هنا حيث الضحكات الصابحة رغم كل الظروف، والقلوب الطازجة التي لم تعرف العطب بعد، هنا مبدعات يحملن أحلامهن، وينسجن بها تابلوهات تصلح للعرض في أشهر المعارض الفنية.
بدأت الحكاية، كما يرويها أغلب أهالي القرية، في الخمسينيات من القرن الماضي، حين قرر الفنان رمسيس ويصا واصف، أن ينقل إلى القرية فنه وخلاصة تجربته، فأقام مركز الفنون المحلية، الذي تحول فيما بعد إلى مدرسة يتخرج منها سنوياً عشرات المبدعين.
في البداية، منح ويصا الأطفال الصغار أنوالاً صغيرة، وعدداً قليلاً من الخيوط، وبمرور الوقت، وحين كبر هؤلاء وكبر معهم حماسهم وشغفهم، انطلقوا إلى الأنوال الكبيرة، ليكوّنوا اللبنة الأولى في مشروع تحويل الحرانية إلى أحد أهم مراكز صناعة السجاد اليدوي في مصر والمنطقة.
هنا تبقى النساء في صدارة المشهد. صحيح أن الرجال حاضرون، لكن الغالبية منهم يبقي نشاطه محصوراً في عمليات تجهيز الخيوط وصباغتها بالأعشاب الطبيعية.
"أجمل ما في مهنتي المواعيد"
على مقعد صغير شبه بال، تجلس صفاء التي تجاوزت الأربعين بقليل، بأدواتها البسيطة: "مشط وصوف، ومقص، وخيوط بصبغات مختلفة الألوان"، وأمامها "النول". تخبرك أولاً أن النول ينقسم إلى "أفقي" و"رأسي"، حسب الاستخدام، وبه طبقتان من القطن، إحداهما أمامية وتسمى "النيل" وتسمى الخلفية "السدى"، أما ما يفصل بينهما فقطعة خشبية صغيرة.
"زوجي من بلد جنبا، وكان في البداية مش عايزني أشتغل في السجاد لأن الشغل متعب ومرهق، بس أنا اشترطت عليه أنى هكمل الشغل يا أما مفيش جواز"
تروى صفاء لرصيف22، حكايتها مع صناعة السجاد، تقول: "تعلمت المهنة هنا في حوالي عام ونصف، ورغم إني كنت رافضة خوض التجربة، لكن أمام إصرار إحدى جاراتي، وافقت وبدأت أتعلم، وواحدة واحدة أصبحت متمكنة جدا، ومن أسرع البنات في القرية كلها".
تضيف: "الميزة هنا إني لست مرتبطة بوقت، لست مضطرة أن أبدأ في وقت معين أو أمشي في وقت معين، ودي حاجة ريحتني جداً، لأن عندي طفل صغير، وأنا مطلقة، ومش هقدر أجي بيه هنا كل يوم، أنا أحياناً ممكن أجي في اليوم أكثر من مرة، وأرجع البيت أشوف طلبات الأولاد وأذاكر لهم، أو أخلص مشاويري وأرجع تاني".
ومن صفاء إلى الحاجة أم محمد (52 عاماً)، تحكي تجربتها لرصيف22: "أعمل في هذه المهنة منذ سنوات طويلة، وقد ورثتها عن أمي التي كانت تصطحبني معها في الصغر إلى هنا لتعلم أصول الصنعة، وكانت بتديني الخيط وأنا أقعد أجرب فيه لحد ما اتعلمت وبدأت أشتغل معاها".
تضيف: "في المركز تعرفت على زوجي، وبعد فترة قررنا أن نستقل بعملنا، فبعد العودة من المركز نبقى أنا وهو نحو 5 ساعات في الغرفة التي خصصناها في منزلنا وأقمنا بها 3 أنوال".
