنها صور إباحية مثيرة جنسياً.
وفي المقابل، برز على الجهة الأخرى "جنود مجهولون" يحاولون حماية المتعرضات للابتزاز الإلكتروني، وشنّ حربٍ لإغلاق الحساب الشخصي لأيّ متحرش أو مبتز، أو إغلاق المجموعات الفيسبوكية القائمة على نشر الصّور الخاصة للنساء.
ومن أبرزهم مجموعة "حملة مبروك أنت متحرش الكتروني"، والتي أسسها أحمد رمضان غباشي، ومجموعة "بلاغات" التي أسسها أمير عيد.
"ضاع هاتفي فتغيرت حياتي"
ضاع الهاتف الذكيّ الخاص بـ(هـ. مَجدي) 31 عاماً، وتعمل في مجال المونتاج، وعليه صورها الخاصة، وحساباتها على السوشال ميديا.
بعد مرور فترة من الوقت، راسل مجدي شخصٌ ما، مهدِّداً بنشر صورها على مواقع إباحية، وطلب منها مبلغاً من المال. وما كان منها إلا أن أرسلت له ما يريد رغبة في إنهاء الموضوع، ومسح الصّور الخاصة بها، ولكنه عاد واستفزّها، طالباً مبالغ أخرى.
"في البداية كنت أتعجب وأندهش من أنماط التحرش على منصّات التواصل الاجتماعي، ولكن مع الوقت وجدت أن كلَّ شيء غير متوقع يحدث بالفعل، وأن الأمور تتطوّر فقد بدأتْ برسائل سبّ وقذف، وانتهت بفبركة الصور، ونشرها على المواقع الإباحية"
تقول مجدي لرصيف22: "انهارت أعصابي، حتى اقترحت عليّ صديقة أن أقدّم بلاغاً في مباحث الإنترنت. فاستعنت بمحامٍ صديقٍ تطوّع لمساعدتي. وبالفعل قدّمتُ البلاغ، ثمّ تمّ استدعائي لأخذ أقوالي، توقّعت أنها مجرد جلسة تحقيق عادية، لكنني فوجئت بالمحقق يبشرني بأنه تمّ ضبط الجاني، ووجدوا معه هاتفي والصّور عليه، كما ضبطوا المحادثات التي كان يبتزّني فيها"، مضيفة: "الحقيقة، عندما قدّمت البلاغ، لم أكن أتوقّع سرعة الإجراءات أو حتى الاهتمام والتعاون، نظراً للكثير من تجارب عمل المحاضر لفتيات في وقائع تحرش تمّت في الشارع، ولم تكن التجربة إيجابية".
وتنهي مجدي حديثها مع رصيف22: "طبعاً تمّت المواجهة بيني وبينه، وكان بعض أفراد عائلته موجودين. حاولوا أن يُقنعوني بالتنازل أو إعطائي مبلغاً من المال مقابله. ولمّا رفضت هاجموني لفظياً وتوعّدوني. ولكن صديقي المحامي هدّدهم بأنهم إن حاولوا الاقتراب مني سوف يسجنهم. فخافوا، وبالفعل أنا أنتظر الآن نزول القضية في جدول المحاكم بعدما تعطّلت بسبب أزمة كورونا".
"بدايتي في 2011"
أحمد رمضان الغباشي (28 عاماً)، مؤسّس مجموعة "حملة مبروك انت متحرش إلكتروني"، وناشط في المجتمع المدني، يحكي أن بداية اهتمامه بقضايا التحرش والعنف "الموجّه على أساس النوع"، بدأ منذ عام 2011.
يقول الغباشي لرصيف22: "في البداية بدأ اهتمامي بالتحرش والعنف الموجّه على أساس النوع الاجتماعي، عام 2011، وكنت حينها طالباً في الجامعة، فانضممتُ لبعض مؤسسات المجتمع المدني المهتمة بالتعامل مع المتحرشين، وحماية الفتيات من التحرش والاعتداء الجنسي خاصة في الأعياد أو التجمعات والتظاهرات السياسية في ميدان التحرير، وغيرها".
وعن طبيعة عمله آنذاك، يقول الغباشي: "كنّا نعمل على محورين؛ أولهما، الجزء التوعوي، وهو محاولة رفع ونشر الوعي تجاه جريمة التحرش. ومحور آخر تأميني، وهو التعامل مع المتحرشين في التجمعات، كما أشرتُ من قبل، ومحاولة تسليمهم للشرطة وإيصال الناجيات لنقاط آمنة متّفق عليها مسبقاً".
