للشهر الثالث على التوالي، تعيش أم عمرو، وغيرها من عاملات المنازل في مصر، مأساة حقيقية بعد فرض الحظر جراء انتشار فيروس كورونا، وانقطاع الدخل الشهري المعتاد مع منع أصحاب المنازل لهن من الدخول إلى بيوتهم خوفاً من العدوى.
منذ ذلك الوقت تعتمد أم عمرو وأبناؤها الثلاثة على الإعانات، نظراً لطبيعة العمل المؤقتة التي لا تلزم صاحب العمل بتأمين راتب أو مكافأة تمكنهن من العيش الكريم وقت الأزمات أو في حال إنهاء الخدمة، لكن هذه الإعانات لا تكفي احتياجات الأسرة في ظل غياب الدخل الأساسي المعتاد.
وتعمل أم عمرو في الخدمة المنزلية منذ 25 عاماً، ومن خلال حديثها لرصيف22، أكدت أنها اتجهت لهذه المهنة لمساعدة زوجها الذي كان يعمل حارس عقار، إلا أن العمل تضاعف بعد وفاته منذ خمسة عشر عاماً، فأصبح فرضاً عليها قضاء معظم ساعات اليوم خارج المنزل بحثاً عن الرزق.
والعمل في الخدمة المنزلية هو بمثابة طوق النجاة للأسر التي فقدت عائلها، سواء بالطلاق، الوفاة، السجن، الزواج بامرأة أخرى وهجر المنزل. ووفق دراسة ميدانية صدرت عام 2010 بعنوان "عاملات المنازل في مصر، الخصائص والمشكلات" من قبل مؤسسة الشهاب للتطوير والتنمية والجمعية المصرية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وهيئة الأمم المتحدة للمساواة بين الجنسين، تعتمد 87.5% من أسر العاملات على دخلهن بشكل رئيسي.
كان نظام اليومية هو الأنسب لأم عمرو من الإقامة بأحد المنازل لكي تتمكن من مهامها المنزلية ورعاية أبنائها، وتقول السيدة الخمسينية: "أحصل في اليوم على 150 أو 250 جنيه على الأكثر (بين 10 و15 دولاراً)، ولجني المزيد يتوجب العمل لساعات طويلة قد تصل إلى 14 ساعة يومياً، أو الاستغناء عن الراحة الأسبوعية".
وفيما يتعلق بأزمة كورونا تقول أم عمرو: "الناس منعتنا من دخول البيوت خوفاً من العدوى، وانقطع الدخل نهائياً لنعيش معاناة كبيرة في ظل هذا الوضع".
"الناس منعتنا من دخول البيوت خوفاً من العدوى، وانقطع الدخل نهائياً لنعيش معاناة كبيرة في ظل هذا الوضع".
وصم اجتماعي
يقصد بعاملات المنازل ومن في حكمهم، العمال الذين يقومون بخدمات خاصة في المنازل ويخصصون لأعمال تتصل بشخص صاحب العمل أو بأشخاص ذويه، كالطباخين والمربيات والمرضعات.
وتشير تقديرات منظمة العمل الدولية إلى أن عدد عمال المنازل يبلغ 53 مليون شخص على مستوى العالم، تشكل النساء منهم 83%، وفي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يوجد 2.1 مليون عامل منزلي.
ولا تتمتع عاملات المنازل في مصر –وعددهن غير محدد بأرقام رسمية- بأي مظلة تشريعية تحميهن وتضمن لهن حقوقهن، حيث استُبعدن من قانون العمل المصري رقم 12 لسنة 2003، والذي تنصّ مادته الرابعة على أنه "لا تسري أحكام هذا القانون على العاملين بأجهزة الدولة، بما في ذلك وحدات الإدارة المحلية والهيئات العامة، عمال الخدمة المنزلية ومن في حكمهم، أفراد أسرة صاحب العمل الذين يعولهم فعلاً، ما لم يرد نص على خلاف ذلك".
اضطرت سهام محمود (اسم مستعار) للعمل سرّاً بالخدمة المنزلية بعد وفاة زوجها، وواجهت في البداية معارضة شديدة من ولديها الجامعيين، موضحة أن العمل بالمنازل موصوم مجتمعياً ويعتبره البعض مهنة غير شريفة.
وأوضحت سهام، 40 عاماً، لرصيف22 أنها كغيرها لا تعمل في ظل ظروف إنسانية ويتم "مصّ دمائها" لآخر قطرة، فهي تعمل منذ 10 سنوات بدون راحة تقريباً، ما أثر عليها صحياً، حيث تعاني من انزلاق غضروفي وآلام متفرقة بالجسم.