تتابع صفاء لرصيف22: "في البيت نعمل على إنتاج سجاد خاص بنا، وابني الكبير خريج كلية حسابات ومعلومات، أنشأ لنا صفحة على النت لتسويق السجاد، والحمد لله اللى بيجي بيساعدنا على المعيشة لأني عندي 5 أولاد كلها في مراحل التعليم، وطبعاً إلى جانب دراستهم هما كمان بيساعدونا في الشغل من الألف للياء".وتروى أميمة (49 عاماً)، حكايتها وتقول: "أنا روحت معرض برة في فرنسا قبل كده، والناس هناك كانت مبهورة، صحيح مكنتش فاهمة هما بيقولوا إيه لكن كان باين على وشوشهم إنه عاجبهم شغلنا".
سألناها عما إذا كانت تستعين بدليل ما شابه لرسم اللوحات، فقالت: "مفيش لوحات أو صور بنرسم منها، إحنا في المدرسة اتعلمنا إزاي نتعامل مع النول وإزاي ننسج، ونوزع الخيوط طول وعرض عشان الغرز تبقى مظبوطة وسليمة، لكن إحنا بنرسم من خيالنا ودماغنا، وعشان كده مش هتلاقى رسمة واحدة هنا تشبه التانية، ممكن ابدأ اللوحة وأنا في دماغي تفاصيل معينة، لكن بما إني بشتغل في السجادة من شهرين لـ 6 وممكن كمان سنة أو يزيد، فممكن كل يوم أضيف تفاصيل جديدة".
تتابع: "إحنا اللي بنختار الألوان اللي بننسج بيها الشغل، ممكن نتشاور مع بعض أو مع المسؤولين عن المركز، لكن في النهاية كل واحدة شغلها مختلف عن الباقيين".بعض النساء لا يحبذن مهنة صناعة السجاد، مثل أميمة، متزوجة من مزارع، وهي أم لبنتين وولد، وجميعهم لا يفضلون العمل في تلك المهنة كونها شاقة، وهي أيضاً لا تحبذ الضغط عليهم في أمر كهذا: "كل واحد بينام على الجنب اللي يريحه".
كعازف بيانو متمكن يعرف جيداً أين يضع أصابعه دون نشاز، تجلس أم حبيبة، 39 عاماً، في أحد الأركان بالمركز، تحكي دون أن تحيد عن عيون محدثها، ودون أن تتوقف عن العمل أيضاً.
"أنا حافظة كل مكان في النول ومستعدة أرسمه وأنا مغمضة، وعشان كده ممكن أشتغل فترة كبيرة من غير ما أبص على النول".
تكمل: "أهم حاجة تعلمتها هنا إني أول ما أدخل لازم أفصل نفسي عن العالم اللي برة، لازم أكون مركزة جداً، عشان لو سرحت شوية وغلطت، هضطر أفك اللي عملته وأبدأ من جديد، وطبعا ده هياخد وقت".
تتابع لرصيف22: "زوجي من بلد جنبا، وكان في البداية مش عايزني أشتغل في السجاد لأن الشغل متعب ومرهق، بس أنا اشترطت عليه أنى هكمل الشغل يا أما مفيش جواز، وفعلا كملت، وحاولت أكثر من مرة أقنعه بالشغل معي، لكنه رفض وأصر على أن يكمل في مهنته كـفني كهربائي، قال لي شغلتي بتكسب أكثر منك".في الزاوية الأخرى المقابلة لأم حبيبة، تجلس أم نعيم وسط زميلاتها، الكل هنا يتحدث إليها وعنها، يستشيرها في كل شيء حتى في أدق التفاصيل الخاصة بالحياة والعمل وحتى مقادير الأكلات.
اعتادت أم نعيم (59 عاماً)، أن تعمل على وقع تلاوة الشيخ الطبلاوي، لا تفضل سواه، ولذلك جلبت كل الشرائط الخاصة به ومشغل كاسيت صغير لا يفارقها، وحين مر الزمن وترك الدهر آثاره على تلك الشرائط، ومشغل الكاسيت لم يعد يعمل، أصرت على الاحتفاظ به كذكرى من والدها، قررت إحدى العاملات الشابات أن تأتي لها بقراءات الطبلاوي كاملة على فلاشة، وسماعة حديثة لتستمع إليه يومياً.