حينها لم يكن رمضان يهتمّ بالتحرش الإلكتروني، لأن "الشارع المصري يحدث فيه ما هو أكثر بشاعة". ولكن التحول بدأ في نهايات عام 2013 وبدايات 2014، حيث شهد المجتمع المدني تضييقاً على حركته ونشاطه، أدى إلى حلّ كثير من الكيانات أو تقييد حركتها.
رسائل فشتم فابتزاز
بدأ رمضان الغباشي في عام 2016 يفكر بشأن "مكافحة التحرش على منصّات التواصل الاجتماعي، ودعم الضحايا، ومساندتهم أمام محاولات الوصم الاجتماعي أو التخويف"، وساعده أنه درس هندسة الاتصالات والإلكترونيات.
وعن النمط الذي يتّخذه التحرش الإلكتروني، يقول رمضان: "في البداية كنت أتعجب وأندهش من أنماط التحرش على منصّات التواصل الاجتماعي. ولكن مع الوقت وجدت أن كلَّ شيء غير متوقع أو لا يخطر على بال أحد، يحدث بالفعل، وأن الأمور تتطوّر كلّ فترة. فقد بدأتْ برسائل سبّ وقذف، ثمّ رسائل تهديد وتخويف، ثمّ سرقة الحسابات الشخصية ونشر الصور الخاصة بصاحبتها. وتلا ذلك ابتزازٌ بالصّور والفيديوهات، وفبركتها ونشرها على المواقع الإباحية. ومن ثمّ بدأت موضة جديدة وهي حسابات مزيفة تنتحل صفة أطبّاء أو مراكز تجميل تعتمد على عدم وعي بعض الفتيات، ويطلب أصحابها منهنّ صوراً عارية. ثمّ يتم ابتزازهم بها، ومؤخراً، وجود حالات ابتزاز بين المخطوبين أو المتزوجين حتى، واستغلال الأطفال جنسياً، وكذلك تصوير السيدات في الشوارع بدون علمهن ونشر تلك الصور؛ وهو ما بدأ عام 2016، ولكنه انتشر في الأشهر الأخيرة".
"مكافحو التحرش الإلكتروني يتعرضون لتهديدات متنوعة".
الأمر لم يقتصر على الضحايا فقط، بحسب رمضان، بل يمتدّ التهديد إلى مكافحي التحرش الإلكتروني. يقول رمضان: "تعرضتُ لأنواع مختلفة من الهجوم؛ أحياناً يتمّ سبّي من خلال رسائل الشتائم والتهديد التي تصل أحياناً إلى تهديدي بالقتل، وأحياناً أخرى محاولات لتشويه سمعتي واتهامي بالتحرش. وأحياناً أخرى توجيه الشتائم لأهلي وعائلتي المتواجدين على حسابي الشخصي، وبالطبع سرقة أو غلق حساباتي أو المجموعة القديمة، والتي كان وصل عدد أعضائها إلى نصف مليون. ولكنه لم يكن هجوماً من أجل اللاشيء، فالحملة أنجزت الكثير من هدفها".
"المجتمع المدني مقيّد"
يثمن رمضان من أهمية مكافحة التحرش والابتزاز الإلكتروني، ويرى أنه بشكل عام "المجتمع المدني أو كلّ محاربي ومحاربات التحرش، أصبحت حركتهم مقيدة وشبه منعدمة في الشارع، لذلك فإن الاتجاه نحو النشاط الإلكتروني هو الأفضل حالياً، وأيضاً استغلال منصات التواصل في رفع حالة الوعي تجاه الجرائم الجنسية، وهو ما لا يمكن إنكار جدواه وفائدته، خاصة في ظلّ أزمة كورونا المستمرة منذ 6 أشهر، وما نتج عنها من غياب الخطاب التوعوي في قضايا المرأة".
من جهة أخرى، يشدد رمضان على أهمية الخطاب التوعوي في قضايا المرأة؛ ذلك أن أثر الجرائم الالكترونية كبير، فهناك نساء حاولن الانتحار بسبب الابتزاز، وأخريات تدمرت حيواتهنّ بالكامل.
وعن نتائج الحملة، يقول رمضان: "المجموعة نجحت كثيراً جدّاً في تحقيق أهدافها حتى الآن، ويمكن سرد بعض الحقائق لدعم هذا. فالحملة قدّمت الدعم المباشر لآلاف الفتيات على السوشال ميديا لمواجهة الابتزاز والتحرش. شجعنا المئات على تحرير محاضر في مباحث الإنترنت وساعدنا في توفير المحامين، كما قمنا بإيصالهم بمؤسسات الدعم النفسي. تمّ إغلاق مئات الصفحات والمجموعات وآلاف الحسابات التي كانت تمارس الابتزاز أو التحرش أو مضايقات للفتيات، ولازلنا مستمرّين".
"يهدّدوننا لدفاعنا عن المرأة"
قرر الشاب أمير عيد تأسيس مجموعة في نهاية مايو الماضي بمفرده، حيث لم يجد من يشاركه الفكرة، يقول: "كنت أعمل بشكل فرديّ أو ضمن مجموعات أخرى منذ ثلاث سنين ونصف تقريبًا. ثمّ قررت تأسيس المجموعة في نهاية مايو الماضي. وبالطّبع كان العدد صغيراً، وبدأنا بمحادثة جماعية على الماسنجر. ثم انتقلنا إلى مجموعة على الفيسبوك، وبدأتْ تكبر تدريجياً".
وتعرَّض عيد هو الآخر للهجوم، ويشرح ذلك قائلاً لرصيف22: "كلّ نشاط يهتم بالمرأة وحقوقها يجعلكم مرمى للهجوم. ففي الفترة السابقة اضطررتُ لإيقاف نشاط المجموعة، بعدما شننتُ أنا وزملائي هجوماً على إحدى المجموعات التي تهدّد وتبتزّ الفتيات. المثير هنا أن المجموعة قائمة على تهديد الفتيات اللواتي يمزحن في مجموعات خاصة بهن ببعض الجرأة، أو يتبادلن أحاديث جنسية أو غيره. في المقابل مجموعة من الشباب نصبوا أنفسهم كآلهة تحاكم تلك الفتيات وتريد تأديبهن. وبالطبع، اكتشفنا مجموعة من المتلصّصين في المجموعة، وهو ما أدّى إلى شنّ هجمة من البلاغات على حسابي الشخصي لإغلاقه، وهجوم بالشتائم والسبّ. فرددت على الهجوم بهجوم مضادّ، واستمررتُ في تقديم البلاغات لإدارة الفيسبوك، حتى نجحتُ في إغلاقه بعد عدة أيام. طبعاً أول خطوة اتخذتُها بعد زوال هذا التهديد، هو إرجاع مجموعة "بلاغات" للعمل".
ويكمل أمير: "أنا مؤمن بأن ما نفعله ذو أهمية كبرى، ولكنه يبقى غيرَ كافٍ، لأن التحرش والابتزاز لازالا موجوديْن على أرض الواقع وبكثافة. وكذلك على منصات التواصل الاجتماعي، لا يقتصر وجودهما على الفيسبوك فقط، وإنما يوجدان في تلغرام وتويتر، وغيرها من المواقع والمنصات. لذلك لا بدّ من إنفاذ يد القانون، وأن تتدخل الدولة بالقبض عليهم وملاحقتهم، خاصة وأننا نجحنا في إغلاق مجموعات كبيرة وصفحات عليها آلاف المتابعين. ولكن لازالت الظاهرة مستمرة، وكلما أغلقنا حساباً يُفتح آخر مكانَه".
"كلّ نشاط يهتم بالمرأة وحقوقها يجعلكم مرمى للهجوم، ففي الفترة السابقة اضطررتُ لإيقاف نشاط المجموعة المكافحة للتحرش، بعدما شننتُ أنا وزملائي هجوماً على إحدى المجموعات التي تهدّد وتبتزّ الفتيات"
أما عن الخطط التي يحاول أن يعمل عليها عيد، فيقول: "نحاول إيصال القضية لصحفيين وإعلاميين ومحامين، ليصل صوتنا بالتالي إلى الدولة والأجهزة الأمنية، خاصة وأنها قادرة على تتبع مواقعهم ونقاط نشر وانطلاق تلك الصفحات والحسابات عن طريق مباحث الإنترنت، وتعديل ما يتطلبه تقديم البلاغ إلى أن صاحبة الصورة المنشورة هي التي يحقّ لها تقديم البلاغ، خاصة في حالة نشر صور تمّ التقاطها للنساء في الشوارع ودون علمهنّ".
ويذكر أن مصر فعَّلت قانون مكافحة الجرائم الإلكترونية، في نهاية عام 2018، بعدما أقرّه مجلس النواب في شهر يونيو من نفس العام.
وفي نهاية 2019، نشرت لجنة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، دراسةً أجرتها اللجنة البرلمانية، والتي كشفت عن أن شهريْ سبتمبر وأكتوبر شهدا تقديم 1038 بلاغاً بجرائم إلكترونية. نجحت وزارة الداخلية في ضبط غالبية المتهمين في هذه الجرائم حتى الآن، لافتة إلى أن الأيام العشرة الأخيرة في شهر أكتوبر شهدت بمفردها وقوع 365 جريمة إلكترونية، ومؤكدة على أن وزارة الداخلية المصرية ألقت في نفس الفترة المستهدفة في الدراسة، على 300 متهم في جرائم إلكترونية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ 17 ساعةtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...