وترى سهام أن الحل الوحيد لتحسين وضعها هو وجود علاقة عمل حقيقية بعقود موثقة، ومهام عمل محددة ترحمها من استعباد صاحب العمل وبإشراف حقيقي من الدولة.
مخاطر أثناء العمل
منذ أكثر من 15 عاماً تركت سعاد المصرية (اسم مستعار) دراستها الإعدادية للعمل في المنازل بأجر زهيد لا يساوي إطلاقاً الجهد المبذول في العمل. تعرفتُ على سعاد بإحدى الجمعيات المعنية بحقوق النساء، أثناء تلقيها دورات تدريبية بهدف تغيير واقعها المؤلم.
نظرة المجتمع لمهنة عاملات المنازل لا تهم سعاد أبداً، فكل ما يشغلها هو إيجاد فرصة للراحة والعيش الكريم في ظل ظروف عمل أقل قسوة، مشيرة إلى المخاطر التي تتعرض لها عند تنظيف الشبابيك أو الانزلاق على الأرض وغيرها من إصابات العمل.
وذكرت دراسة أعدها مركز دراسات اللاجئين والهجرة بالجامعة الأمريكية عام 2011، أن عاملات المنازل اللاتي تقل أعمارهن عن 16 عاماً أكثر عرضة للمخاطر، وأكدت أن الفقر يعدّ السبب الرئيسي وراء عمل الفتيات في الخدمة المنزلية، موضحة أن الأسر الأكثر فقراً والتي لديها مصادر "شحيحة" هي الأكثر إرسالاً لبناتها للعمل في المنازل، مقارنة بالأسر التي لديها دخل ثابت.
ووفق دراسة للجمعية المصرية للنهوض بالمشاركة المجتمعية، صدرت عام 2012 بعنوان "عاملات المنازل... أي حماية"، تتعرض ثلث العاملات لجروح قطعية أو حروق أو حوادث كسر باليد أو الرجل، في حين تتحمل 29% فقط من الأسر المشغّلة علاج هذه الحوادث بالكامل.
أوضحت سهام، 40 عاماً، لرصيف22 أنها كغيرها لا تعمل في ظل ظروف إنسانية ويتم "مصّ دمائها" لآخر قطرة، فهي تعمل منذ 10 سنوات بدون راحة تقريباً، ما أثر عليها صحياً، حيث تعاني من انزلاق غضروفي وآلام متفرقة بالجسم
حقوق ضائعة
لم يلتفت أصحاب المنازل لحقوق العاملات، ومعظمهم يرى أن الدولة هي المسؤولة عن حقوقهن، ومنهم هايدي سعد، التي تعتمد على مكاتب التخديم في جلب العاملات، وهي طريقة تعتبرها مضمونة رغم أنها أكثر كلفة.
وبسؤالها اكتشفنا أن هايدي لا تعلم شيئاً عن حقوق عاملات المنازل ولم تسمع عن قوانين تنظم عملهن، موضحة أن المسؤول عن حقوقهن في التأمين الصحي أو المعاش هو المكتب وليس صاحب المنزل، خاصة أن العاملات يتغيرن باستمرار.
لكن فتحية مصطفى، وهي صاحبة منزل في السبعين من عمرها، تصر على إعطاء العاملة أجرها كاملاً في حالة العجز أو المرض، وفي ظل جائحة كورونا، وفي الوقت ذاته، لم تبدِ رغبتها في التأمين عليها، مقابل حسن معاملتها والإغداق عليها في المناسبات والأعياد.
غياب القانون
استثناء عاملات المنازل من مظلة القوانين ليس أمراً مستحدثاً، فقد نصّ قانون عقد العمل الفردي رقم 41 لسنة 1944، ومن بعده المرسوم بالقانون رقم 317 لسنة 1952 على نفس الاستثناء، وقد بررت المذكرة الإيضاحية للمرسوم ذلك بقولها إن "عمل الخدم ذو صلة بمخدوميهم ما يمكنهم من الاطلاع على أسرارهم وشؤونهم الخاصة الأمر الذي يتطلب وضع قانون خاص بهم".
ورغم مرور أكثر من نصف قرن على المرسوم المشار إليه، لم يصدر المشرع حتى الآن أي قانون ينظم شؤون هذه الفئة من العمال، وربما كان ذلك لصعوبة مراقبة تنفيذه من الناحية العملية.
وهناك قصة لهذا الحرمان يقف خلفها الباشوات قبل قيام ثورة يوليو 1952، كما تتحدث الباحثة النسوية، منى عزت، لرصيف22، فهم من كانوا يستقدمون العمالة المنزلية من الريف، وفي هذه الخطوة استجاب عبد الرزاق السنهوري باشا، الذي شغل منصب رئيس مجلس الدولة من عام 1949 حتى 1954، لرغبة الباشوات خوفاً من إيجاد آلية للرقابة عليهم وهم أرباب العمل، ورصد الانتهاكات التي تتعرض لها العاملات.