تقول أم نعيم: "البنات دي بتحب تشغل في وقت الراحة أغاني عشان ترفه عن نفسها، أنا بقى وقتها باخد نفسي وأطلع برة في الجنينة عشان مش عايزه أضايقهم، أنا مش حابه أغاني اليومين دول، كلها دوشة على الفاضي، مفيش أحسن من أغاني الست أم كلثوم وفايزة أحمد".
تتابع: "أنا وأولادي الاتنين، أمل 23 سنة، دبلوم فني، ونعيم 27 سنة، دبلوم زراعي، بنتعامل مع المركز ومع مصنع لنسيج السجاد في آخر القرية، ومن بعد وفاة زوجي، قررت أن أربى أولادي من العمل بالسجاد، وهما بيساعدوني، لأن طبعاً سني كبر، والسجادة الواحدة ممكن تاخد منه شغل 3 شهور، المركز بيتولى التسويق مقابل مبلغ من المال لنا".وعن أبرز المشاكل التي تواجهها والعاملات بتلك المهنة، قالت: "السجادة الواحدة بتحتاج وقت طويل وشغل كتير ومجهود جبار، ده طبعاً غير القعدة اللي بنقعدها واللي بتعمل لأغلبنا مشاكل في الفقرات، بس كل ده بيهون أول ما الواحدة بتخلص أخر عقدة في السجادة وتكتب عليها اسمها".
وأنهت أم نعيم حديثها قائلة: "زي ما بنعمل كلنا، برسم من اللي بشوفه في الطبيعة، قطط، جمال، ترعة، زرع، والمشكلة اللي بواجهها لما باجى أكتب كلام على السجاد لإني مش بعرف أكتب ولا أقرأ، فبطلب من حد هنا من البنات إنها تكتب لي الكلام على ورقة بخط كبير وبرسمها على السجاد".
"برسم من اللي بشوفه في الطبيعة، قطط، جمال، ترعة، زرع، والمشكلة اللي بواجهها لما باجى أكتب كلام على السجاد لإني مش بعرف أكتب ولا أقرأ"
يقول أحمد كامل، أحد المسؤولين بالمركز: "من اليوم الأول الذي جاء فيه الأستاذ ويصا إلى هنا، قرر الاعتماد على الطبيعة، وهو نفس النهج الذي مضي عليه أبناؤه بعد وفاته. فزرعنا نباتات طبية لنستخرج منها الصبغات ونصبغ بها صوف الأغنام، في مصابغ خاصة أقمناها هنا في القرية".
وتابع كامل لرصيف22: "الصباغات المنتشرة والمطلوبة من الزبائن، عادة ما ترتكز على ألوان الأسود والبنى والأوف وايت، وعن طريق زهور، مثل الفوة، والكونشيل والرزيدا لبتيولا وشجر عين الجمل وغيرها من الأعشاب، يتم تحويل الصوف لألوان الأحمر، الأزرق بدرجاته، الاصفر وغيرها، وغير أن هذه الصبغات غير ضارة، فهي تبقى لفترة طويلة جداً على السجادة، لأنها طبيعية مش صناعية زي أغلب السجاد اللي موجود في السوق"."كل حاجة بنستخدمها هنا من الألياف الطبيعية وده اللي بيخلي سعر السجاد غالي، إن مفيش فيه أي حاجة صناعية وده بيخليها تعيش أكثر، أما مسألة تحديد سعر السجادة فتخضع لعدة عوامل، أهمها صعوبة الرسمة المنقوشة على السجادة، وكثرة الألوان المستخدمة فيها".
وعن الخطوات التي تمر بها السجادة حتى تخرج في صورتها النهائية، يقول كامل: "في البداية يتم تسخين الخيوط المستخدمة لفترة طويلة، وبعدها يتم تلوينها بالألوان الطبيعية، وكل شغلنا إما صوف أو حرير، وعلى حسب المقاس، ممكن سجادة تخلص في شهر أو في سنتين، وكل سنة بنشارك في معارض مختلفة في أوروبا وأمريكا".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...