وفسّرت عزت وجهة نظر السنهوري باشا الذي كان صائغاً للقوانين وقتها، موضحة أن العمالة المنزلية كانت عند كبار العائلات الباشوات، ولا يجوز دخول منازلهم والتفتيش عليهم.
وأدى استبعاد عاملات المنازل من قانون العمل إلى حرمانهن من حقوق كثيرة، أهمها الحق في التقاعد بسن الستين، الأجر العادل، التعاقد الذي تتحدد فيه ساعات ومهام العمل وتوفير شروط السلامة والصحة المهنية من خلال التفتيش على المنازل.
إضافة لذلك، تتحمل العاملة إصابات العمل على اختلافها، وهذا يكلفها أكثر مما تتقاضى، وينطبق ذلك الحال على المصابات بفيروس كورونا، وعدد كبير منهن فقد عمله، أو يعمل تحت خطر التقاط العدوى.
ضحايا الاستغلال
وفي حديث لرصيف22، يقول المحامي الحقوقي، أحمد أبو المجد: "في الغالب، تعمل العاملة المقيمة لساعات طويلة تصل إلى 14 ساعة، كما تُستغل العاملة باليومية لأداء أكبر قدر من المهام في وقت قياسي، من تنظيف وطبخ وشراء احتياجات المنزل".
ويضيف أن أغلب المقيمات قاصرات ومتسربات من التعليم، وقسم كبير منهن ضحايا جريمة اتجار بالبشر من قبل الأب أو الجد.
ويرى أن المهام المطلوبة منهن تؤثر على صحتهن وسلامتهن ونموهن، هذا بخلاف العنف الذي يتعرضن له من أصحاب البيوت، والذي يصل أحياناً للتحرش أو الاغتصاب.
"أزمة كورونا زادت من معاناة عاملات المنازل لأن أغلب البيوت طردت العاملات، وبعضهم رفض إعطاء إجازة لثلاث شهور بالنسبة للعاملات المقيمات خوفاً من العدوى"، وفق تصريحات أبو المجد.
منذ سنوات طويلة تعمل جمعيات وناشطون حقوقيون في مصر للدفاع عن حقوق عاملات المنازل. واستطاعت 300 عاملة منزلية عام 2012 تنظيم أنفسهن بمساعدة "الجمعية المصرية للنهوض بالمشاركة المجتمعية"، فأسسن أول نقابة مستقلة لعاملات المنازل بمصر، لكنها لم تستمر لوقت طويل لصعوبة التنظيم
جهود مدنية
منذ سنوات طويلة تعمل جمعيات وناشطون حقوقيون في مصر للدفاع عن حقوق عاملات المنازل. على سبيل المثال، استطاعت 300 عاملة منزلية عام 2012 تنظيم أنفسهن بمساعدة "الجمعية المصرية للنهوض بالمشاركة المجتمعية"، فأسسن أول نقابة مستقلة لعاملات المنازل بمصر، لكنها لم تستمر لوقت طويل لصعوبة التنظيم.
وعام 2018 أعلنت الدكتورة مايا مرسي، رئيسة المجلس القومي للمرأة، عن إعداد مشروع قانون لعاملات المنازل، الأمر الذي توافق مع مطالب منظمات المجتمع المدني المعنية بحقوق النساء، بضرورة إصدار تشريع يحمي حقوق العمالة المنزلية، والمشروع لا زال قيد الدراسة.
ونفذت الجمعية المصرية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية مشروع "حقي وحقك" بين العامين 2012 و2015، استهدف تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والنفسية لعاملات المنازل، ودرّبت 500 عاملة من القاهرة الكبرى في مهن متخصصة، مثل رعاية الأطفال ورعاية المسنين والطبخ، لتمكينهن من الحصول على فرص عمل أفضل.
وتقول زينب خير، عضو الجمعية المصرية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، لرصيف22: "عملنا على قضية عاملات المنازل منذ عام 2010 لوضعها على طاولة المسؤولين، لكن للأسف مرت 10 سنوات دون تغيير"، موضحة أن قانون العمل مازال يستثنيهن من مظلته فتزداد أحوالهن سوءاً، ولا يتمتعن بظروف عمل لائقة.
وتوضح خير أن عاملات المنازل يسهل استغلالهن بشكل كبير، سواء من أصحاب العمل أو من مكاتب التخديم التي تعمل بشكل غير قانوني، "لذا نعمل على الضغط من أجل تعديل تشريعي لإلغاء استثناء عاملات المنازل من قانون العمل".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت